سورة الحجر تفسير مجالس النور الآية 32

قَالَ یَـٰۤإِبۡلِیسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ ٱلسَّـٰجِدِینَ ﴿٣٢﴾

تفسير مجالس النور سورة الحجر

المجلس الثامن بعد المائة: معركة الإنسان مع الشيطان


من الآية (26- 50)


تناول هذا المقطع قصة الخلق الأولى؛ خلق الإنسان، وهي القصة التي تكررت في القرآن كثيرًا، وهنا يعرضها القرآن مؤكِّدًا طبيعة الصراع الأزلي بين الخير والشرِّ وضمن المفاهيم والمعاني الآتية:
أولًا: أن طبيعة الإنسان طبيعة مختلفة عن المخلوقين الآخرين؛ الجن والملائكة، وإن اجتمعوا في صفة العقل، ومؤهِّلات التكليف ﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ مِن صَلۡصَـٰلࣲ مِّنۡ حَمَإࣲ مَّسۡنُونࣲ ﴿٢٦﴾ وَٱلۡجَاۤنَّ خَلَقۡنَـٰهُ مِن قَبۡلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ ﴿٢٧﴾ وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی خَـٰلِقُۢ بَشَرࣰا مِّن صَلۡصَـٰلࣲ مِّنۡ حَمَإࣲ مَّسۡنُونࣲ﴾ والآيات تؤكِّد أيضًا أن خلق الإنسان متأخرٌ من حيث الزمن عن نظيرَيْه.
ثانيًا: أن الله أمر الملائكة ومعهم إبليس - وكان من الجن - بالسجود لآدم، فسجَدَت الملائكة ورفض إبليس، فطبيعة خلقه قابلة للزلل والوقوع في المعصية بخلاف الملائكة.
ثالثًا: أن رفض السجود لم يكن في الحقيقة إلا مظهرًا لمعصية خفيَّة، وهي التكبُّر الممزوج بالحسد ﴿قَالَ لَمۡ أَكُن لِّأَسۡجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقۡتَهُۥ مِن صَلۡصَـٰلࣲ مِّنۡ حَمَإࣲ مَّسۡنُونࣲ﴾ وهذا درسٌ بليغٌ لبني آدم ليحذَروا الآثام الباطنة التي هي أخطر من الآثام الظاهرة.
رابعًا: أن تزيين الباطل هو الأسلوب الذي انتَهَجَه الشيطان لإغواء بني آدم ﴿قَالَ رَبِّ بِمَاۤ أَغۡوَیۡتَنِی لَأُزَیِّنَنَّ لَهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾.
خامسًا: أن الإنسان كلما اقتَرَبَ من عبادة الله ابتَعَدَ عن تأثير وساوس الشيطان ﴿إِنَّ عِبَادِی لَیۡسَ لَكَ عَلَیۡهِمۡ سُلۡطَـٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡغَاوِینَ﴾.
سادسًا: أن نتيجة هذا الصراع ستقسِم الناس إلى فريقَين: فريق الغاوين ﴿إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡغَاوِینَ ﴿٤٢﴾ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوۡعِدُهُمۡ أَجۡمَعِینَ﴾، وفريق المتقين ﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِینَ فِی جَنَّـٰتࣲ وَعُیُونٍ ﴿٤٥﴾ ٱدۡخُلُوهَا بِسَلَـٰمٍ ءَامِنِینَ﴾.
سابعًا: أن باب التوبة والمغفرة مفتوحٌ لهذا الإنسان المعرَّض بحكم طبيعة خلقه للنِّسيَان والغفلة والشَّطَط ﴿۞ نَبِّئۡ عِبَادِیۤ أَنِّیۤ أَنَا ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِیمُ﴾.


﴿صَلۡصَـٰلࣲ مِّنۡ حَمَإࣲ مَّسۡنُونࣲ﴾ المادة التي صُنع منها جسد آدم عليه السلام، وهي الطين اليابس الناعم، أو الأملس الصقيل.
﴿مِن رُّوحِی﴾ الروح التي خلقها الله، والإضافة هنا للتشريف، كما نقول: بيت الله، وسماء الله.
﴿قَالَ رَبِّ بِمَاۤ أَغۡوَیۡتَنِی﴾ نسب الغواية إلى خالقه سبحانه، وهذا من سوء أدبه، وهو نوعٌ من الاحتجاج القدري الباطل، فالقدر لا يظلم أحدًا، وإنما هو سنن الله الماضية بعلمه وعدله وحكمته، والمخلوق هو من يختار الهداية أو الضلالة فيهتدي أو يضلُّ، وحاشا لله أن يُكرِه أحدًا على شيءٍ ثم يعاقبه عليه.
وقد ردَّ إبليس على نفسه حينما قال بعد هذا: ﴿وَلَأُغۡوِیَنَّهُمۡ﴾ فنَسَبَ القدرة على الإغواء لنفسه، وهذا هو دَيدَنُ أهل الباطل؛ فإنهم يُفاخِرون بقوَّتهم وسُلطانهم ويتعالَون بهما على الضعفاء، فإذا تغيَّرَت الأحوال ووقَعُوا في المَلامَة احتجُّوا بالقَدَر، وقالوا: لو شاء الله ما فعَلنا ذلك!
﴿قَالَ هَـٰذَا صِرَ ٰ⁠طٌ عَلَیَّ مُسۡتَقِیمٌ﴾ ردَّ الله تعالى على إبليس أن جميع الخلق محكومون بنظامٍ واحدٍ، ويُحاسَبون بميزانٍ واحدٍ، وهو مُقتضى الصراط المستقيم الذي اختارَه الله معيارًا لسلوك المكلَّفين، وفَيصلًا للتمايُز فيما بينهم.
﴿إِنَّ عِبَادِی لَیۡسَ لَكَ عَلَیۡهِمۡ سُلۡطَـٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ﴾ تأكيد مسؤولية الإنسان عن أفعاله، وأن الله لم يسلب حقَّ الاختيار من عباده المكلَّفين، ولم يسلِّط عليهم من ينزع عنهم هذا الحقَّ، فالإنسان هو من يختارُ الخضوعَ لله، أو الخضوعَ للشيطان.
﴿وَنَزَعۡنَا مَا فِی صُدُورِهِم مِّنۡ غِلٍّ﴾ إتمام لنعمة الله عليهم، وفيه أن الاختلاف من طبع البشر حتى الصالحين منهم، وقد يجُرُّ هذا الاختلاف شيئًا من العداوة والبغضاء، لكن العبرة بغلبة الطاعات، فإذا دخلوا الجنة تكفَّلَ الله بنَزع ما يُعكِّر صفوَ الوداد فيما بينهم، وفيه ترغيبٌ خفيٌّ للتغافُر، فالمؤمنون الذين يرجُون الجنة، عليهم أن يعلموا أن الجنة ليس فيها شحناء ولا بغضاء، فليُبادِرُوا بتطهير قلوبهم من هذه الكدُورات قبل مواجهتها هناك على باب الجنة!