يعرِض القرآن في هذا المقطع جانبًا آخرَ من جوانب الصراع بين الحق والباطل، وهو الجانب الفكري الذي يعتمد الحجَّة والبرهان بديلًا عن السَّيف والسِّنان، وهذه أهم النقاط التي عرضها القرآن في هذا الجانِب:
أولًا: عرض الحقائق الإيمانيّة كما هي من غير لَبْس أو مُداراة لطرف أو جهة مَا، وهذا الوضوح هو أساس لكل حِوارٍ أو مجادَلة، وهذه هي منهجية الإسلام، وقد جاءت آية الكرسي لبيان هذه الحقائق الكليّة عن الإيمان، ومن ثَمَّ كان لهذه الآية المكانة الأسمى من بين آيات القرآن الكريم، وقد صح في صحيح مسلم
﴿ ﴾ عن النبيِّ
ﷺ أنها أعظم آية.
والحقائِق التي عرضها القرآن في هذا المقطع هي:
- لا إله إلا الله
﴿ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ﴾ وهذه كلمة التوحيد التي هي أساس الإسلام، وقاعدته الكبرى، ومدخل السائرين إليه، وكلّ فكرٍ أو عملٍ من دونها مهما كان مردود.
- أنّ الله متصفٌ بصفات الكمال
﴿ٱلۡحَیُّ ٱلۡقَیُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةࣱ وَلَا نَوۡمࣱۚ﴾،
﴿یَعۡلَمُ مَا بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ﴾،
﴿وَهُوَ ٱلۡعَلِیُّ ٱلۡعَظِیمُ﴾،
﴿وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ ﴾،
﴿أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ﴾،
﴿أَنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ﴾.
- أنّ الله مالكُ المُلك وهو يفعل في ملكه ما يشاء
﴿لَّهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾،
﴿وَلَا یَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَا﴾،
﴿ٱلَّذِی یُحۡیِۦ وَیُمِیتُ﴾،
﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ یَأۡتِی بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ﴾،
﴿فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامࣲ ثُمَّ بَعَثَهُۥ﴾،
﴿وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَیۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمࣰا﴾.
- أنَّ الآخرة حقٌّ، وأنَّ الله سيُحيِي الموتى، وأنَّ الناس هناك سيفتَرِقُون إلى مؤمن وكافر، فالمؤمن في نور الله وهو على العروة الوثقى، والكافر عبْدٌ للطاغوت وهو يعيش في الظلمات ومأواه النار:
﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ﴾.
- أنَّ الشفاعة لا تكون في ذلك اليوم إلا بإذن الله
﴿مَن ذَا ٱلَّذِی یَشۡفَعُ عِندَهُۥۤ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦ﴾.
ثانيًا: حريَّة الاختيار مكفولة للجميع
﴿لَاۤ إِكۡرَاهَ فِی ٱلدِّینِ﴾، وليس معنى هذا المساواة بين التوحيد والشرك، والحقِّ والباطل، والعدل والجور، كيف والله قد عقَّب مباشرة:
﴿قَد تَّبَیَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَیِّ﴾؟ فهناك رشد وهناك غيٌّ، والمرء مختارٌ بينهما، وهو يتحمّل نتائج اختياره.
ثالثًا: الحوار مع المخالف في الدين مفتوح بلا حدود، فله أن يقول كلّ ما عنده، إذ هذا هو طريق الهداية
﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِی حَاۤجَّ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ فِی رَبِّهِۦۤ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰهِـۧمُ رَبِّیَ ٱلَّذِی یُحۡیِۦ وَیُمِیتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡیِۦ وَأُمِیتُ﴾ ومع شناعة هذه المقولة إلا أنّ إبراهيم عليه السلام لم يُشنِّعها عليه، ولم يُقفل بابَ الحوار بعدها.
رابعًا: البحث الذاتي عن الحقيقة مطلوب ومشروع مهما كان محلّ البحث
﴿قَالَ أَنَّىٰ یُحۡیِۦ هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَا﴾،
﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِی كَیۡفَ تُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰ﴾.