سورة البقرة تفسير مجالس النور الآية 139

قُلۡ أَتُحَاۤجُّونَنَا فِی ٱللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمۡ وَلَنَاۤ أَعۡمَـٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَـٰلُكُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُخۡلِصُونَ ﴿١٣٩﴾

تفسير مجالس النور سورة البقرة


المجلس الثامن: معالم في هويَّة الأمة الجديدة


من الآيه 124 إلي 141



بعد بيان التجربة السابقة ﴿تجربة بني إسرائيل﴾ ومناقشتها في مختلف الجوانب العقدية والسلوكية، شرع القرآن في بيان معالم هويَّة الأمّة الجديدة، بعد أن قدّم لها في سورة الفاتحة وفواتح هذه السورة، فهناك كان التركيز على الإيمان بالغيب، بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهنا شرع بالحديث عن جوانب أخرى لهذه الهويَّة:

الجانب الأول: الرمز التاريخي:
فإبراهيم هو الرمز البشري الأول، كما أنَّ محمَّدًا ∞ هو الرمز الخاتم، والذي هو دعوة إبراهيم أيضًا: ﴿رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِیهِمۡ رَسُولࣰا مِّنۡهُمۡ﴾ وكأنَّ الأنبياء الذين جاءوا قبل إبراهيم ما جاءوا إلا ممهدين لإبراهيم، والأنبياء الذين جاءوا بعده كانوا مؤكدين لدعوته ومبشِّرين بحفيده الخاتم π.

إن الرسالات السماوية الكبرى ﴿القرآن، والتوراة، والإنجيل﴾ تتصل بدعوة إبراهيم اتصالًا وثيقا، ولكنّ الإسلام أضاف بُعدًا آخر وهو بُعد الهويَّة، فجعل من مقام إبراهيم مصلّى، وجعل من البيت الذي رفع قواعده بيده قِبْلة؛ فالأمة كلها تتذكر إبراهيم في صلاتها وفي مناسك حجّها، وتذكره حتى حينما تصلِّي على نبيِّها، فتقول: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيْمَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيْمَ، إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ»﴿ ﴾، وهذه هي الصلوات التامَّة.

ومعنى هذا: أنّ الإسلام لا يتعامل مع سيدنا إبراهيم باعتباره نبيًّا ورسولًا فحسب، بل هو حاضر في مناسكنا وصلواتنا وأذكارنا، والحضور المتكرّر هو البُعد الأهم في كل هويَّة.

الجانب الثاني: الرمز المكاني:
حيث اختارَ الله الكعبة لتكون الرمز المكانيَّ لهذه الهويَّة، وربط بها ركنين عظيمين من أركان الإسلام: ﴿الصلاة والحج﴾، وجعل ما حولها حرمًا آمنًا للناس، وهما الركنان الظاهران من الأركان، بخلاف الأركان الأخرى، التي يغلب فيها عمل الباطن.

وهذا يؤكِّد أن الكعبة ليست مكانًا للتعبد فحسب، بل هي رمزٌ ظاهرٌ وحاضرٌ في السلوك الفردي والجماعي لهذه الأمَّة.

الجانب الثالث: الصبغة الربَّانيَّة:
ولأن صِبغة الشيء هي ظاهره المرئي للناس، فإنَّ صبغة هذه الأمة هي هويَّتها، وقد حدد الله مصدر هذه الهويَّة بقوله تعالى: ﴿صِبۡغَةَ ٱللَّهِ﴾، فهي هويَّة ربانيَّة.
ومن هنا ندرك خطورة ما يقوم به بعض المنتسبين لهذا الدين من صناعة رموز بشرية ومكانيّة لم يأذن بها الله، فجعلوا من اسم الحسين رضي الله عنه رمزًا فوق رمزيَّة محمد وإبراهيم عليهما السلام، وجعلوا من كربلاء رمزًا مكانيًّا فوق الكعبة، إن هذا مع أنه بدعة في الدين فهو سبب لتفريق الأمة وضياعها، لأن كل أمة إنما تجتمع حول هويتها، والهويّة ليست مسائل اجتهادية تحتمل الصواب والخطأ، إنها الصبغة التي ينبغي أن تطغى على كل رأي أو عاطفة أو اجتهاد.




