﴿أَنِ ٱئۡتِ ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ فيه أنَّ الحقَّ هو الذي يأتي على الباطل ليُغيِّرَه، فإن قصَّر أهلُ الحقِّ في هذا دهَمَهم الباطلُ وأذلَّهم.
﴿وَیَضِیقُ صَدۡرِی وَلَا یَنطَلِقُ لِسَانِی﴾ شرطان في الداعية الناجح: سعة الصدر، وطلاقة اللسان؛ فإنَّ ضَيِّقَ الصدرِ يغلِب عليه الغضب، وانسداد الأفق، ومُنغلِقُ اللسان ينقُصُه البيان، فيغلِبُه خصمه ولو كان الحقُّ معه.
﴿قَالَ كَلَّاۖ فَٱذۡهَبَا بِـَٔایَـٰتِنَاۤۖ إِنَّا مَعَكُم مُّسۡتَمِعُونَ﴾ فيه ثلاثة تطمِينات؛ (كلا) المُتضمِّنة هنا نفي الخوف الذي أبداه موسى من ضيق الصدر، وانغِلاق اللسان، ثم مِن بطش فرعون وقومه، وتأييدهما بالآيات والمعجزات، والمعيَّة الإلهية المصاحبة لهما
عليهما السلام.
﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ أفرد الوصف لهما بإشارة إلى أن رسالتهما واحدة.
﴿أَنۡ أَرۡسِلۡ مَعَنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ﴾ للعودة بهم مِن حيث جاء آباؤهم؛ يعقوب وأولاده
عليهم السلام.
﴿وَفَعَلۡتَ فَعۡلَتَكَ﴾ بقتل المصري الذي كان مِن قوم فرعون.
﴿وَأَنَا۠ مِنَ ٱلضَّاۤلِّینَ﴾ لأن تلك الفعلة كانت قبل النبوَّة، وفيه أنَّ الداعية ينبغي أن يعترِفَ بخطئه مهما كان، وألَّا ينشغل بالدفاع عن نفسه كثيرًا، فيتحول الحوار من مسار الدعوة والإصلاح إلى حالةٍ من المماحكات الشخصية، مع أنَّ موسى
عليه السلام كان قادرًا على تسويغ فعله بأنه كان دفاعًا عن المستضعفين والمظلومين، لكن هذا يحرِف الحوار بعيدًا عن مساره وغايته.
﴿وَتِلۡكَ نِعۡمَةࣱ تَمُنُّهَا عَلَیَّ أَنۡ عَبَّدتَّ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ﴾ كأنَّه يقول له: كيف تمُنُّ عليَّ بسنوات التربية تلك، وأنت تُعذِّب قومي وتتخذهم عبيدًا؟!
﴿أَلَا تَسۡتَمِعُونَ﴾ على سبيل التهكُّم والاستخفاف؛ ولذلك قال بعدها:
﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِیۤ أُرۡسِلَ إِلَیۡكُمۡ لَمَجۡنُونࣱ﴾ ويلحظ هنا أن موسى
عليه السلام كان يمضِي في بيان الحقِّ الذي معه ولا يلتفت لهذا التهكُّم وهذا السباب، وكأنه لم يسمعه.
﴿وَنَزَعَ یَدَهُۥ فَإِذَا هِیَ بَیۡضَاۤءُ لِلنَّـٰظِرِینَ﴾ أخرج يده من جيبه فإذا بها بيضاء من غير سوء.
﴿یُرِیدُ أَن یُخۡرِجَكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم﴾ تهمةٌ باطلةٌ؛ لأنَّ موسى كان يطلب الخروج بقومه من أرض مصر كلِّها.
﴿قَالُوۤاْ أَرۡجِهۡ﴾ أي: أخِّره ريثما يجتمع السحرة.
﴿وَٱبۡعَثۡ فِی ٱلۡمَدَاۤىِٕنِ﴾ المدن والقرى والنواحي التي يعيش فيها السحرة.
﴿فَلَمَّا جَاۤءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرۡعَوۡنَ أَىِٕنَّ لَنَا لَأَجۡرًا إِن كُنَّا نَحۡنُ ٱلۡغَـٰلِبِینَ﴾ إنَّهم لا يشترطون على فرعون، فهم دون ذلك، لكنَّه إظهارٌ لتمكُّنهم، ورغبة بإظهار طابعٍ من الاحتفال على هذه المبارزة.
﴿تَلۡقَفُ مَا یَأۡفِكُونَ﴾ تبتلع ما صنعوه من الخداع والكذب، وفيه أنَّ السِّحْرَ لم تكن له حقيقة، ولم تتغيَّر به الأشياء، يؤكِّد هذا قوله تعالى في موضعٍ آخر:
﴿یُخَیَّلُ إِلَیۡهِ مِن سِحۡرِهِمۡ أَنَّهَا تَسۡعَىٰ﴾ [طه: 66]، وقوله:
﴿سَحَرُوۤاْ أَعۡیُنَ ٱلنَّاسِ﴾ [الأعراف: 116].
﴿قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ﴾ يستنكِرُ عليهم الإيمان بالآيات التي رأوها مع موسى بل أن يأخذوا الإذنَ منه، وهذا دأبُ الفراعنة في كلِّ زمانٍ ومكان، يستعبِدُون الناس حتى في أفكارهم ومُعتقداتهم.
﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَیۡدِیَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَـٰفࣲ﴾ تهديدٌ بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى من كل ساحر آمن بموسى وهارون.
