﴿سُورَةٌ أَنزَلۡنَـٰهَا﴾ وكلُّ سور القرآن مُنزَّلة، وإنما خصَّها؛ تنبيهًا على أهميتها.
﴿وَفَرَضۡنَـٰهَا﴾ بمعنى الإلزام؛ لما فيها من الأحكام والتشريعات القاطعة.
﴿ٱلزَّانِیَةُ وَٱلزَّانِی﴾ لفظان عامَّان في كلِّ زانٍ وزانيةٍ، وقد ورد تخصيصهما بأحاديث رَجم المُحصَن دون البِكْر، وهو محل اتفاق الفقهاء والمذاهب المعتبرة، كما وردت إضافة عقوبة التغريب عامًا للبِكْر في الأحاديث الصحيحة، وللناس في الجمع بين هذه العقوبات وتكييفها وشروط تطبيقها من الأقوال ما لا يتَّسِعُ له المقام، والله أعلم.
﴿وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةࣱ فِی دِینِ ٱللَّهِ﴾ لا تأخذكم الرأفةُ بهما بعيدًا عن تنفيذ حُكم الله، أما الرأفة بمعنى الرحمة والدعاء لهما بالتوبة والمغفرة، فهذه مِن صَميم خُلق المسلم، فالحدُّ ليس انتقامًا من العاصي، ولا كراهيةً لشخصه، وإنما تقتضيه ضرورة النظام العام وحماية المجتمع.
﴿وَلۡیَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَاۤىِٕفَةࣱ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ لتحقيق الردع للآخرين، وتكوين الوعي اللازم لصيانة المجتمع وحمايته.
﴿ٱلزَّانِی لَا یَنكِحُ إِلَّا زَانِیَةً أَوۡ مُشۡرِكَةࣰ وَٱلزَّانِیَةُ لَا یَنكِحُهَاۤ إِلَّا زَانٍ أَوۡ مُشۡرِكࣱۚ وَحُرِّمَ ذَ ٰلِكَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ إخبار ووصف لطبيعة المجتمعات الوثنيَّة الموبوءة بالعقائد الفاسدة، والعادات المنحرفة، وليس فيه تشريعٌ بإباحة زواج الزاني مِن الزانية أو المشركة، وأما المجتمع المؤمن فهو مُبرَّأٌ مِن الشرك، ومبرَّأٌ مِن الفاحشة؛ لأنه محميٌّ بشريعة الله.
فقوله تعالى:
﴿وَحُرِّمَ ذَ ٰلِكَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ لبيان سبب هذا النقاء الذي يتميَّز به المؤمنون، وليس ابتداءً للتشريع؛ إذ تحريم الزنا سابق، فالآية كلُّها إنما جاءت إخبارًا ووصفًا ومقارنةً بين مُجتمع المؤمنين ومُجتمع المشركين، والله أعلم.
﴿وَٱلَّذِینَ یَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ﴾ يتَّهِمُون العفيفات بالزنا.
﴿ثُمَّ لَمۡ یَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَاۤءَ﴾ البيِّنة المطلوبة لإثبات جريمة الزنا، وهي بيِّنة يصعُبُ تحقُّقها؛ إذ ليس مِن الممكن ممارسة هذا النوع مِن الجرائم أمام الملأ، وكأنَّ الشرعَ وضع هذه العقوبة لكي لا ينزَلِق المجتمع إلى حالةٍ مِن الفوضى الشهوانيَّة التي لا تُناسِبُ فطرة الآدميين.
أما لو زلَّ امرؤٌ في هذا الباب زلَّةً، فالأَولَى به الستر، مع وجوب المبادرة إلى التوبة النصوح، أمّا الحرص على نزع الاعتراف منه، والرغبة في إقامة الحدِّ عليه، ظنًّا أنَّ هذا مقصود الشارع، فهذا مِن الخطأ الناتج عن جهلٍ بطبيعة هذا الدين ومنهجه في الإصلاح.
﴿فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَـٰنِینَ جَلۡدَةࣰ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَـٰدَةً أَبَدࣰاۚ وَأُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ﴾ ثلاث عقوباتٍ للقاذف: جلده ثمانين، وردُّ شهادته في أيَّة واقعة أخرى، ووصمه بالفسق، والعياذ بالله.