﴿وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَـٰتࣲ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ اختلف المفسِّرُون في هذه الكلمات، والأظهر أنّها متعلقة بالإمامة ﴿قَالَ إِنِّی جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامࣰا﴾ وهي الشروط والصفات والأعمال التي تستلزمها هذه الوظيفة العظيمة، وقوله: ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ أي: جاء بهنَّ على أتمِّ وجه.

﴿وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَیۡتَ مَثَابَةࣰ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنࣰا﴾ المثابة: المكان الذي يرجع إليه الناس ويجتمعون فيه، وهذا تأكيد لدور البيت في حفظ هويَّة الأمَّة، فهو المكان الذي يجتمعون فيه على اختلاف أجناسهم وألوانهم، ولكي يصلح لهذه الغاية كان لا بد أن يكون آمنًا، والجعل هنا يحمل معنى التكليف؛ إذ يقضي على كل قادر أن يقصده ويعمِّره ويوفِّر فيه الأمن.

﴿أَن طَهِّرَا بَیۡتِیَ لِلطَّاۤىِٕفِینَ وَٱلۡعَـٰكِفِینَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ﴾ فيه وجوب تطهير البيت وما حوله ماديًّا ومعنويًّا، ليكون المكان الأنسب لاجتماع الناس وهم يطوفون به ويركعون فيه ويسجدون، فالتطهير واجب، وإيذاء البيت وما حوله بالقذر ونحوه محرَّم. وقد غفل عن هذا كثيرٌ من الحجَّاج في زماننا والمعتمرين، وظنوا هذا مسؤولية الدولة فقط.

﴿رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَـٰذَا بَلَدًا ءَامِنࣰا﴾ وفي آية أخرى قال: ﴿رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَـٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنࣰا﴾ [إبراهيم: 35]، إشارة للفارق الزمني، فزيارة إبراهيم الأولى للبيت دعا أن يكون حوله بلد آمن؛ لأنه لم يكن هنالك بلد فقال: ﴿ٱجۡعَلۡ هَـٰذَا﴾ أي: اجعل هذا المكان بلدًا، وفي الزيارة الثانية بعدما أسكن ذريته وآنسهم الله ببعض الناس دعا أن يجعل الله هذا البلد الموجود آمنًا.

﴿وَإِذۡ یَرۡفَعُ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَیۡتِ وَإِسۡمَـٰعِیلُ﴾ إشارة إلى أن أساس البيت كان موجودًا فرفعاه بالبناء عليه.

﴿وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَیُزَكِّیهِمۡ﴾ تأكيد التكامل بين التعليم والتزكية، بين ما يغذّي العقول والأفكار وبين ما يهذّب القلوب والأخلاق.

وقد أخذ بعضهم أن الله استجاب لهما هذا الدعاء، لكنّه أعاد الترتيب فقدّم التزكية على التعليم ﴿وَیُزَكِّیهِمۡ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾ [الجمعة: 2]، ومثلها في البقرة: ﴿یَتۡلُواْ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتِنَا وَیُزَكِّیكُمۡ وَیُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾. وهذا معنى لطيف ومحتمل، لكنَّ الأقرب منه: أنهما مُتداخلان، فهناك علمٌ أوَّليٌّ ينبغي أن يسبِقَ التزكية، وهناك علمٌ تفصيلي ينبغي أن يأتي بعد التزكية.

ولذلك كان رسول الله يقول للناس: «قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا»﴿ ﴾. وهذا تعليمٌ، وإشارة هذا التداخل واردة في آية الجمعة نفسها إذا قرأتها من أوَّلها: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ والله أعلم.

﴿وَمَن یَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَهُۥ﴾ تأكيدٌ لاتصال الرسالات السماوية المعروفة بإبراهيم عليه السلام، وتأكيدٌ أيضًا لرمزيَّته الكبيرة في هذه الهويّة.

﴿إِذۡ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥۤ أَسۡلِمۡۖ قَالَ أَسۡلَمۡتُ﴾ تكرَّر في هذه المجموعة لفظُ ﴿الإسلام﴾ واشتقاقاته دعاءً أو إخبارًا عن إبراهيم وبَنِيه π؛ لتأكيد صِلة الإسلام بهذه السلالة، وذلك التاريخ.