﴿قَالُواْ لَا ضَیۡرَۖ إِنَّـاۤ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ لا ضَير أي: لا ضرر، والمقصود أنَّهم لا يخشون من هذا التهديد؛ لأنَّه ضررٌ مؤقَّتٌ وزائلٌ في مقابل نعيمٍ دائمٍ ينتظرهم بعد موتهم.
﴿أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِیۤ إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾ أي: امشِ بهم في الليل؛ فإن فرعون وجنده سيتبعونكم، والمقصود أن يخرج موسى ببني إسرائيل ليلًا حتى يصِلُوا البحرَ قبل أن يلحَقَ بهم فرعون.
﴿إِنَّ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ لَشِرۡذِمَةࣱ قَلِیلُونَ﴾ الشِّرذمة: المجموعة القليلة من الناس، وقليلون تأكيد لمعنى القِلَّة.
﴿وَإِنَّهُمۡ لَنَا لَغَاۤىِٕظُونَ﴾ أي: قد أغضبونا بخروجهم واتِّباعهم لموسى وأخيه من دون إذنٍ منا.
﴿وَإِنَّا لَجَمِیعٌ حَـٰذِرُونَ﴾ يعني: أنَّه وملأه وجنده في حالةٍ من اليقظة والحذر، كأنَّه يُطمئِن قومه.
﴿فَأَتۡبَعُوهُم مُّشۡرِقِینَ﴾ أي: تعقَّبُوهم مُتوجِّهين جهةَ الشرق، ولا يبعُد أيضًا أنه قصدَ الوقت، وهو وقت الشروق، بمعنى أن بني إسرائيل ساروا ليلًا، فخرج فرعون وراءهم مع شروق الشمس.
﴿فَأَخۡرَجۡنَـٰهُم مِّن جَنَّـٰتࣲ وَعُیُونࣲ ﴿٥٧﴾ وَكُنُوزࣲ وَمَقَامࣲ كَرِیمࣲ﴾ أي: أخرجنا فرعون وجنده، من مُلكهم وسلطانهم، وأموالهم وبساتينهم.
﴿كَذَ ٰلِكَۖ وَأَوۡرَثۡنَـٰهَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ﴾ أي: أورثنا بني إسرائيل نعيمًا وملكًا بعد خروجهم، ولا يمكن أن يكون هذا عين ما كان تحت فرعون وقومه؛ لأنَّ بني إسرائيل لم يرجعوا إلى مصر بعد خروجهم، فيكون الضمير في
﴿وَأَوۡرَثۡنَـٰهَا﴾ يعود إلى جنس تلك النعم لا إلى أعيانها، إلا إذا كان المقصود به المال الذي كان مع فرعون وجيشه، والذي ربما سلَبَه بنو إسرائيل منهم بعد هلاكهم، وذلك قوله تعالى:
﴿حُمِّلۡنَاۤ أَوۡزَارࣰا مِّن زِینَةِ ٱلۡقَوۡمِ﴾ [طه: 87]، فيكون من باب إطلاق الكلِّ وإرادة الجزء، والله أعلم.
﴿فَلَمَّا تَرَ ٰۤءَا ٱلۡجَمۡعَانِ﴾ جمع موسى
عليه السلام، وهم بنو إسرائيل، وجمع فرعون.
﴿قَالَ أَصۡحَـٰبُ مُوسَىٰۤ إِنَّا لَمُدۡرَكُونَ ﴿٦١﴾ قَالَ كَلَّاۤۖ إِنَّ مَعِیَ رَبِّی سَیَهۡدِینِ﴾ استحضر موسى في هذا الموقف العصيب - الذي ارتجَفَت فيه قلوبُ أصحابه - معيَّةَ الله ووعده الأكيد له.
وهذا الوعدُ ليسَ سنَّة ثابِتة في كلِّ صراعٍ، كما يُردِّد بعضُ الوُعَّاظ، وبعَضُ القيادات الإسلامية المعاصرة؛ فموازينُ القوى حاكمة، وسُنن الله في الكون لا تتخلَّف، وخوارق العادات ليست أصلًا في هذه الحياة، لكننا نرجُو الله وندعوه، ونعدُّ العُدَّة الكافِية، ونتوكَّل على الله دون أن نتألَّى عليه ـ، ولله أن يبتَلِي عبادَه ب
النصر أو الهزيمة وفْق حكمته تعالى، وإرادته المطلقة التي لا تخضع لرغباتنا وتصوّراتنا، والله أعلم.
﴿فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرۡقࣲ كَٱلطَّوۡدِ ٱلۡعَظِیمِ﴾ أي: انحسر ماءُ البحر إلى الجانبَين، فكان الماءُ في كلِّ جانب مثل الجبل العظيم، وهذه معجزة لموسى
عليه السلام لا يُقاس عليها، والله يفعل ما يريد.
﴿وَأَزۡلَفۡنَا ثَمَّ ٱلۡـَٔاخَرِینَ﴾ أي: استدرجنا فرعون وجنده، فدخلوا خلف بني إسرائيل فيما بين الطودَين، ومعنى أزلفنا أي: قرَّبناهم من ذلك المكان.
﴿إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰۖ وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِینَ﴾ أي: هذا الذي حصل لفرعون فيه العبرة الكافية لمن يبحث عن الحق، لكن الناس - ومنهم أهل مكة - لا يتَّعِظُون ولا يعتَبِرُون، وقد تكرَّرَت هذه الآية بعد كلِّ قصَّةٍ من
القصص الواردة في هذه السورة.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ﴾ فبعزَّته أغرق فرعون وجنده، وبرحمته أنجَى موسى وجمعَه.