سورة القصص تفسير مجالس النور الآية 77

وَٱبۡتَغِ فِیمَاۤ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأَخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِیبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡیَاۖ وَأَحۡسِن كَمَاۤ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَیۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِی ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِینَ ﴿٧٧﴾

تفسير مجالس النور سورة القصص

المجلس السادس والسبعون بعد المائة: دروس من قصة قارون وتوجيهات ختامية


من الآية (76- 88)


في الآيات الأخيرة من هذه السورة يعرض القرآن صورة مركبة، تجمع بين تاريخ الدعوة وواقعها، فتأخذ قطعةً من تاريخ الدعوة الموسويَّة لتدمجه مع الواقع الذي تعيشه الدعوة المحمديَّة في مكة، مع ومَضَات جليَّة من التوجيهات الربانيَّة، وبسياق يُؤكِّد أننا في مدرسةٍ واحدةٍ مهما تباعَدَت أيامها، واختَلَفَت أماكنها:
أولًا: يعرض القرآن هنا قصة قارون؛ ذلك الرجل المليء، الذي أنعَمَ الله عليه بالمال حتى غَدَا مضرِبَ المثل الذي لا يُنافِسُه أحد، وكان من قوم موسى، فأغراه مالُه بالخروج عنهم، واختيار طريق الغواية والباطل ﴿۞ إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَیۡهِمۡۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَاۤ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوۤأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِی ٱلۡقُوَّةِ﴾.
ثانيًا: يذكر القرآن أن قومه كانوا يدعونه إلى الخير، ويُحاولون نُصحَه وإنقاذه من هاوية الضلال التي أوقع نفسه فيها ﴿إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡفَرِحِینَ ﴿٧٦﴾ وَٱبۡتَغِ فِیمَاۤ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأَخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِیبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡیَاۖ وَأَحۡسِن كَمَاۤ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَیۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِی ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِینَ﴾.
ثالثًا: يرُدُّ عليهم قارونُ بلغة المُتغطرِس المغرور الذي ينسِبُ النعمةَ إلى نفسه، ولا ينسبها إلى المُنعِم تبارك وتعالى ﴿قَالَ إِنَّمَاۤ أُوتِیتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِیۤۚ أَوَلَمۡ یَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةࣰ وَأَكۡثَرُ جَمۡعࣰاۚ وَلَا یُسۡـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ﴾.
رابعًا: كان الناس يتفاوتون في نظرتهم إليه؛ فأما أهلُ الدنيا فكانوا يتمنَّون أن يكونوا مثلَه، وأما أهلُ العلم فكانوا يُحذِّرون مِن طريقته وأسلوبه في الحياة، وعاقبته التي تنتظره وتنتظر أمثالَه ﴿فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ فِی زِینَتِهِۦۖ قَالَ ٱلَّذِینَ یُرِیدُونَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا یَـٰلَیۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَاۤ أُوتِیَ قَـٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِیمࣲ ﴿٧٩﴾ وَقَالَ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَیۡلَكُمۡ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَیۡرࣱ لِّمَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰاۚ وَلَا یُلَقَّىٰهَاۤ إِلَّا ٱلصَّـٰبِرُونَ﴾.
خامسًا: لقِيَ قارونُ جزاءَه في الدنيا قبل الآخرة؛ ليكون عبرةً لكل مُعتبِر ﴿فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةࣲ یَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِینَ ﴿٨١﴾ وَأَصۡبَحَ ٱلَّذِینَ تَمَنَّوۡاْ مَكَانَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ یَقُولُونَ وَیۡكَأَنَّ ٱللَّهَ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَیَقۡدِرُۖ لَوۡلَاۤ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَیۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ وَیۡكَأَنَّهُۥ لَا یُفۡلِحُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾.
سادسًا: نبَّهَ القرآن الكريم إلى الحقيقة التي ينبغي أن يقِف عندها الإنسان طويلًا، والعبرة التي ينبغي أن يتدبَّرَها كلُّ عاقلٍ من قصة قارون وعاقبته البائِسة، فالدنيا زائِلةٌ بزينتها وبهرجها ومتاعها وأموالها، وإنما العاقبة للتقوى وعمل الخير ﴿تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِینَ لَا یُرِیدُونَ عُلُوࣰّا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادࣰاۚ وَٱلۡعَـٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِینَ﴾.