﴿إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ﴾ استثناء من وصمة الفسق؛ فالفسق يزول بالتوبة اتفاقًا، ولا يدخل الجلد في هذا الاستثناء اتفاقًا أيضًا، فالتوبة لا تُبطِلُ حدَّ القذف، وإنما وقع الخلاف في قبول شهادته بعد التوبة، والظاهر ردُّها بالتأبيد الوارد في الآية، ولأن الاستثناء لم يلحق العقوبة كلَّها اتفاقًا، فالأَولَى قَصرُه على آخرها، وهو الفسق، والله أعلم.
﴿وَٱلَّذِینَ یَرۡمُونَ أَزۡوَ ٰجَهُمۡ﴾ يقذفون زوجاتهم بالزنا وليس معهم أربعة شهود.
﴿فَشَهَـٰدَةُ أَحَدِهِمۡ أَرۡبَعُ شَهَـٰدَ ٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِی ﴿٦﴾ وَٱلۡخَـٰمِسَةُ أَنَّ لَعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَیۡهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡكَـٰذِبِینَ﴾ وهي شهادةٌ لدفع عقوبة القذف عن نفسه، استثناء تقتضيه خصوصية العلاقة بين الزوجين.
﴿وَیَدۡرَؤُاْ عَنۡهَا ٱلۡعَذَابَ﴾ إشارة إلى العذاب الوارد أولًا في حدِّ الزنا، وفيها تأكيدٌ لمعنى العموم الأصلي في الحدِّ، والله أعلم.
﴿عُصۡبَةࣱ مِّنكُمۡۚ﴾ جماعة منكم وتعيش معكم، وقد مرَّ تصنيف القرآن لهم.
﴿لَا تَحۡسَبُوهُ شَرࣰّا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَیۡرࣱ لَّكُمۡۚ﴾ إذ رفَعَ اللهُ به ذِكر أمهات المؤمنين، وأنزل براءة الصدِّيقة بنت الصدِّيق وعن أبيها آياتٍ تُتلَى حتى قيام الساعة، وكان فيه الدرسُ العمليُّ البليغُ لتحصين المجتمع المسلم ومدِّه بأسباب المنَعَة والمقاومة.
﴿وَٱلَّذِی تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ﴾ هو ابنُ أُبَيِّ بن سَلول رأسُ المنافقين، وقد جاء في «صحيح البخاري» : (... فقام رسولُ الله
ﷺ مِن يومه، فاستعذَرَ مِن عبد الله بن أُبَيِّ بن سَلول، فقال رسولُ الله
ﷺ: «مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا..»).
﴿لَّوۡلَاۤ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ﴾ هلَّا، وهي أداةٌ من أدوات الطلب.
﴿ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَیۡرࣰا﴾ تأكيدٌ لمعنى المجتمع المتلاحم والمترابط حتى كأنه جسدٌ واحدٌ، وشخصيَّةٌ واحدةٌ.
﴿إِفۡكࣱ مُّبِینࣱ﴾ كذِبٌ ظاهرٌ، وأصلُ الإفك الصَّرف، وأُطلِق على الكذِبِ؛ لصَرفه عن الحقِّ والعدل.
﴿فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡكَـٰذِبُونَ﴾ أي: في علمِ الله، وهذه تبرئةٌ قاطعةٌ لأمِّ المؤمنين؛ إذ إنَّ القاذف في الحالات الأخرى قد يكون صادقًا في عِلمِ الله وإن أُقيم عليه حدُّ القذف؛ لفقده الشهود.
﴿إِذۡ تَلَقَّوۡنَهُۥ بِأَلۡسِنَتِكُمۡ وَتَقُولُونَ بِأَفۡوَاهِكُم﴾ تنبيهٌ إلى أخطر أسباب انتشار الإشاعة؛ التلقِّي عن غير عِلمٍ، والنشر بلا تفكيرٍ، وهي ظاهرةٌ مجتمعيَّةٌ طاغيةٌ، خاصَّةً فيما يُستغرب من الأخبار، ويُثير الفضول والاهتمام عند الناس.
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یُحِبُّونَ أَن تَشِیعَ ٱلۡفَـٰحِشَةُ فِی ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ﴾ وهُم
المنافقون ومن يُواليهم ويمشي في رِكابهم؛ إذ لا يتصوَّر مؤمن يسعَى لنشر الفاحشة في مُجتمعه؛ ولذلك توعَّدَهم الله بعذَابَي الدنيا والآخرة:
﴿لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡأَخِرَةِۚ﴾.
