سورة الكهف تفسير مجالس النور الآية 38

لَّـٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّی وَلَاۤ أُشۡرِكُ بِرَبِّیۤ أَحَدࣰا ﴿٣٨﴾

تفسير مجالس النور سورة الكهف

المجلس الخامس والعشرون بعد المائة: قصة المؤمن مع صاحبه الكافر


من الآية (29- 49)


بعد الصورة التي عرَضَها القرآن الكريم لنموذج من الصراع بين فريقَي الحقِّ والباطل، يعرض القرآن هنا صورةً لنموذج آخر يُلامِسُ خوالِجَ النفوس، والنظرة المختلفة لهذا الكون والحياة، ومعايير السعادة والشقاء، في حوار ثنائيٍّ هادئ إلى حدٍّ كبيرٍ، فلا يظهر فيه ذلك الصخب، وتلك الحركة المليئة بالحيويَّة والمفاجآت مما رأيناه في قصة الكهف، ويمكن رسم معالم القصة الجديدة كما يأتي:
أولًا: قدَّم القرآن لهذه القصَّة بتأكيد قواعد المفاصلة بين الحقِّ والباطل وبما يشبه حلقة الوصل بين القصة الأولى والقصة الثانية ﴿وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَاۤءَ فَلۡیُؤۡمِن وَمَن شَاۤءَ فَلۡیَكۡفُرۡۚ﴾ فهنا طريقٌ للحقّ وآخر للباطل، والإنسان مخيّرٌ بينهما بلا إجبارٍ ولا إكراهٍ، وهو يتحمل مسؤوليته الكاملة في هذا الخيار ﴿إِنَّـاۤ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِینَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ﴾ هذه هي عاقبة الكافرين الظالمين.
أما عاقبة أهل الإيمان والصلاح فقد جاءت بقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ إِنَّا لَا نُضِیعُ أَجۡرَ مَنۡ أَحۡسَنَ عَمَلًا﴾.
ثانيًا: تدور القصَّة كلُّها حول رجلَين، أحدهما: غنيٌّ لكنه كافر، والثاني: فقيرٌ لكنه مؤمن ﴿۞ وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلࣰا رَّجُلَیۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَیۡنِ مِنۡ أَعۡنَـٰبࣲ وَحَفَفۡنَـٰهُمَا بِنَخۡلࣲ وَجَعَلۡنَا بَیۡنَهُمَا زَرۡعࣰا﴾.
ثالثًا: كان الرجل الكافر مزهوًّا بماله، مغرورًا بقوَّته ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمࣱ لِّنَفۡسِهِۦ قَالَ مَاۤ أَظُنُّ أَن تَبِیدَ هَـٰذِهِۦۤ أَبَدࣰا ﴿٣٥﴾ وَمَاۤ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَاۤىِٕمَةࣰ وَلَىِٕن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّی لَأَجِدَنَّ خَیۡرࣰا مِّنۡهَا مُنقَلَبࣰا﴾، وكان يتعالَى على صاحبه الفقير ويقول له: ﴿أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالࣰا وَأَعَزُّ نَفَرࣰا﴾.
رابعًا: أما صاحبه الفقير فكان متمسِّكًا بإيمانه ﴿لَّـٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّی وَلَاۤ أُشۡرِكُ بِرَبِّیۤ أَحَدࣰا﴾، وكان حريصًا على دعوة صاحبه لهذا الإيمان ﴿قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ یُحَاوِرُهُۥۤ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِی خَلَقَكَ مِن تُرَابࣲ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةࣲ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلࣰا﴾.
