سورة البقرة تفسير مجالس النور الآية 244

وَقَـٰتِلُواْ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱعۡلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ ﴿٢٤٤﴾

تفسير مجالس النور سورة البقرة


المجلس الثامن عشر: التربية العسكرية


من الآية (243- 254)


يخاطب القرآن الجيش كما يخاطب مؤسسات الدولة و المجتمع الأخرى كالقضاء والتعليم والاقتصاد والصناعة والزراعة والصحَّة، ولكلِّ جهةٍ خطابُها الذي يناسبها، وربما وقع بعض الناس في وهمٍ بسبب الخلط ووضع الخطاب في غير موضعه وتوجيهه غيرَ الوجهة التي نزل فيها، فتراهم يأخذون آيات التربية العسكريّة ويضعونها في مجالات الدعوة والسياسة والعلاقات المجتمعية أو التنظيميَّة.

في هذا المقطع تركيز على جوانب رئيسة في الإعداد العسكري وصياغة العلاقة بين الجندي والقائد، وبناء المنظومة العسكرية:

أولًا: الإعداد المعنوي وبناء المقاتل الشجاع القادر على مواجهة الخطر وتحمُّل تبِعاته، وقد جاء هذا في النموذج الذي طرحه القرآن عن قوم تركوا بلادهم هَلَعًا وخوفًا من الموت وقد كانوا أُلُوفًا، فكتب الله عليهم الموت من حيث أرادوا النجاة، ليُرسِّخ بهذا النموذج عقيدة القدَر في الموت والحياة، وأن النفس لا تُقبض قبل انتهاء أجلها، وهذا هو فحوى قوله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ خَرَجُواْ مِن دِیَـٰرِهِمۡ وَهُمۡ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحۡیَـٰهُمۡ﴾.

ثانيًا: أن القتال أمرٌ حتميٌّ قدرًا وشرعًا؛ أمّا القدر فبحكم الطبيعة البشريّة وقوانين التدافع وحقائق التاريخ ﴿وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِینَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَتۡهُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُ وَلَـٰكِنِ ٱخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ یَفۡعَلُ مَا یُرِیدُ﴾.
وقد جاء الأمر منسجمًا مع هذه الحقيقة: ﴿وَقَـٰتِلُواْ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ﴾، ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ﴾ وأما الذين يحلُمُون بسلام من دون قوَّة فأولئك يُصادِمُون حقائق التاريخ والجغرافيا والطبيعة البشريَّة.
ولذا تجِد الدول مهما اختلفت دياناتها وثقافاتها تتسلّح بالقوة، وتستعدّ للمواجهة وتُطوِّر من قدراتها القتاليّة حتّى لو كانت ترغب بالسلام، وليست الأمَّة المسلمة استثناء من هذا، وتقرير هذه الحقيقة من شأنه أن يرفع الجانب المعنوي أيضًا.

ثالثًا: أن القتال في الإسلام مرتبطٌ برسالة سامية ﴿وَقَـٰتِلُواْ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ﴾ فهو ليس للمناصب والمكاسب الدنيويّة، وليس ليعلو عنصر على عنصر، أو تطغى دولة على أخرى، ومن متطلبات ذلك منع الظلم والفساد: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾.

رابعًا: أن ثواب المقاتل أُخرويٌّ؛ فهو لا يسعى لمَغنَم أو هروبًا من مَغرَم ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِی یُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنࣰا فَیُضَـٰعِفَهُۥ لَهُۥۤ﴾ فكلُّ ما يقدمه المقاتل في سبيل الله من جهدٍ ومالٍ ودمٍ فإنما هو أشبَه بالقرض الذي ينتظره مضاعفًا في وقت الحاجة التي ما بعدها حاجة.

خامسًا: السمع والطاعة أساسٌ في الجنديَّة: ﴿قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِیكُم بِنَهَرࣲ فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَیۡسَ مِنِّی﴾ ومحل النهي حلال في أصله، فكيف بالمحرَّم؟

سادسًا: الإنفاق المادي ركنٌ في المعركة وجزءٌ من الإعداد، وقد مهَّد له القرآن في مقدّمة هذا المقطع بقوله: ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِی یُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنࣰا﴾ ثم خَتَمَ به فقال: ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَـٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن یَأۡتِیَ یَوۡمࣱ لَّا بَیۡعࣱ فِیهِ وَلَا خُلَّةࣱ وَلَا شَفَـٰعَةࣱۗ وَٱلۡكَـٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ﴾، وهنا إشارة إلى أن هذا الإنفاق يقصد به دفع كفر الكافرين وظلم الظالمين، والسياق كله يؤكِّد ذلك.

سابعًا: العلم والقوَّة أساسٌ في القيادة: ﴿قَالُوۤاْ أَنَّىٰ یَكُونُ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ عَلَیۡنَا وَنَحۡنُ أَحَقُّ بِٱلۡمُلۡكِ مِنۡهُ وَلَمۡ یُؤۡتَ سَعَةࣰ مِّنَ ٱلۡمَالِۚ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰهُ عَلَیۡكُمۡ وَزَادَهُۥ بَسۡطَةࣰ فِی ٱلۡعِلۡمِ وَٱلۡجِسۡمِ﴾.

ثامنًا: الكثرة ليست شرطًا في النصر: ﴿قَالَ ٱلَّذِینَ یَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةࣲ قَلِیلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةࣰ كَثِیرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱلـلَّـهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾.



﴿وَهُمۡ أُلُوفٌ﴾ إشارة إلى أنّه ما كان لهم أن يتركوا بلادهم وهم بهذه الكثرة، لكنَّه الهلع والجبن والخوف من الموت الذي يشلُّ حركةَ الشعوب.

﴿وَمَا لَنَاۤ أَلَّا نُقَـٰتِلَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَقَدۡ أُخۡرِجۡنَا مِن دِیَـٰرِنَا وَأَبۡنَاۤىِٕنَا﴾ إشارة إلى أنَّ الدفاع عن النفس والأهل والمال هو في سبيل الله أيضًا، فكلُّ قتال حقٍّ فهو في سبيل الله، وكلّ قتال باطل هو في غير سبيل الله، مهما كانت الشعارات والرايات.

﴿وَلَمۡ یُؤۡتَ سَعَةࣰ مِّنَ ٱلۡمَالِ﴾ دلالة على اضطراب المعايير، فما علاقة المال بالقيادة! سوى أنّ صاحب المال قد يستعمل ماله لكسب التأييد، وهو مظهر من مظاهر فساد المجتمعات؛ حيث تتقدّم الرشوة، وتتراجع الكفاءة.

﴿وَقَالَ لَهُمۡ نَبِیُّهُمۡ إِنَّ ءَایَةَ مُلۡكِهِۦۤ أَن یَأۡتِیَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِیهِ سَكِینَةࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ﴾ إشارة لأهميّة تعزيز ثقة الجنود بقائدهم.

﴿وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ إشارة إلى أن الذي يحقق التوازن مع كثرة العدوِّ إنما هو الثبات والصبر.

﴿وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ﴾ اختفى اسم طالوت مؤسس الجيش وقائده الأول، ولكنَّ المعركة بقيت مستمرّة بقيادة جديدة، وهذا شرط في النصر أن لا يرتبط مصير الجيش بشخص ما ولو كان القائد، فالجيش الذي يعجز عن تهيئة القادة وإعدادهم دفعة بعد دفعة فإنَّه سيفشَل وينتَهي.