﴿وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰۤ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَـٰتࣲ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ اختلف المفسِّرُون في هذه الكلمات، والأظهر أنّها متعلقة بالإمامة
﴿قَالَ إِنِّی جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامࣰا﴾ وهي الشروط والصفات والأعمال التي تستلزمها هذه الوظيفة العظيمة، وقوله:
﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ أي: جاء بهنَّ على أتمِّ وجه.
﴿وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَیۡتَ مَثَابَةࣰ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنࣰا﴾ المثابة: المكان الذي يرجع إليه الناس ويجتمعون فيه، وهذا تأكيد لدور البيت في حفظ هويَّة الأمَّة، فهو المكان الذي يجتمعون فيه على اختلاف أجناسهم وألوانهم، ولكي يصلح لهذه الغاية كان لا بد أن يكون آمنًا، والجعل هنا يحمل معنى التكليف؛ إذ يقضي على كل قادر أن يقصده ويعمِّره ويوفِّر فيه الأمن.
﴿أَن طَهِّرَا بَیۡتِیَ لِلطَّاۤىِٕفِینَ وَٱلۡعَـٰكِفِینَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ﴾ فيه وجوب تطهير البيت وما حوله ماديًّا ومعنويًّا، ليكون المكان الأنسب لاجتماع الناس وهم يطوفون به ويركعون فيه ويسجدون، فالتطهير واجب، وإيذاء البيت وما حوله بالقذر ونحوه محرَّم. وقد غفل عن هذا كثيرٌ من الحجَّاج في زماننا والمعتمرين، وظنوا هذا مسؤولية الدولة فقط.
﴿رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَـٰذَا بَلَدًا ءَامِنࣰا﴾ وفي آية أخرى قال:
﴿رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَـٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنࣰا﴾ [إبراهيم: 35]، إشارة للفارق الزمني، فزيارة إبراهيم الأولى للبيت دعا أن يكون حوله بلد آمن؛ لأنه لم يكن هنالك بلد فقال:
﴿ٱجۡعَلۡ هَـٰذَا﴾ أي: اجعل هذا المكان بلدًا، وفي الزيارة الثانية بعدما أسكن ذريته وآنسهم الله ببعض الناس دعا أن يجعل الله هذا
البلد الموجود آمنًا.
﴿وَإِذۡ یَرۡفَعُ إِبۡرَ ٰهِـۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَیۡتِ وَإِسۡمَـٰعِیلُ﴾ إشارة إلى أن أساس البيت كان موجودًا فرفعاه بالبناء عليه.
﴿وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَیُزَكِّیهِمۡ﴾ تأكيد التكامل بين التعليم والتزكية، بين ما يغذّي العقول والأفكار وبين ما يهذّب القلوب والأخلاق.
وقد أخذ بعضهم أن الله استجاب لهما هذا الدعاء، لكنّه أعاد الترتيب فقدّم التزكية على التعليم
﴿وَیُزَكِّیهِمۡ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾ [الجمعة: 2]، ومثلها في
البقرة:
﴿یَتۡلُواْ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتِنَا وَیُزَكِّیكُمۡ وَیُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾. وهذا معنى لطيف ومحتمل، لكنَّ الأقرب منه: أنهما مُتداخلان، فهناك علمٌ أوَّليٌّ ينبغي أن يسبِقَ التزكية، وهناك علمٌ تفصيلي ينبغي أن يأتي بعد التزكية.
ولذلك كان رسول الله
ﷺ يقول للناس: «قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا»
﴿ ﴾. وهذا تعليمٌ، وإشارة هذا التداخل واردة في آية الجمعة نفسها إذا قرأتها من أوَّلها:
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ والله أعلم.
﴿وَمَن یَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَهُۥ﴾ تأكيدٌ لاتصال الرسالات السماوية المعروفة بإبراهيم عليه السلام، وتأكيدٌ أيضًا لرمزيَّته الكبيرة في هذه الهويّة.
﴿إِذۡ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥۤ أَسۡلِمۡۖ قَالَ أَسۡلَمۡتُ﴾ تكرَّر في هذه المجموعة لفظُ
﴿الإسلام﴾ واشتقاقاته دعاءً أو إخبارًا عن إبراهيم وبَنِيه π؛ لتأكيد صِلة الإسلام بهذه السلالة، وذلك التاريخ.