﴿وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ وَأَنَّ ٱللَّهَ رَءُوفࣱ رَّحِیمࣱ﴾ جوابُه مفهومٌ مِن السياق، ويدلُّ عليه الجواب السابق:
﴿لَمَسَّكُمۡ فِی مَاۤ أَفَضۡتُمۡ فِیهِ عَذَابٌ عَظِیمٌ﴾.
﴿وَمَن یَتَّبِعۡ خُطُوَ ٰتِ ٱلشَّیۡطَـٰنِ فَإِنَّهُۥ یَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَاۤءِ وَٱلۡمُنكَرِۚ﴾ تأكيدٌ أنَّ فِعلَ المنافقين في الإفك، والسعي لإشاعة الفاحشة وزعزعة المجتمع المؤمن إنما هو اتباعٌ للشيطان وخطواته المتسلسلة والمتتابعة لفتنة المسلمين، وإلحاق الشرِّ بهم.
﴿وَلَا یَأۡتَلِ﴾ ولا يحلف.
﴿أَن یُؤۡتُوۤاْ أُوْلِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینَ وَٱلۡمُهَـٰجِرِینَ فِی سَبِیلِ ٱلـلَّــهِۖ وَلۡیَعۡفُواْ وَلۡیَصۡفَحُوۤاْۗ﴾ إشارة إلى أنَّ الصلاح مع الغفلة وعدم الفطنة قد يُوقِعُ صاحبَه في الخطأ الكبير، ومِسْطَح مِثالٌ لهذا، والترغيب بالعفو والصفح عنه إنما هو مِن حيث الصلة لا مِن حيث الحدِّ، فالناس أمام الحدود سواء.
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ ٱلۡغَـٰفِلَـٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ لُعِنُواْ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡأَخِرَةِ﴾ وعيدٌ شديدٌ لكلِّ مَن رمى مؤمنةً عفيفةً، وهو آكَد وأشَدُّ فيمَن رمَى أمَّ المؤمنين، وخاض في عِرض رسول الله
ﷺ.
وقد ذكر العلماء أنَّ مَن خاض في هذا بعد نزول هذه الآيات فهو كافرٌ ومكذِّبٌ للقرآن، وخارجٌ مِن الأُمَّةِ والمِلَّةِ.
﴿یَوۡمَ تَشۡهَدُ عَلَیۡهِمۡ أَلۡسِنَتُهُمۡ وَأَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم﴾ تهديدٌ آخر، وتخويفٌ من عواقب الإفك.
﴿یَوۡمَىِٕذࣲ یُوَفِّیهِمُ ٱللَّهُ دِینَهُمُ ٱلۡحَقَّ﴾ حسابهم العادل، وهو وعيدٌ آخر، وتهديدٌ مُضاف، فيا خسران من استحقَّ كلَّ هذا الوعيد والتهديد.
﴿ٱلۡخَبِیثَـٰتُ لِلۡخَبِیثِینَ وَٱلۡخَبِیثُونَ لِلۡخَبِیثَـٰتِۖ وَٱلطَّیِّبَـٰتُ لِلطَّیِّبِینَ وَٱلطَّیِّبُونَ لِلطَّیِّبَـٰتِۚ﴾ وصفٌ لما هو الأصل والشأن المعهود في العلاقات، وكما يقال: شَبيهُ الشيءِ مُنجذبٌ إليه، ومناسبةُ الإخبار عن هذا الشأن جليَّة؛ فالرسول - بأبي هو وأمِّي- أطيَبُ الخلق وأزكاهم وأصفاهم، وقد اختار الله له أطيَبَ النساء، حتى منَعَه مِن الزواج بغيرهنَّ:
﴿لَّا یَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَاۤءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَاۤ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَ ٰجࣲ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ﴾ [الأحزاب: 52]، فلو لم يكُنَّ مُناسِباتٍ له وجديرات به لما تمسَّك بهنَّ اختيارًا، ولما خصَّه الله بهنَّ تقديرًا.
﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا یَقُولُونَۖ﴾ بمعنى أنَّ الطيبين والطيبات مُبرَّؤون مما يَرمِيهم به الخبيثون والخبيثات.
﴿حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُواْ﴾ حتى تستأذنوا، وفي الاستئناس معنًى دقيقٌ مُضافٌ إلى الاستئذان، وهو اختيار الوقت المناسب الذي يبعث على الراحة والأُنس.