سابعًا: يؤكِّد القرآن مبدأ العدل الإلهي، فللمُحسِن الحسنى ومزيد فضل، وليس للمُسيء إلا جزاء سيئته ﴿مَن جَاۤءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَیۡرࣱ مِّنۡهَاۖ وَمَن جَاۤءَ بِٱلسَّیِّئَةِ فَلَا یُجۡزَى ٱلَّذِینَ عَمِلُواْ ٱلسَّیِّـَٔاتِ إِلَّا مَا كَانُواْ یَعۡمَلُونَ﴾.
ثامنًا: يؤكِّد القرآن للنبيِّ الخاتم سيدنا محمد أنه مهما طالَت مُعاناته مع قومه وهم في كِبْرهم وعنادهم ومكرهم، فإن يوم المعاد بانتظاره وانتظارهم، ذلك اليوم الذي سيرفعه الله فيه مقامًا محمودًا، وسيسعَد به أصحابه ومُحِبُّوه وأتباعه، وسيشقَى فيه مَن كذَّبه وعاداه وعانَده، وهو خطابٌ كذلك لكلِّ داعٍ للحق إلى يوم الدين ﴿إِنَّ ٱلَّذِی فَرَضَ عَلَیۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لَرَاۤدُّكَ إِلَىٰ مَعَادࣲۚ قُل رَّبِّیۤ أَعۡلَمُ مَن جَاۤءَ بِٱلۡهُدَىٰ وَمَنۡ هُوَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ﴾.
تاسعًا: يؤكِّد القرآن الاصطفاء الإلهي لهذا النبيِّ الكريم ، وأن الله خصَّه بهذا القرآن على غير تطلُّع منه ولا تشوُّف ﴿وَمَا كُنتَ تَرۡجُوۤاْ أَن یُلۡقَىٰۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبُ إِلَّا رَحۡمَةࣰ مِّن رَّبِّكَۖ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِیرࣰا لِّلۡكَـٰفِرِینَ﴾.
عاشرًا: يُوصِي القرآن كلَّ مؤمن مُوحِّد بثلاث وصايا - وإن جاءت صيغةُ الخطاب لرسول الله خاصَّة -، وهي:
- التمايُز عن أهل الكفر والضلال، وعدم مُعاونتهم في كفرهم وضلالهم ﴿فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِیرࣰا لِّلۡكَـٰفِرِینَ﴾، ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ﴾.
- الدعوة إلى الحق، وعدم الاكتِفاء بالعزلة عن الباطل؛ إذ بين الحق والباطل صراعُ وجود لا صراعَ حدود ﴿وَٱدۡعُ إِلَىٰ رَبِّكَۖ﴾.
- الثبات على عقيدة الحق، عقيدة التوحيد الخالص ﴿وَلَا تَدۡعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَۘ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ كُلُّ شَیۡءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجۡهَهُۥۚ لَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾.


﴿۞ إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ﴾ أي: من بني إسرائيل.
﴿فَبَغَىٰ عَلَیۡهِمۡۖ ﮯ﴾ خرج عليهم بظُلمه لهم، وتكذيبه لنبيِّهم، ومُمالَأَته لعدوِّهم.
﴿مَفَاتِحَهُۥ﴾ جمع مِفتاح.
﴿لَتَنُوۤأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِی ٱلۡقُوَّةِ﴾ أي: إن حَملَ مفاتيحه كان يُثقِل الجماعةَ القويَّةَ من الرجال، فكيف بخزائِنه!
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡفَرِحِینَ﴾ هو الفرح بالبغي والتعالِي على الحق، أما أصلُ الفرح فمشروعٌ، ولذلك قال تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثۡ﴾ [الضحى: 11]، وقال: ﴿فَبِذَ ٰ⁠لِكَ فَلۡیَفۡرَحُواْ هُوَ خَیۡرࣱ مِّمَّا یَجۡمَعُونَ﴾ [يونس: 58].
