سورة البقرة تفسير مجالس النور الآية 255

ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَیُّ ٱلۡقَیُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةࣱ وَلَا نَوۡمࣱۚ لَّهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ مَن ذَا ٱلَّذِی یَشۡفَعُ عِندَهُۥۤ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ یَعۡلَمُ مَا بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ وَلَا یُحِیطُونَ بِشَیۡءࣲ مِّنۡ عِلۡمِهِۦۤ إِلَّا بِمَا شَاۤءَۚ وَسِعَ كُرۡسِیُّهُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَۖ وَلَا یَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِیُّ ٱلۡعَظِیمُ ﴿٢٥٥﴾

تفسير مجالس النور سورة البقرة


المجلس التاسع عشر: مجادلات في مسائل الإيمان


من الآية (255- 260)


يعرِض القرآن في هذا المقطع جانبًا آخرَ من جوانب الصراع بين الحق والباطل، وهو الجانب الفكري الذي يعتمد الحجَّة والبرهان بديلًا عن السَّيف والسِّنان، وهذه أهم النقاط التي عرضها القرآن في هذا الجانِب:

أولًا: عرض الحقائق الإيمانيّة كما هي من غير لَبْس أو مُداراة لطرف أو جهة مَا، وهذا الوضوح هو أساس لكل حِوارٍ أو مجادَلة، وهذه هي منهجية الإسلام، وقد جاءت آية الكرسي لبيان هذه الحقائق الكليّة عن الإيمان، ومن ثَمَّ كان لهذه الآية المكانة الأسمى من بين آيات القرآن الكريم، وقد صح في صحيح مسلم﴿ ﴾ عن النبيِّ أنها أعظم آية.
والحقائِق التي عرضها القرآن في هذا المقطع هي:
- لا إله إلا الله ﴿ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ﴾ وهذه كلمة التوحيد التي هي أساس الإسلام، وقاعدته الكبرى، ومدخل السائرين إليه، وكلّ فكرٍ أو عملٍ من دونها مهما كان مردود.
- أنّ الله متصفٌ بصفات الكمال ﴿ٱلۡحَیُّ ٱلۡقَیُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةࣱ وَلَا نَوۡمࣱۚ﴾، ﴿یَعۡلَمُ مَا بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ﴾، ﴿وَهُوَ ٱلۡعَلِیُّ ٱلۡعَظِیمُ﴾، ﴿وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ ﴾، ﴿أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ﴾، ﴿أَنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ﴾.
- أنّ الله مالكُ المُلك وهو يفعل في ملكه ما يشاء ﴿لَّهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾، ﴿وَلَا یَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَا﴾، ﴿ٱلَّذِی یُحۡیِۦ وَیُمِیتُ﴾، ﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ یَأۡتِی بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ﴾، ﴿فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامࣲ ثُمَّ بَعَثَهُۥ﴾، ﴿وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَیۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمࣰا﴾.
- أنَّ الآخرة حقٌّ، وأنَّ الله سيُحيِي الموتى، وأنَّ الناس هناك سيفتَرِقُون إلى مؤمن وكافر، فالمؤمن في نور الله وهو على العروة الوثقى، والكافر عبْدٌ للطاغوت وهو يعيش في الظلمات ومأواه النار: ﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ﴾.
- أنَّ الشفاعة لا تكون في ذلك اليوم إلا بإذن الله ﴿مَن ذَا ٱلَّذِی یَشۡفَعُ عِندَهُۥۤ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦ﴾.

ثانيًا: حريَّة الاختيار مكفولة للجميع ﴿لَاۤ إِكۡرَاهَ فِی ٱلدِّینِ﴾، وليس معنى هذا المساواة بين التوحيد والشرك، والحقِّ والباطل، والعدل والجور، كيف والله قد عقَّب مباشرة:﴿قَد تَّبَیَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَیِّ﴾؟ فهناك رشد وهناك غيٌّ، والمرء مختارٌ بينهما، وهو يتحمّل نتائج اختياره.

