سورة العنكبوت تفسير مجالس النور الآية 54

یَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلۡعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَةُۢ بِٱلۡكَـٰفِرِینَ ﴿٥٤﴾

تفسير مجالس النور سورة العنكبوت

المجلس الثمانون بعد المائة: العاقبة والمصير المحتوم


من الآية (53- 69)


بعد هذا الحوار وما تضمَّنه من قواعد ومبادئ، شَرَعَ القرآن بتذكير هؤلاء الناس بالمصير المحتوم الذي ينتظر الجميع، والذي سيلقَى فيه كلُّ الناس نتيجة أعمالهم، وحصاد حياتهم ومسيرتهم على هذه الأرض:
أولًا: يذكُرُ القرآن استعجال المشركين بالعذاب، وهو استعجالٌ مُتضمِّنٌ للجهل والعناد والمكابرة، غير أنَّهم إنما يُهلكون أنفسهم، فالعذاب محيطٌ بهم، وسيُواجهونه في أجَلِه المحتوم ﴿وَیَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلۡعَذَابِ وَلَوۡلَاۤ أَجَلࣱ مُّسَمࣰّى لَّجَاۤءَهُمُ ٱلۡعَذَابُۚ وَلَیَأۡتِیَنَّهُم بَغۡتَةࣰ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ ﴿٥٣﴾ یَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلۡعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَةُۢ بِٱلۡكَـٰفِرِینَ ﴿٥٤﴾ یَوۡمَ یَغۡشَىٰهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۡ وَیَقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾.
ثانيًا: يُخاطب الله عباده المؤمنين أن يتوجهوا إليه وحده، وأن لا يتشبَّثوا بحدود الطين والتراب إذا كان ذلك على حساب عقيدتهم ودينهم، وقد تقدَّم نموذج إبراهيم عليه السلام الذي ترك أرضه ومربع صباه، وهاجر بدينه إلى الله، وكأنَّ هذا التوجيه جاء ليُمهِّد الطريق ويُهيِّئ النفوس للهجرة المباركة ﴿یَـٰعِبَادِیَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ إِنَّ أَرۡضِی وَ ٰ⁠سِعَةࣱ فَإِیَّـٰیَ فَٱعۡبُدُونِ﴾.
ثالثًا: يُؤكِّد القرآن حقيقة هذه الدنيا وأنَّها ذاهِبة إلى الفناء بكلِّ مَن فيها وما فيها، وأنَّ كلَّ نفسٍ مهما كانت كبيرةً أو صغيرةً، شريفةً أو وضيعةً، حاكمةً أو محكومةً، ستذوق كأسَ الموت، ولا يُستثنى من هذا القرار أحد ﴿كُلُّ نَفۡسࣲ ذَاۤىِٕقَةُ ٱلۡمَوۡتِۖ ثُمَّ إِلَیۡنَا تُرۡجَعُونَ﴾، ﴿وَمَا هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا لَهۡوࣱ وَلَعِبࣱۚ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡأَخِرَةَ لَهِیَ ٱلۡحَیَوَانُۚ لَوۡ كَانُواْ یَعۡلَمُونَ﴾.
فالحياة التي يحكمها الموت ليست بحياةٍ على الحقيقة طالَت أم قصُرت، وإنما الحياة الحقَّة هي تلك الحياة الخالدة الباقِية التي لا يعقُبُها موت، ولا يقطعها فناء.
رابعًا: يُبيِّن القرآنُ طريقَ النجاة في تلك الحياة الخالدة الباقية ﴿وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ غُرَفࣰا تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ نِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَـٰمِلِینَ ﴿٥٨﴾ ٱلَّذِینَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ یَتَوَكَّلُونَ﴾.
إنَّه الإيمان والعمل الصالح، والصبرُ على لَأْواء الطريق ومشاقِّه وابتلاءاتِه، مع التوكُّل على الله، فهو المَولى وهو النصير، وهو على كلِّ شيءٍ قدير.