﴿وَٱبۡتَغِ فِیمَاۤ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأَخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِیبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡیَاۖ﴾ التوازن والاعتدال، فهذا المالُ نعمة، والأجدَرُ بصاحبها أن يستعمِلَها فيما يُحقِّقُ سعادتَه في الدنيا والآخرة، وجاء التوجيهُ بقوله: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِیبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡیَاۖ﴾، مع أن الإنسان ليس من شأنه أن ينسَى هذا؛ ولكن لأنه سُبِق بذكر الآخرة، فقد يتوهَّم السامع أن العمل للآخرة يستدعي إهمالَ الدنيا.
﴿وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِی ٱلۡأَرۡضِۖ﴾ إشارةٌ لخطورة المال إذا استُعمِل في طرُق الفساد.
﴿قَالَ إِنَّمَاۤ أُوتِیتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِیۤۚ﴾ أي: بقوَّتي وخبرتي وبما أستحقُّه من فضلي ومكانتي.
﴿وَلَا یُسۡـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ﴾ وصفٌ ليوم من أيام الآخرة لا يملك فيه المجرمون سؤالًا ولا جوابًا، فهم يعرفون مصيرَهم، والله أعلَمُ بحالهم، فلا يسألهم سؤالَ المُستفهِم، وإنما يسألهم سؤالَ التقريع واللوم والإذلال، وسيُجيبُونه - كما ورد آنفًا - بما يؤكِّد ندَمَهم وإقرارهم بجريمتهم، وذلك في وقتٍ مخصوصٍ للحساب، وفي غير هذا، فإنَّ الله لا يُكلِّمهم ولا يقبَلُ منهم قولًا ولا جوابًا.
﴿یَـٰلَیۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَاۤ أُوتِیَ قَـٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِیمࣲ﴾ هذا هو مِعيارُ أهل الدنيا الغافلين عن الله واليوم الآخر؛ فصاحِبُ الحظِّ العظيم هو من يملِك هذا المتاع وهذه الزينة، وإن كان سيُغادِرُها مُجرًّدًا منها ومن كل شيء.
﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَیۡلَكُمۡ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَیۡرࣱ﴾ فالعلماء ينظُرون أبعَدَ مما ينظر أهلُ الجهل وأهلُ الغفلة، فمعايِيرُ السعادة عندهم لا تحكمها الشهوة الزائلة، ولا اللحظة العابرة.
﴿وَلَا یُلَقَّىٰهَاۤ إِلَّا ٱلصَّـٰبِرُونَ﴾ إشارة إلى أن مقاومة هذا الإغراء والإغواء بحاجةٍ إلى صبرٍ مُتأصِّلٍ في النفوس، لا تُطِيحُ به التصوُّرات القاصرة، ولا المنافسات الباطلة.
﴿فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ﴾ ليكون عبرةً إلى يوم الدين، وجاء الخسف مناسبًا لتطاوله وتعالِيه على قومه وعلى النبوَّة والحق الذي كان معهم.
﴿فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةࣲ یَنصُرُونَهُۥ﴾ رغم كثرة خدَمه وحشَمه.
﴿وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِینَ﴾ بنفسه.
﴿وَأَصۡبَحَ ٱلَّذِینَ تَمَنَّوۡاْ مَكَانَهُۥ﴾ أي: الذين تمنَّوا أن يكونوا بمكانه ومكانته من المال والجاه، وهم الذين تقدَّم قولهم: ﴿یَـٰلَیۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَاۤ أُوتِیَ قَـٰرُونُ﴾.
﴿وَیۡكَأَنَّ﴾ كلمة مركبة لإرادة التعجُّب، وأصلها: (ويْ) وهي اسم فعل للتعجب، وقد أُضيف إليها كاف الخطاب للتنبيهِ إليها، ودمجت مع (أنَّ) التي تُفيد التوكيد.
﴿یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَیَقۡدِرُۖ﴾ أي: يُوسِّع على من يشاء، ويُضيِّق على من يشاء؛ لحكمةٍ لا تخفَى، من تسخير بعض الناس لبعض، ولو كانوا على مستوى واحد لضاعَت الأعمال والمِهَن، وهم في كل ذلك مُبتلَون ومُمتَحَنون؛ فالغنيُّ مُبتلَى بالفقير، والفقير مُبتلَى بالغنيِّ، والسعيدُ من عرَفَ واجبه وأدَّى حقَّه أينما كان، وكيفما كان.
