يعرض القرآن الكريم في هذا المقطع جانبًا من فقه العلاقات الماليَّة التي تشيع في المجتمعات البشريَّة، والتي يكثر فيها الظلم والسُّحت وأكل حقوق الآخرين، وهي الصفات المقابلة للصفات التي قرَّرها القرآن في المجتمع المسلم القائم على التكافل والتعاون والمحبَّة.
وإذا كان القرآن قد نهى بشدّة عن المنّ والأذى في الصدقة، فإنّ نَهيَه عن غَمط الحقوق وأكل الحرام سيكون آكَد وأشدّ، كما أنَّه سيعمد إلى وضع الأحكام والضوابط القادرة على منع هذا الظلم وحماية حقوق الناس، وكما يأتي:
أولًا: تحريم الربا، وقد ورد هذا
التحريم بطريقةٍ قاطعة وحاسمة لا تحتمل التأويل أو الاجتهاد، قال:
﴿وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْ﴾، وقال:
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ ٱلرِّبَوٰۤاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ﴾، وقد شنَّعَ على آكِلِي الرِّبا تشنيعًا عظيمًا:
﴿ٱلَّذِینَ یَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا یَقُومُونَ إِلَّا كَمَا یَقُومُ ٱلَّذِی یَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّ﴾، ثمّ جمع له من الوعيد ما لم يجمعه في غيره فقال:
﴿یَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ﴾، وقال:
﴿فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ﴾.
وقبل كل ذلك وأشدُّ منه قوله:
﴿وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ﴾ وهذا الوعيد لا يناسب إلا الكافرين المشركين، وكأنّه جعل الربا علامة للكفر والشرك، وقد أكَّد تعالى هذا بقوله:
﴿یَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَیُرۡبِی ٱلصَّدَقَـٰتِ﴾ وبقوله:
﴿وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ ٱلرِّبَوٰۤاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ﴾ فأصبح ترك الربا علامة الإيمان، والعودة إليه علامة الكفر والعياذ بالله، وليس فوق هذا الوعيد من وعيد.
ثانيًا: الربا ينافي العدل، وهو صورة من صور الظلم:
﴿وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَ ٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ﴾.
ثالثًا: في ثنايا الحديث عن الربا أخذ القرآنُ يُذكِّر بالإيمان والعمل الصالح وأداء الزكاة والصدقات، وهو هنا يضع الربا في مقابلة هذا كله، وهذا يعني أنَّ القرآن يَعدّ الربا مِعول هدم لكلِّ تلك المعاني، فما يَبنِيه الإيمان والعمل الصالح والتكافل الاجتماعي من معاني الخير، والرحمة، والمحبَّة في المجتمع يهدمه الربا.
وهذه حقيقة ينبغي الوقوف عندها طويلًا؛ فالقرآن لا ينظر إلى الربا من خلال حلقته الأخيرة، وهي أنَّ طرفًا ما قد استطاع في ظرف ما أن يأكل مالًا لا يستحقُّه وإن كان برضا صاحب المال نفسه، فهذا لوحده قد لا يستحق كلّ هذا التشنيع وذلك الوعيد، فهو لا يتعدَّى حالة الاختلاس أو السرقة من مالٍ شخصيٍّ غير مُحرز، أو حالة من حالات النصب والاحتيال، بل القرآن يتعامل مع الربا كنظام متكامل له فلسفته وعمقه المنافيان لمنهج الإسلام كلّه، ونظرته للحياة والمال والعلاقات الإنسانيّة العامة والأصول التي ينبغي أن تقوم عليها المجتمعات.
إنَّ
﴿النظام الربوي﴾ ليس جريمة فرديَّة، ولا نَزْوة أو شهوة طارئة، بل هو نظام متكامل، وهذا النظام لا يمكن له أن يلتقي مع الإسلام لا في منطلقاته ومبادئه ولا في آثاره وتداعياته.
أمّا الحالات الجزئية والمستجدّات المالية، والتي قد يختلف في تقديرها المجتهدون المعاصرون، فينبغي أن تُخرج من دائرة
﴿التحريم القطعي للربا﴾ وما ينبَنِي عليه من تشنيع ووعيد إلى دائرة
﴿الاجتهاد الفقهي﴾ القابل لتعدد الآراء والفتاوى بالضوابط الأصوليّة المعروفة، والله أعلم.
رابعا: إباحة البيع:
﴿وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَیۡعَ﴾ والبيع وإن جاء هنا في الصورة التي يزعم المرابون أنّها شبيهة بالربا، لكنّ الظاهر إباحة البيع في كلِّ صوره المعروفة في التبادلات الماليّة: بيعًا، وإجارةً، وشركةً، ومضاربةً، وما إلى ذلك، فكل تبادل تجاري الأصل فيه الإباحة، و
التحريم استثناء يحتاج إلى دليل.