ثالثًا: الحوار مع المخالف في الدين مفتوح بلا حدود، فله أن يقول كلّ ما عنده، إذ هذا هو طريق الهداية ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِی حَاۤجَّ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمَ فِی رَبِّهِۦۤ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمُ رَبِّیَ ٱلَّذِی یُحۡیِۦ وَیُمِیتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡیِۦ وَأُمِیتُ﴾ ومع شناعة هذه المقولة إلا أنّ إبراهيم عليه السلام لم يُشنِّعها عليه، ولم يُقفل بابَ الحوار بعدها.

رابعًا: البحث الذاتي عن الحقيقة مطلوب ومشروع مهما كان محلّ البحث ﴿قَالَ أَنَّىٰ یُحۡیِۦ هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَا﴾، ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمُ رَبِّ أَرِنِی كَیۡفَ تُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰ﴾.



﴿ٱلۡحَیُّ ٱلۡقَیُّومُ﴾ صفتان من صفات الله تعالى واسمان من أسمائه الحسنى، وفي ذكر صفة الحيّ إشارة وتنبيه على بطلان عبادة الأصنام، وهي أصنام جامدة لا حياة فيها، ثم ذكر صفة القيّوم أي الذي يقوم وحده بتدبير شؤون الخلق، وهذه الصفة لا تكون لغير الحيِّ.

﴿لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةࣱ وَلَا نَوۡمࣱۚ﴾ نفيٌ لصفتين من صفات النقص، والصحيح أنّهما مثالان يصح القياس عليهما، فكلّ صفةٍ مُشعِرةٍ بالنقص الواضح فهي منفيّة عن الله كالمرض والجوع والعطش، فالنفي ليس توقيفيًّا بخلاف الإثبات، والله أعلم.

﴿مَن ذَا ٱلَّذِی یَشۡفَعُ عِندَهُۥۤ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦ﴾ إثبات للشفاعة المشروطة بإذن الله، وهي تجلٍّ من تجليات الرحمة والمغفرة في ذلك اليوم العصيب، وإنَّما تميَّزت بتكريم الشفيع نبيًّا وصدِّيقًا وشهيدًا، وهذا التكريم وجه من وجوه الثواب، وليس في الشفاعة ما يشغب على مبدأ العدل الإلهي؛ وهنا إشارة لبطلان شفاعة الأصنام التي يتشبث بها المشركون، وكذا بطلان شفاعة الأنبياء لمن أشركهم مع الله واستحالتها أصلًا؛ لأنّهم π لا يشفعون لمن توعَّده الله بعدم المغفرة ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَغۡفِرُ أَن یُشۡرَكَ بِهِۦ وَیَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَ ٰ⁠لِكَ لِمَن یَشَاۤءُۚ﴾ [النساء : 48] .

﴿وَسِعَ كُرۡسِیُّهُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ﴾ الكرسيُّ خَلْقٌ عظيمٌ وردت صفته في الأحاديث الصحيحة، وتأويلٌه بالعلم حمْل له على خلاف الظاهر والمتبادر عند الإطلاق، وذكره يفتح الآفاق الواسعة في تصوُّر سعة الكون وعظمة الخالق، وإن كنا لا نستطيع التوصُّل إلى كنهه وحقيقته، مع مُلاحظة أنَّ معنى الكُرسيِّ في اللغة لا يبعُد عن معنَى العرش، والله أعلم.

﴿لَاۤ إِكۡرَاهَ فِی ٱلدِّینِ﴾ نهيٌ بصيغة الخبر، ولا مانع من إرادة المعنيين، فالدين هو الخضوع الذاتي عن إيمان وتسليم، والإكراه ينافي هذا، فمن آمن تحت السيف كيف يكون مؤمنا، وهل الإيمان سوى التصديق الجازم وما ينبني عليه من تسليم وعمل؟

﴿یُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ﴾ استعمالٌ مجازيٌّ، فالظلمات جمع ظلمة، والظُّلْمة إنما تكون بانعدام الضوء، بيد أنّها هنا استعملت اسمًا جامعًا لكلِّ شرٍّ، مع أن الظلمة لا تستلزم الشرّ بل قد تكون مطلوبة للسكن والراحة، ومثل هذا القول في النور، إذ استعمله القرآن اسمًا جامعًا لكلِّ خيرٍ عقيدةً وعبادةً وخلقًا، والله أعلم.

﴿إِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمُ رَبِّیَ ٱلَّذِی یُحۡیِۦ وَیُمِیتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡیِۦ وَأُمِیتُۖ قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ یَأۡتِی بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ﴾ قول إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّیَ ٱلَّذِی یُحۡیِۦ وَیُمِیتُ﴾ كأنّه وقع جوابًا لسؤالٍ محذوف تقديره: من ربُّك؟

وقد ترك إبراهيم عليه السلام الاستدلال الأول لسبَبَين:
الأول: أنّ خصمه قد نحا به إلى مجال تخرج به المحاججة عن جوهر الموضوع، وهذا أسلوبٌ من أساليب الباطل، ولو استجاب له إبراهيم عليه السلام لصار الجدال يدور حول التفريق بين الموت والقتل، والحياة والإبقاء على الحياة، وهي مُماحَكَات جدليَّة ولفظيَّة لن تقود إلى نتيجة.

الثاني: أنَّ خصمه قد قام بإحضار اثنين من السجن، فأبقى الأوَّل وقتل الثاني، كما ورد في بعض الروايات، وقد كان من الحكمة حَرْف مجرى الحوار بعيدًا عن ملابسات الواقع؛ تجنُّبًا لهذا الضرر والسلوك المشين، والذي قد يصدر عنه بصورة أو طريقة أخرى.
نعم، ولقد كان لإبراهيم أن يحرجه أكثر فيقول له: أَعِدِ الحياة لهذا الذي قتَلتَه إن كنت تُحيِي وتُمِيت، لكنَّه اختار دليلًا لا يحتمل تلك المُماحكات، ولا تلك السلوكيات، والله أعلم.

﴿لَمۡ یَتَسَنَّهۡ﴾ أي: لم يتغيَّر، وهذه معجزة لا شكَّ؛ لأن الطعام لا يبقى في العادة كل هذه السنين، والقصَّة كلها معجزة لنبيٍّ من الأنبياء السابقين، وهي مثالٌ على قدرة الله في إحياء الموتى؛ حيث جعله الله ينظر إلى رفات حماره الميت كيف دبَّت فيها الحياة مبتدئة بظهور العظام وتكاملها ثم ببناء اللحم عليها، ومثلها الآية التالية في إبراهيم عليه السلام والله أعلم.

﴿رَبِّ أَرِنِی كَیۡفَ تُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰ﴾ سؤال إبراهيم عليه السلام كان عن الكيفيّة وليس عن أصل الإحياء، بدلالة قوله: ﴿قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ﴾ والعلم بالكيفيَّة وتصوُّرها ينقل المعرفة من معرفةٍ استدلاليّة إلى معرفةٍ حسيّة، وهذه آكَدُ في اليقين والطمأنينة.

﴿فَخُذۡ أَرۡبَعَةࣰ مِّنَ ٱلطَّیۡرِ﴾ دلالة على استعمال الطير في الجمع كما يستعمل في المفرد.

﴿فَصُرۡهُنَّ إِلَیۡكَ﴾ اجمعهنَّ عندك.

﴿ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلࣲ مِّنۡهُنَّ جُزۡءا﴾ فيه مقدَّر وهو: فاذبحهنَّ، ثم اجعل على كلِّ جبلٍ منهنَّ جزءًا أي: اذبحهنَّ ثمّ قطِّعهنَّ، والله أعلم.

﴿ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ یَأۡتِینَكَ سَعۡیࣰا﴾ ربط الإتيان بدعوتهن من قبل إبراهيم؛ تأكيدًا لحقيقة الإحياء وحضور إبراهيم فيه، بخلاف ما لو أحياها الله في وقتٍ آخر، والله أعلم.