﴿فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ فِیهَاۤ أَحَدࣰا فَلَا تَدۡخُلُوهَا حَتَّىٰ یُؤۡذَنَ لَكُمۡۖ وَإِن قِیلَ لَكُمُ ٱرۡجِعُواْ﴾ حالتان ينهى الله فيهما عن دخول بيوت الآخرين: ألا يكون فيها أحد، وأن يكون فيها أهلها لكنهم لم يأذَنوا لمَن استأذن عليهم، وهذا مِن حقِّهم؛ لأنَّهم أعلَمُ بحالهم وبمَن معهم.
والتحرُّج في هذا مِن قِبَلِهم أو مِن قِبَل المستأذن تحرُّجٌ في غير محله، وهو مُنافٍ لحالة الصفاء وحُسن الظنِّ فيما بين المؤمنين؛ ولذلك عقَّب بقوله:
﴿هُوَ أَزۡكَىٰ لَكُمۡۚ﴾ أي: أطهر لقلوبكم، وأصفى لعلاقاتكم.
﴿لَّیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَدۡخُلُواْ بُیُوتًا غَیۡرَ مَسۡكُونَةࣲ فِیهَا مَتَـٰعࣱ لَّكُمۡۚ﴾ استثناء تقتضيه المصلحة، فهناك بيوت لم تُعدَّ للسكنى أصلًا؛ كالأماكن العامة المعدَّة مثلًا لخدمة الزوَّار، والمسافرين، وطلاب العلم، فهذه لا تحتاج إلى استئذان ولا استئناس.
﴿قُل لِّلۡمُؤۡمِنِینَ یَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَـٰرِهِمۡ وَیَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ﴾ نهى عن السبب أولًا؛ إذ النظر المُحرَّم سببٌ في انتهاك الحرمات، والوقوع في المنكرات، سواء كان من الرجل أو من المرأة؛ ولذلك قال بعدها:
﴿قُل لِّلۡمُؤۡمِنِینَ یَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَـٰرِهِمۡ وَیَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ﴾.
﴿وَلَا یُبۡدِینَ زِینَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ﴾ إذ زينة المرأة ليست للرجال الأجانب، وقد وقع الاستثناء فيما يصعب إخفاؤه، أو ظهر منها عن غير قصد.
وللعلماء في وجه المرأة وكفيَّها كلامٌ لا يتَّسِعُ له المقام، وهي مسألةٌ لم يَرِد فيها نصٌّ قاطِعٌ؛ ولذاك جرى فيها الخلاف، وساغ فيها الاجتهاد، والله أعلم.
﴿وَلۡیَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُیُوبِهِنَّۖ﴾ الخُمُر: جمع خمار، وهو: غطاء الرأس، والجيوب: الصدور، والمعنى أن تستر المرأة رأسها بالخمار، ثم تلفُّه على عُنقها، وتُسدِلُه على صدرها.
﴿وَلَا یُبۡدِینَ زِینَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَاۤىِٕهِنَّ﴾ ما يجوز للمرأة أن تُبدِيه لبَعلِها غير ما يجوز لها أن تُبدِيه لأبيها ومَن بعده مِن الرجال المحارم الذين ذكَرَتْهم هذه الآية، وهذا مُقتضى الفطرة والنقل والعقل، أما إذا كان المقصود بالزينة ما تتزيَّن به المرأة في العادة؛ كالقُرط، والسوار، والخلخال - وهو ظاهر النص - فلا فرق في الاستثناء، والله أعلم.
﴿أَوۡ نِسَاۤىِٕهِنَّ﴾ أي: يجوز لها أن تُبدِي زينتها لمن معها من النساء المؤتمنات.
﴿أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُهُنَّ﴾ من الإماء ولو كُنَّ مُشركات، فالأَمَة تخدمها وتدخل عليها، فلا يصح احتجابها عنها، وأما العبد فالأصل فيه المنع، وخلاف الفقهاء فيه معروف وليس هنا محله.
﴿أَوِ ٱلتَّـٰبِعِینَ غَیۡرِ أُوْلِی ٱلۡإِرۡبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ﴾ هم الرجال الذين يتبَعون الناس ولا يستقِلُّون برأيٍ ولا عملٍ؛ لعاهةٍ مُقعِدةٍ لهم، أو عَتَهٍ وبَلَهٍ، بشرط ألا يُعرف عنهم المَيْل الغريزي للنساء، فإن عُرف عنهم ذلك وجَبَ الاحتجابُ، فربما كان المجنون والمعتوه أجرَأَ من غيره، وأبعَدَ عن معاني الاحتشام والمروءة.