﴿قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ ءَابَاۤىِٕكَ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَإِسۡحَـٰقَ﴾ إشارة إلى أن إسماعيل هو الابنُ الأكبر لإبراهيم ∞، وهو ما تؤيّده آيات أُخر ستأتي في سياقها القرآنيّ.
﴿تِلۡكَ أُمَّةࣱ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسۡـَٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ یَعۡمَلُونَ (١٣٤)﴾ للتفريق بين الاشتراك في الهويّة والافتراق في المسؤولية، فكل إنسان مسؤول عن عمله خيرًا أو شرًّا، والاعتزاز بالأجداد الصالحين واجب لكنّه لا يعفي الأحفاد من مسؤوليتهم.
﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوۡ نَصَـٰرَىٰ تَهۡتَدُواْۗ قُلۡ بَلۡ مِلَّةَ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ حَنِیفࣰاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ (١٣٥)﴾ لأنَّ دعوتهم للدخول في اليهود والنصارى المعاصرين للبعثة المحمّدية، وليس للدخول في ملَّة موسى وعيسى، فدعاهم القرآن للدخول في ملَّة إبراهيم والتي هي الأصل لرسالة موسى ورسالة عيسى عليهما السلام، وقوله:
﴿وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ﴾ تعريضٌ بالبِدَع التي تصِلُ إلى مُستوى الشرك والتي ابتدَعَها اليهودُ والنصارى.
﴿قُولُوۤاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡنَا وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَىٰۤ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَإِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَاۤ أُوتِیَ مُوسَىٰ وَعِیسَىٰ وَمَاۤ أُوتِیَ ٱلنَّبِیُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ (١٣٦)﴾ تأكيد للسند التاريخي لهويَّتنا الإسلامية، وأنها تجمع كل الرسالات السماويَّة، وترتبط بكل الأنبياء.
وأما الأسباط فهم أنبياء لا شك في نبوَّتهم، وإنما الخلاف في أعيانهم؛ إذ السبط وصف، بخلاف اسم العلَم الذي لا يقع فيه خلاف؛ كإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، وعيسى؛ والأظهر أنهم أنبياء كثر، بعثهم الله في قبائل مختلفة؛ لصحة إطلاق السبط على القبيلة، والأظهر أنَّها قبائل بني إسرائيل؛ لورود قوله تعالى فيهم:
﴿وَقَطَّعۡنَـٰهُمُ ٱثۡنَتَیۡ عَشۡرَةَ أَسۡبَاطًا أُمَمࣰاۚ﴾ [الأعراف: 160]، وإن كان هذا الإطلاق لا يمنع إطلاقه على غيرهم.
قلتُ: والخلاف في هذا لا يضر؛ لأن المطلوب هو الإيمان المجمل بنبوّتهم، إذ ليس هناك رسالة أو شرع عنهم، مع استبعاد أن يكون المقصود إخوة يوسف عليه السلام؛ لشناعة الجرم الذي ارتكبوه بحق أبيهم وأخيهم، ولقول يوسف فيهم:
﴿قَالَ أَنتُمۡ شَرࣱّ مَّكَانࣰا﴾ [يوسف: 77]، ولأنّ الله قال في الأنبياء:
﴿فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡ﴾ [الأنعام: 90]، وهؤلاء لم يذكر القرآن عنهم ما يصح به الاقتداء، والله أعلم.
﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَـٰدَةً عِندَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ﴾ الأظهر أنَّ هذا التشنيع كان بسبب علمهم بكِبَر التحريف الذي اقترفوه في كُتب الله السابقة، مما ينفي صلتهم بإبراهيم فضلًا عن كذبهم بنسبة إبراهيم لهم.
أما ما أنزله الله على موسى وعيسى فلا شك أنَّه وما جاء به محمد وإبراهيم π من مِشكاةٍ واحدةٍ؛ ولذلك قال الله في سورة الأعلى:
﴿إِنَّ هَـٰذَا لَفِی ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ (١٨) صُحُفِ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَمُوسَىٰ﴾ [الأعلى: 18، 19].