﴿لَوۡلَاۤ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَیۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ﴾ بمعنى أنَّ الله منَّ عليهم فلم يستجِب لدعائهم أو تمنِّيهم الأول بأن يكونوا مثل قارون، وهذه إشارةٌ أنَّ الإنسان لا يعلم الغيب، فلا ينبغي أن يستعجِل في دعائه، ولا أن يشعر بالغَبن أو اليأس وهو يرى أُمنياته بعيدة، فالخيرُ لا يعلمه إلا الله، وكم من غِنًى افتَتَنَ به صاحبه فأورَدَه المهالك، وكم من فقرٍ صبَرَ عليه صاحبه فكان سببًا لعزته ورفعته.
﴿تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِینَ لَا یُرِیدُونَ عُلُوࣰّا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادࣰاۚ﴾ بمعنى أن الدنيا فيها هذا التفاوت في الرزق، وليس فيه دليل على محبة الله لهذا ولا بُغضه لذاك، أما الآخرة فتكون خالصةً للصالحين الذين نجحوا في دار الاختبار، فلم يطلبوا علوًّا ولا فسادًا.
والعلوُّ هنا: التكبُّر المُقترِن بالفساد، أما العلوُّ بالإيمان، وطلب السموِّ والعزَّة والهمَّة العالية فهذا مِن شأن المؤمن الموصول بالله ﴿وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ﴾ [آل عمران: 139].
﴿مَن جَاۤءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَیۡرࣱ مِّنۡهَاۖ﴾ ذلك فضلُ الله وكرَمُه.
﴿وَمَن جَاۤءَ بِٱلسَّیِّئَةِ فَلَا یُجۡزَى ٱلَّذِینَ عَمِلُواْ ٱلسَّیِّـَٔاتِ إِلَّا مَا كَانُواْ یَعۡمَلُونَ﴾ ذلك عدلُ الله تبارك وتعالى.
﴿إِنَّ ٱلَّذِی فَرَضَ عَلَیۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لَرَاۤدُّكَ إِلَىٰ مَعَادࣲۚ﴾ أي: إلى ذلك اليوم الموعود، وهو يوم الحوض، والمقام المحمود، والشفاعة العُظمى، فصلَّى الله عليك وسلَّم يا رسول الله، وحشَرَنا تحت لوائك، وفي زُمرتك وبين إخوانك وصحبك.
هذا الذي نراه أرجح في السياق، فالحديث عن الآخرة وكونها خالصةً للمؤمنين، وفيه تسلِيةٌ له وللصحابة المعذَّبين تحت سِياط المُترَفين والمتكبِّرين والمُفسِدين، كما أن السورة مكيَّة، فيبعُد أن يكون المراد إخباره بالرجوع إلى مكة بعد الهجرة، والله أعلم.
﴿فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِیرࣰا لِّلۡكَـٰفِرِینَ﴾ أي: مُعِينًا لهم، والخطابُ للأمة في شخصِه فهو المُبلِّغ، وهو القُدوة، كما قال في موضع آخر: ﴿لَىِٕنۡ أَشۡرَكۡتَ لَیَحۡبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر:65]، ورسولُ الله مُنزَّهٌ عن كل ذلك.
وهنا لطيفةٌ دقيقةٌ: أنَّ هذا التوجيهَ جاء بعد قصَّة موسى على نبيِّنا وعليه الصلاة والسلام، وقد جاء فيها قول موسى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَاۤ أَنۡعَمۡتَ عَلَیَّ فَلَنۡ أَكُونَ ظَهِیرࣰا لِّلۡمُجۡرِمِینَ﴾ في تأكيدٍ مُستمر على وحدة الرسالات السماوية بصورةٍ عامَّةٍ، وصلةُ هذه الدعوة المحمديَّة بالدعوة الموسويَّة بصورةٍ خاصَّةٍ.
﴿وَلَا یَصُدُّنَّكَ عَنۡ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ﴾ لا يصرفنَّك عنها، والقول فيها كالقول في سابقتها.
﴿وَٱدۡعُ إِلَىٰ رَبِّكَۖ﴾ أمر بالدعوة، في حقِّه وفي حقِّ أمته من بعده إلى يوم الدين.
﴿كُلُّ شَیۡءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجۡهَهُۥۚ﴾ فلا ينبغي للمؤمن أن يتعلَّق قلبُه بغيره سبحانه، فكل ما عداه هالكٌ وفانٍ.