﴿أَوِ ٱلطِّفۡلِ﴾ اسم جنس، والمقصود: الأطفال؛ ولذلك عقَّبَ بالجمع فقال:
﴿ٱلَّذِینَ لَمۡ یَظۡهَرُواْ عَلَىٰ عَوۡرَ ٰتِ ٱلنِّسَاۤءِ ۖ﴾ أي: لم يعرفوها لعدم التمييز.
﴿وَلَا یَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِیُعۡلَمَ مَا یُخۡفِینَ مِن زِینَتِهِنَّۚ﴾ أي: لا تضرب برجلها الأرض ليسمع الرجال صوت خلخالها، فهذا مع ما فيه مِن قصدٍ مُنافٍ للستر، أمارةٌ على خفَّتها، وقلة احتشامها، مما يُجرِّئ عليها السفهاء ونحوهم.
﴿وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَیَـٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّـٰلِحِینَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَاۤىِٕكُمۡۚ﴾ أي: زوِّجُوا الأيامى وساعِدُوهم على الزواج، والأيامى: جمع أيِّم، وهو من لا زوج له مِن الرجال والنساء، بِكرًا كان أو ثيِّبًا.
﴿إِن یَكُونُواْ فُقَرَاۤءَ یُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ﴾ إرشادٌ للناس وحثٌّ لهم على المُبادَرَة بالزواج والتزويج، وألا يكون الفقر حائِلًا دونه، وفيه وَعدٌ لطيفٌ بفتح بابٍ للرزق لمن رضِيَ بالفقير أو الفقيرة، وأبواب الله واسعة لا يحُدُّها حدٌّ، ولا يمنعها سدٌّ.
﴿وَلۡیَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِینَ لَا یَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ یُغۡنِیَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ﴾ أمر بالاستعفاف والصبر لكلِّ راغبٍ بالزواج مع عدم القدرة عليه، وفي الآية وَعدٌ خفيٌّ بالفرج والرزق.
﴿وَٱلَّذِینَ یَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِیهِمۡ خَیۡرࣰاۖ﴾ أمر للسادة بشأن العبد الذي يَشتري حريَّتَه بما يكسبه من عمله، وبما يُقدِّمه له إخوانُه المسلمون مِن عونٍ، فالأمر صريحٌ بالمكاتبة، وهذا مِن تشجيع الإسلام على تضييق مساحة الرِّقِّ، وتوسيع مساحة الحرية، وهو المناسب لكلِّ التشريعات الإسلاميَّة المتعلقة بالكفَّارات، ومطلق القُرُبات.
وربما كانت المناسبة للسياق: أن هذا العبد يرغب بالزواج بعد التحرُّر، وهو الأصل الذي ينشُدُه كلُّ آدمي مُستقِلٌّ بإرادته.
وأما قوله:
﴿إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِیهِمۡ خَیۡرࣰاۖ﴾ فمعناه: إن ترجَّح لديكم أنه قادرٌ على الكسب والاستقلال بنفسه، والله أعلم.
﴿وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِیۤ ءَاتَىٰكُمۡۚ﴾ ترغيبٌ في معاونة المكاتب للإسراع في تحرُّره وتخفيف الأعباء عنه، وهي دلالةٌ أخرى على رغبة الإسلام في فكِّ قيُود العبودية، وتحرير مَن يمكن تحريره من الرقيق.
﴿وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَیَـٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَاۤءِ﴾ تحريمٌ صريحٌ ومُنسجمٌ مع نصوص الوحي ومبادئ التشريع وأحكامه، وفيه توبيخٌ للمشركين الذين كانوا يُكرِهون إماءَهم على البغاء.
وقوله:
﴿إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنࣰا﴾ ليس على سبيل التحرُّز، بل هو زيادةٌ في استِقباح فعلهم، كأنه يقول لهم: كيف تُكرِهوهُنَّ على البِغاء استغلالًا لضعفهنَّ، وقلة حيلتهنَّ، وأنتم تعلمون أنَّهنَّ يَكرَهْنَ ذلك؛ لأنه مُنافٍ لفِطرتهنَّ، وانتهاكٌ لآدميَّتهنَّ؟
﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَ ٰهِهِنَّ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾ غفورٌ لهنَّ ورحيمٌ بِهنَّ؛ لأنَّهُنَّ مُكرَهات ولَسْنَ مُختارات، وإنما الوِزرُ على من ظلَمَهُنَّ وأكرههُنَّ، ليبتغي بشرفهنَّ عَرَضًا مِن المال الزائل.