خامسًا: يُحذِّر القرآن من الانزلاق في مهاوِي الغواية والضلالة، كما هو شأنُ أولئك الذين أغلَقوا منافِذَ المعرفة فلم يسمعوا النذير، ولم يُبصروا الطريق، ولم يُفكِّروا في هذا الكون الذي يعيشون فيه ﴿وَكَأَیِّن مِّن دَاۤبَّةࣲ لَّا تَحۡمِلُ رِزۡقَهَا ٱللَّهُ یَرۡزُقُهَا وَإِیَّاكُمۡۚ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ ﴿٦٠﴾ وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ یُؤۡفَكُونَ﴿٦١﴾ ٱللَّهُ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَیَقۡدِرُ لَهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ ﴿٦٢﴾ وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَحۡیَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ مَوۡتِهَا لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ﴾.
ثم يذكرُ القرآن هنا حالةً من التقلُّب ونكُوث العهد على طريقةِ العابِثِين واللاهِثِين وراء شهواتهم وأهوائهم ﴿فَإِذَا رَكِبُواْ فِی ٱلۡفُلۡكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ إِذَا هُمۡ یُشۡرِكُونَ ﴿٦٥﴾ لِیَكۡفُرُواْ بِمَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُمۡ وَلِیَتَمَتَّعُواْۚ فَسَوۡفَ یَعۡلَمُونَ﴾.
سادسًا: يُذكِّر القرآنُ المشركين من أهلِ مكة بما أنعَمَ الله عليهم مِن نعمةِ الأمن؛ حيث الحرم الشريف الذي جعلَه الله واحةً للأمن، بينما القبائل العربية حول مكة وفي صحراء الجزيرة يغزو بعضُها بعضًا، وينهَبُ بعضُها بعضًا، وهذه نعمةٌ تستوجِبُ الشكرَ والتفكيرَ العميق ﴿أَوَلَمۡ یَرَوۡاْ أَنَّا جَعَلۡنَا حَرَمًا ءَامِنࣰا وَیُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنۡ حَوۡلِهِمۡۚ أَفَبِٱلۡبَـٰطِلِ یُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ یَكۡفُرُونَ﴾.
سابعًا: يعودُ القرآن للتحذير من أسباب الغواية والفتنة، فيذكر اثنَين منها: الكذب على الله، والتكذيب بالحقِّ.
والكذب على الله شأنُ الدعاة الضالِّين المُضلِّين الذين يصنَعون دينَهم من وحي خيالهم، ونوازع شهواتهم ومصالحهم، وهؤلاء هم السَّدنَة والكهَنَة وطبقات رجال الدين الذين يُزيِّنون للناس الباطل، ويُفتُونَهم بغير ما أنزل الله.
والتكذيب بالحقِّ الصورة المكمِّلة للتي قبلها؛ إذ التصديق بالحقِّ ينفي الباطل ويدحَضه، فكانت الديانات الباطلة والمزيَّفة تسعَى لتشويه الحقِّ وطَمسه وتكذيبه؛ لتُحافِظَ على وجودها ومصالح سدَنَتها وكهَنَتها، ومن ثَمَّ كان التكذيب بالحقِّ مُتمِّمًا لصناعة الباطل والكذبِ على الله ﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِٱلۡحَقِّ لَمَّا جَاۤءَهُۥۤۚ أَلَیۡسَ فِی جَهَنَّمَ مَثۡوࣰى لِّلۡكَـٰفِرِینَ﴾.
ثامنًا: يختِمُ القرآن هذه السورة ببيان صفة الذين يستحقون الهداية والنجاح، والنجاة من مهاوِي الفتنة والضلال ﴿وَٱلَّذِینَ جَـٰهَدُواْ فِینَا لَنَهۡدِیَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾.
والمقصود بالجهاد هنا: بذل غاية الجهد والاجتهاد لمعرفة الحقِّ والالتِزام به، والثبات عليه مهما كلَّف من جهد وتضحيات، وهذا يعني أن هؤلاء جادُّون مع أنفسهم، صادقون في توجُّههم، لا يُلهِيهم المتاع، ولا يستخِفُّهم الرعاع، وهؤلاء هم المُحسِنون حقًّا، وإن كانوا ضعفاء أو فقراء، مُحسِنون لأنَّهم أحسَنوا لأنفسهم أولًا، فأوردوها موارد الخير والهدى، ومُحسِنون لغيرهم ببذل الجهد في سبيل إنقاذهم ونُصحهم، وتقديم الخير لهم، ومُحسِنون إلى الحقيقة والعلم والمعرفة بطول البحث الهادِف، والنظر الجادِّ بصدقٍ وأمانةٍ، هؤلاء هم الناجِحُون في هذا الاختبار الكبير مهما نالَهم من وصَبٍ وتعَبٍ.