﴿قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ ءَابَاۤىِٕكَ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمَ وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَإِسۡحَـٰقَ﴾ إشارة إلى أن إسماعيل هو الابنُ الأكبر لإبراهيم ∞، وهو ما تؤيّده آيات أُخر ستأتي في سياقها القرآنيّ.

﴿تِلۡكَ أُمَّةࣱ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسۡـَٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ یَعۡمَلُونَ (١٣٤)﴾ للتفريق بين الاشتراك في الهويّة والافتراق في المسؤولية، فكل إنسان مسؤول عن عمله خيرًا أو شرًّا، والاعتزاز بالأجداد الصالحين واجب لكنّه لا يعفي الأحفاد من مسؤوليتهم.

﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوۡ نَصَـٰرَىٰ تَهۡتَدُواْۗ قُلۡ بَلۡ مِلَّةَ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمَ حَنِیفࣰاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ (١٣٥)﴾ لأنَّ دعوتهم للدخول في اليهود والنصارى المعاصرين للبعثة المحمّدية، وليس للدخول في ملَّة موسى وعيسى، فدعاهم القرآن للدخول في ملَّة إبراهيم والتي هي الأصل لرسالة موسى ورسالة عيسى عليهما السلام، وقوله: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ﴾ تعريضٌ بالبِدَع التي تصِلُ إلى مُستوى الشرك والتي ابتدَعَها اليهودُ والنصارى.

﴿قُولُوۤاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡنَا وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَىٰۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمَ وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَإِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَاۤ أُوتِیَ مُوسَىٰ وَعِیسَىٰ وَمَاۤ أُوتِیَ ٱلنَّبِیُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ (١٣٦)﴾ تأكيد للسند التاريخي لهويَّتنا الإسلامية، وأنها تجمع كل الرسالات السماويَّة، وترتبط بكل الأنبياء.

وأما الأسباط فهم أنبياء لا شك في نبوَّتهم، وإنما الخلاف في أعيانهم؛ إذ السبط وصف، بخلاف اسم العلَم الذي لا يقع فيه خلاف؛ كإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، وعيسى؛ والأظهر أنهم أنبياء كثر، بعثهم الله في قبائل مختلفة؛ لصحة إطلاق السبط على القبيلة، والأظهر أنَّها قبائل بني إسرائيل؛ لورود قوله تعالى فيهم: ﴿وَقَطَّعۡنَـٰهُمُ ٱثۡنَتَیۡ عَشۡرَةَ أَسۡبَاطًا أُمَمࣰاۚ﴾ [الأعراف: 160]، وإن كان هذا الإطلاق لا يمنع إطلاقه على غيرهم.

قلتُ: والخلاف في هذا لا يضر؛ لأن المطلوب هو الإيمان المجمل بنبوّتهم، إذ ليس هناك رسالة أو شرع عنهم، مع استبعاد أن يكون المقصود إخوة يوسف عليه السلام؛ لشناعة الجرم الذي ارتكبوه بحق أبيهم وأخيهم، ولقول يوسف فيهم: ﴿قَالَ أَنتُمۡ شَرࣱّ مَّكَانࣰا﴾ [يوسف: 77]، ولأنّ الله قال في الأنبياء: ﴿فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡ﴾ [الأنعام: 90]، وهؤلاء لم يذكر القرآن عنهم ما يصح به الاقتداء، والله أعلم.

﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَـٰدَةً عِندَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ﴾ الأظهر أنَّ هذا التشنيع كان بسبب علمهم بكِبَر التحريف الذي اقترفوه في كُتب الله السابقة، مما ينفي صلتهم بإبراهيم فضلًا عن كذبهم بنسبة إبراهيم لهم.

أما ما أنزله الله على موسى وعيسى فلا شك أنَّه وما جاء به محمد وإبراهيم π من مِشكاةٍ واحدةٍ؛ ولذلك قال الله في سورة الأعلى: ﴿إِنَّ هَـٰذَا لَفِی ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ (١٨) صُحُفِ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ وَمُوسَىٰ﴾ [الأعلى: 18، 19].