خامسًا: إباحة الدَّين بكلِّ صوره وأشكاله، سواء أكان لسد فاقة كدَيْن الفقير الذي يستدين لقضاء حاجاته في الأكل والملبس ونحوهما، أم كان دَينًا للاستثمار والعمل التجاري، وهو عادة ما يكون بين الأغنياء، أو مع المؤسسات الماليَّة والشركات والبنوك، فالأصل في كل هذا الإباحة.
وفَرْقُه عن البيع: أنّ البيع تبادلٌ بعِوَض بقصد الزيادة والنماء ويحتمل الغُنْم والغُرْم، والدَّينُ قرضٌ واستيفاء بلا زيادة مشروطة ولا نقصان، ويلحق به:
﴿دَينُ الأعيان﴾، وهو المسمّى بالعارية، والله أعلم.
سادسًا: وضع الضوابط الكفيلة بحماية الحقوق، ومن ذلك:
- الأمر بكتابة الدين وتوثيقه:
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ إِذَا تَدَایَنتُم بِدَیۡنٍ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمࣰّى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡیَكۡتُب بَّیۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا یَأۡبَ كَاتِبٌ أَن یَكۡتُبَ﴾ الآية، فهذه أوامرُ صريحةٌ ومكرّرةٌ تؤكِّد إلزام الطرفَين بالكتابة، وإذا كانت الروايات عن السلف تفيد تساهلهم في الكتابة، فهذا يعود لفهمهم أنّ الكتابة ليست أمرًا تعبُّديًا، بل هي وسيلةٌ لحفظ الحقوق، فإن تيسَّرَت وسيلة أخرى تتناسَب مع عُرف المجتمع وحالته العامّة ومنظومته القيميَّة فلا بأس.
أمّا الاستدلال بتلك الروايات على نفي الإلزام مطلقًا حتى في حالة عدم القدرة على حفظ الحقوق نتيجة لتغيّر العُرف واضطراب المنظومة القيميَّة وفساد الذِّمم، فهذا بعيدٌ عن روح التشريع وفحوَى هذه الآيات المشدِّدة على ضمان الحقوق وحمايتها، والله أعلم.
- أنّ الشهادة مطلوبة في التوثيق:
﴿وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِیدَیۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ یَكُونَا رَجُلَیۡنِ فَرَجُلࣱ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَاۤءِ﴾، وهذا تأكيدٌ آخر على إلزاميَّة الكتابة.
- أنَّ الكتابة أقرب لتحقيق العدل وترسيخ الثقة:
﴿وَلَا تَسۡـَٔمُوۤاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِیرًا أَوۡ كَبِیرًا إِلَىٰۤ أَجَلِهِۦۚ ذَ ٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَـٰدَةِ وَأَدۡنَىٰۤ أَلَّا تَرۡتَابُوۤاْ ﴾.
- أنَّ الاستثناء من الكتابة إنما هو في التجارة الحاضرة التي لا تتعلّق بالذمم:
﴿إِلَّاۤ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً حَاضِرَةࣰ تُدِیرُونَهَا بَیۡنَكُمۡ فَلَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَا ﴾ ودلالة هذا على وجوب التوثيق في غير التجارة الحاضرة لا تَخفَى.
- تحريم كلِّ تصرُّفٍ يُؤدِّي إلى تغيير الوثائق وتحريفها:
﴿وَلَا یُضَاۤرَّ كَاتِبࣱ وَلَا شَهِیدࣱۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡ﴾ ومثاله: الضغط على الكاتب أو الشهود ترغيبًا أو ترهيبًا، أو مبادرة الكاتب والشهود مُحاباةً لطرف دون آخر.
- تحريم كتمان الشهادة:
﴿وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَـٰدَةَۚ وَمَن یَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥۤ ءَاثِمࣱ قَلۡبُهُۥ ﴾ فالشاهد يتحمل مسؤوليته كاملة في أداء شهادته مهما كانت الضغوط.
- في حالة عدم القدرة على الكتابة يوجِّهُنا القرآن لصيغة أخرى، وهي:
﴿وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرࣲ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبࣰا فَرِهَـٰنࣱ مَّقۡبُوضَةࣱۖ﴾ والرهان معمولٌ بها اليوم في كثيرٍ من البنوك التي تتعامل بالقرض؛ حيث تقوم برهن عقار ثابت للمدين وتمنعه من بيعه حتى تستوفي منه الدين.
وهذه التفريعات والاستثناءات والتفصيلات كلها تؤكِّد خطورة الدَّين وحرص الإسلام على حماية حقوق الناس، والعبرة إنما هي في تحقيق هذه الغاية وليست في تحديد الوسيلة التي قد تتغيَّر صورتها وكيفيّتها بحسب تطوُّر المجتمعات وأدواتهم التوثيقيَّة والتحصيليَّة، والله أعلم.