﴿وَیَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلۡعَذَابِ﴾ على سبيل الاستِهزاء أو التحدِّي، وإمعانًا في التكذيب والمُعانَدة.
﴿وَلَوۡلَاۤ أَجَلࣱ مُّسَمࣰّى﴾ في علم الله وتقديره.
﴿یَـٰعِبَادِیَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ إِنَّ أَرۡضِی وَ ٰ⁠سِعَةࣱ فَإِیَّـٰیَ فَٱعۡبُدُونِ﴾ إشارة للخروج والهجرة عن الأرض التي لا يتمكَّن المؤمنُ فيها من المُحافظَة على دينه.
﴿كُلُّ نَفۡسࣲ ذَاۤىِٕقَةُ ٱلۡمَوۡتِۖ﴾ تأكيدٌ لحتميَّة الموت بتنزيله منزلة المحسوس من المطعُومات، والتعميم على كلِّ الخلق مؤمنهم وكافرهم، إلا أنَّ تذوُّقهم له مختلفٌ باختلاف رضا الله عنهم، أو سخطه عليهم.
﴿لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ غُرَفࣰا﴾ أي: لنُنزلنَّهم.
﴿نِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَـٰمِلِینَ﴾ تأكيدٌ لقيمة العمل، وهو هنا: العمل الصالح، وأنَّ الإنسان مجزِيٌّ بعمله لا بنَسَبه ولا بجاهِه.
﴿وَكَأَیِّن مِّن دَاۤبَّةࣲ لَّا تَحۡمِلُ رِزۡقَهَا ٱللَّهُ یَرۡزُقُهَا﴾ يعني أنَّ كثيرًا من الدوابِّ التي تعيش على هذه الأرض لا تَقدِر على كسب رزقها بنفسها، ولكنَّ الله ـ يرزقها ويرعاها.
﴿وَإِیَّاكُمۡۚ﴾ أي: وكذلك يرزقكم أنتم، وفيه إشارةٌ لدفع التخوُّف من الفقر بعد أن رغَّبَهم بالهجرة من مكَّة في الآية السابقة.
﴿وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ یُؤۡفَكُونَ﴾ هذه مناقشة عميقة لعقيدة المشركين، فهم لا يعتَقِدون في أصنامهم أنَّها هي التي خلَقَت السماوات والأرض، وسخَّرَت الشمس والقمر، بل هذا لله وحده، لكنَّهم بعباداتهم وشعائرهم ونذورهم ينصرفون إلى أصنامهم، فكانت المُقدِّمة شيئًا والنتيجة شيئًا آخر.
وهذه من غرائب المعتقدات، ونموذج صارخ من انتكاسة العقل البشري، إذ إنَّ منطِق العقل السليم أنَّ الذي يستحِقُّ العبادة والدعاء، وتتوجَّه إليه القلوبُ بالتوكُّل والطمأنينة إنّما هو الذي بيده الخلق، وله القدرة على النفع والضر، والرزق والمنع، والإحياء والإماتة ـ، والآيتان التاليتان تؤكِّدان هذا المعنى وتُعمِّقانه بشواهد التوحيد المبثُوثة في هذا الكون.
﴿وَمَا هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا لَهۡوࣱ وَلَعِبࣱۚ﴾ يعني أنَّ هذه الدنيا إذا قُطِعَت عن الآخرة وعقيدة البعث والحساب والجزاء لم يَبقَ فيها سوى اللهو واللعب، والمتاع الزائل.
﴿وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡأَخِرَةَ لَهِیَ ٱلۡحَیَوَانُۚ﴾ أي: هي الحياة الجديرة بوصف الحياة؛ لأنَّها حياة دائمة لا يقطعها موت أو فناء.
﴿فَإِذَا رَكِبُواْ فِی ٱلۡفُلۡكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ إِذَا هُمۡ یُشۡرِكُونَ﴾ عَودٌ على بدءٍ في مناقشة المشركين، فبعد استِنطاق عقولهم واعترافهم بأنَّ آلهتهم لا تخلُقُ السماوات والأرض، ولا تُسخِّر الشمس والقمر، عاد هنا لاستِنطاق فِطرتهم، فهم إذا كانوا في البحر واستشعروا خطر الموت من الغرق، تراهم يلجَؤون إلى الله وحده، لكنَّهم بعد نجاتهم يتذكَّرون آلهتهم المزيَّفة تلك!
﴿لِیَكۡفُرُواْ بِمَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُمۡ وَلِیَتَمَتَّعُواْۚ﴾ تهديدٌ ووعيدٌ بصيغة الأمر.
﴿وَیُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنۡ حَوۡلِهِمۡۚ﴾ بالغزو واعتداء بعضهم على بعض.
﴿مَثۡوࣰى لِّلۡكَـٰفِرِینَ﴾ مقامٌ ومنزلٌ لهم.
﴿وَٱلَّذِینَ جَـٰهَدُواْ فِینَا﴾ بطلب الحقِّ، والسعي له، والتمسُّك به، والصبر عليه.
ومعلومٌ أنَّ هذه السورة مكيَّة، بمعنى أنَّها نزلت قبل الإذن بالقتال، ومن جعَلَ القتالَ طريقًا للعلم والهداية بهذه الآية، فالآيةُ لا تُسعِفُه، وإنما القتال في وقته داخِلٌ في مضمُون الجهاد العام المُوصِل إلى طريق الهداية، والله أعلم.
﴿لَنَهۡدِیَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ﴾ جاء بصيغة الجمع - مع أنَّ سبيلَ الله واحد - إشارة إلى كثرة طرق الخير وتنوُّعها، وكلٌّ مُيسَّرٌ لما يُناسبه ويُناسب إمكانيَّاته واستعداداته، والله أعلم وأحكم وأرحم.