إنه يُذكِّره بتأريخ خلقه ونموِّه من طورٍ إلى طور حتى بلغ هذا الأشدَّ، وأنه ليس له في قصَّة خلقه شأن، فالله هو الذي خلقه من العدم، ومن ثَمَّ فهو الأعلم به وبما يُصلِحه، وكان يُذكِّره أيضًا بنعمة الله عليه لعله يشكرها ولا يكفرها، ويستعملها بالخير بدل أن تشطَّ به نحو التكبُّر على عباد الله، وسوء الخُلق معهم ﴿وَلَوۡلَاۤ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَاۤءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالࣰا وَوَلَدࣰا﴾.
وكان يُحذِّرُه من عاقبة هذا السلوك المُشِين بحقِّ الله وبحقِّ عباد الله ﴿فَعَسَىٰ رَبِّیۤ أَن یُؤۡتِیَنِ خَیۡرࣰا مِّن جَنَّتِكَ وَیُرۡسِلَ عَلَیۡهَا حُسۡبَانࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَتُصۡبِحَ صَعِیدࣰا زَلَقًا ﴿٤٠﴾ أَوۡ یُصۡبِحَ مَاۤؤُهَا غَوۡرࣰا فَلَن تَسۡتَطِیعَ لَهُۥ طَلَبࣰا﴾، إنه يُذكِّره بأنَّ السموات والأرض بيد الله وحده، وأنَّه سبحانه الذي سخّر له كلّ هذه النعم قادر على أن يقلبها عليه بما يشاء، وكيفما يشاء.
خامسًا: ثم يعرض القرآن عاقبةَ هذا العناد والمكابرة الباطلة ﴿وَأُحِیطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصۡبَحَ یُقَلِّبُ كَفَّیۡهِ عَلَىٰ مَاۤ أَنفَقَ فِیهَا وَهِیَ خَاوِیَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَیَقُولُ یَـٰلَیۡتَنِی لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّیۤ أَحَدࣰا﴾.
سادسًا: وفي ختام هذه القصَّة عاد القرآن ليؤكِّد تلك الحقائق الكبرى التي هي أكبر من هذه الحياة وما فيها من تفاوت بين الأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، وأنَّ ما أصاب حديقة هذا المعاند المتكبر سيُصيب الحياة كلَّها؛ لأنَّ الله لم يكتب لها الخلود ﴿وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا كَمَاۤءٍ أَنزَلۡنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِیمࣰا تَذۡرُوهُ ٱلرِّیَـٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ مُّقۡتَدِرًا﴾.
وأما الذي يبقى حقيقةً فإنَّما هو العمل الصالح والذِّكر الطيِّب ﴿ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِینَةُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَٱلۡبَـٰقِیَـٰتُ ٱلصَّـٰلِحَـٰتُ خَیۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابࣰا وَخَیۡرٌ أَمَلࣰا﴾، ووفق هذا المعيار العادل سيواجه الناس مصيرهم المحتوم الذي هو آتٍ آتٍ، طال الزمان أم قصُر ﴿وَیَوۡمَ نُسَیِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَةࣰ وَحَشَرۡنَـٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدࣰا ﴿٤٧﴾ وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفࣰّا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدࣰا ﴿٤٨﴾ وَوُضِعَ ٱلۡكِتَـٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِینَ مُشۡفِقِینَ مِمَّا فِیهِ وَیَقُولُونَ یَـٰوَیۡلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلۡكِتَـٰبِ لَا یُغَادِرُ صَغِیرَةࣰ وَلَا كَبِیرَةً إِلَّاۤ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرࣰاۗ وَلَا یَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدࣰا﴾.
وهكذا تكون القصة بين المؤمن وصاحبه الكافر كأنها مدخل للوصول إلى هذه الحقائق وتأكيدها.


﴿أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ﴾ سُورها، وما يحيط بها، في إشارةٍ إلى أنَّ مَن فيها لا يمكنهم الهرب منها، وأصل السرادق: ما يقيمه المترفون وكبار القوم حول قصورهم ومجالسهم، من أبنية وأقواس للأبَّهة والزينة، وكأنَّ القرآن أراد أنْ يُذكِّرهم بذلك؛ تبكيتًا لهم، وتهكُّمًا بهم.
﴿بِمَاۤءࣲ كَٱلۡمُهۡلِ﴾ كالمعدن المُذاب.
﴿وَسَاۤءَتۡ مُرۡتَفَقًا﴾ منزلًا، وأصل المرتفق ما يُعدُّ للراحة والمقيل والسمر ونحو ذلك.
﴿مِّن سُندُسࣲ وَإِسۡتَبۡرَقࣲ﴾ ثياب منوَّعة فيها الرقيق ﴿سُندُسࣲ﴾، وفيها السميك ﴿وَإِسۡتَبۡرَقࣲ﴾، وكلها من الحرير والديباج.
﴿ٱلۡأَرَاۤىِٕكِۚ﴾ جمع أريكة، وهي السرير.
﴿ءَاتَتۡ أُكُلَهَا﴾ أثمرت.
﴿وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَیۡـࣰٔاۚ﴾ لم تنقص من الثمر شيئًا، بمعنى: أنها أثمرت ثمرًا كاملًا بلا عيبٍ ولا نقص.
﴿وَفَجَّرۡنَا خِلَـٰلَهُمَا نَهَرࣰا﴾ شققنا بينهما نهرًا، والتفجير يوحي بقوة تدفق الماء من باطن الأرض، والظاهر أنّ فيهما عينًا جارية.
﴿وَأَعَزُّ نَفَرࣰا﴾ أكثر أولادًا، بدلالة قول صاحبه المؤمن له: ﴿إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالࣰا وَوَلَدࣰا﴾.
﴿مَاۤ أَظُنُّ أَن تَبِیدَ هَـٰذِهِۦۤ أَبَدࣰا﴾ تعبيرٌ عن طول أمل ابن آدم ونسيانه لحقائق الدنيا ونوائب الدهر.
﴿وَلَىِٕن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّی لَأَجِدَنَّ خَیۡرࣰا مِّنۡهَا مُنقَلَبࣰا﴾ يعني أنه على فرض وجود الآخرة، فإنّ الله سوف يكرمني فيها كما أكرمني في الدنيا، كأنه يرى نفسه أهلًا للإكرام لخصوصيةٍ في نفسه، وهذا غاية العُجْب الباطل، والغرور الكاذب.
﴿حُسۡبَانࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ﴾عذابًا مُقدَّرًا من السماء، كالصواعق ونحوها.
﴿صَعِیدࣰا زَلَقًا﴾ ترابًا أو طينًا تزلق عليه الأقدام؛ لأنَّه لم يبق فيه شجر ولا زرع.
﴿غَوۡرࣰا﴾ غائرًا في الأرض.
﴿وَأُحِیطَ بِثَمَرِهِۦ﴾ أحاط الدمارُ بثمره.
﴿یُقَلِّبُ كَفَّیۡهِ﴾ تعبيرًا عن الحسرة والندم.
﴿خَاوِیَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا﴾ صورة من صور الدمار ذهبت كالمثل في شدَّة الخراب: أن تسقط العروش أولًا - وهي السقوف -، ثم تتهاوى الجدران على السقوف، فيصير أعلاها أسفلها.
﴿وَیَقُولُ یَـٰلَیۡتَنِی لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّیۤ أَحَدࣰا﴾ ظاهر في ندمه، ولا مانع من توبته وأوبَته للحقِّ، والله أعلم به وأرحم.
﴿هُوَ خَیۡرࣱ ثَوَابࣰا وَخَیۡرٌ عُقۡبࣰا﴾ ثوابه تعالى أفضل الثواب، والعاقبة التي وعد بها المؤمنين أفضل العواقب.
﴿هَشِیمࣰا تَذۡرُوهُ ٱلرِّیَـٰحُۗ﴾ يابسًا محطمًا تُشتِّته الرياح.
﴿وَٱلۡبَـٰقِیَـٰتُ ٱلصَّـٰلِحَـٰتُ﴾ الأعمال الصالحات، ومنها: الإيمان والذكر والعبادة، وحُسن الخلق.
﴿وَخَیۡرٌ أَمَلࣰا﴾ فالعمل الصالح هو الذي يفتح باب الأمل، وحسن الظن بالخالق الكريم تبارك وتعالى.
﴿وَیَوۡمَ نُسَیِّرُ ٱلۡجِبَالَ﴾ نحرِّكها ونزيلها من أماكنها، وهذه صورة من صور الخراب العام الذي يعمُّ الأرض وما عليها عند قيام الساعة.
﴿وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَةࣰ﴾ ظاهرةً، ليس فيها شجر ولا بنيان، وترى: خطاب لغير معيَّن، كأنّه يقول: لو كان هناك أحد لرآها هكذا.
﴿فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدࣰا﴾ جمعنا الناس جميعًا للحساب ولم نترك أحدًا منهم.
﴿لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ﴾ حفاةً عراةً بلا بهرج ولا زينة، هكذا خلقناكم أول مرة، وهكذا تعودون.
﴿بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدࣰا﴾ الخطاب لمُنكِرِي البعث.
﴿وَوُضِعَ ٱلۡكِتَـٰبُ﴾ اسم جنس لكلِّ الكتب التي تحمل أعمالَ البشر؛ لأنَّ الله جعل لكلِّ مُكلَّفٍ كتابًا خاصًّا به.
﴿مُشۡفِقِینَ﴾ خائفين.
﴿یَـٰوَیۡلَتَنَا﴾ نداء بالثبور والهلاك.
﴿وَلَا یَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدࣰا﴾ قاعدة كليَّة لا تتخلَّف، ومُناسبتها هنا: إزالة الوهم في نسبة ما في هذه الكتب من مُوجِبات العذاب إلى الجبر القدري الذي يحتج به دائمًا بعض المُبطِلِين.