استهلَّ هذا المقطع بقوله تعالى:
﴿هَـٰذَا بَیَانࣱ لِّلنَّاسِ﴾ وكأنه يسترعِي انتباه الناس لأمر عظيم، وهو كذلك؛ حيث كان المسلمون يتطلَّعون إلى تقويمٍ دقيقٍ من الوحي لذلك اليوم العصيب الذي مرَّ عليهم، ولتلك التجربة الاستثنائية وتبعاتها الثقيلة على كواهلهم، ما الذي جرى؟ وكيف ينتصر الكافرون على المؤمنين، والكافرون هم المُعتَدون، والمؤمنون هم المدافِعون؟ كيف ينهَزِم صفٌّ يقودُه نبيٌّ؟ وقد تكفَّل هذا المقطع القرآني بالإجابة عن هذه الأسئلة ونحوها:
أولًا: المعيار الحقُّ:
يُصحِّح القرآن في هذا المقطع المعيار الذي يَزِن فيه الناس مستوى النجاح والفشل؛ حيث يتنافس الناس من أجل تحقيق الغلبة والتفوق وفق معايير تحقيق الرغبات، والوصول إلى الأهداف المرسومة ولو كان بمنهج خاطئ، وسياسة ظالمة.
القرآن هنا يضع المعيار الحقَّ
﴿وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ﴾ وهي حالة ثابتة ومستقرة مع ثبات الإيمان في القلب واستقراره، فالعلوُّ الصحيح هو علوُّ المبدأ والمنهج والخُلُق، أما علوُّ الكافرين والظالمين فهو علوٌّ مغشُوش، وعاقِبَتُه إلى زوالٍ - لا محالة - بزوال الغلبة أو زوال القدرة على الاستمتاع بها.
أما علوُّ المؤمنين فهو علوٌّ ذاتي موصولٌ بالله ولو كانوا فقراء أو ضعفاء، فقد كان جُلُّ الأنبياء على هذه الحال، ولم يُمَكَّن إلا للقليلِ منهم، فالتمكينُ بالحكم والسلطان مسؤولية كبيرة، ولها شروطها ومتطلباتها، قد تتحقَّق وقد لا تتحقَّق، وقد يكون ذلك بتقصيرٍ من المؤمنين وقد لا يكون، لكنَّ هذا كله ليس هو معيارَ النجاح والفشل، فليس كلُّ غالبٍ ناجحًا، وليس كلُّ مغلوبٍ فاشلًا.
ثانيًا: مداولة
النصر والهزيمة:
تفريعًا عن المسألة الأولى يعرِض القرآن حقيقةً ملموسةً
﴿وَتِلۡكَ ٱلۡأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیۡنَ ٱلنَّاسِ﴾ فالغلبة قد تكون لهؤلاء وقد تكون لأولئك، وقد تكون للمؤمنين وقد تكون للكافرين.
وقد صرَّح القرآن بأربعة أوجه للحكمة الإلهية في ذلك
﴿ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَیَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَاۤءَۗ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ(١٤٠) وَلِیُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَیَمۡحَقَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ فاختلاف الأحوال من نصرٍ إلى هزيمةٍ ومن هزيمةٍ إلى نصرٍ من شأنه أن يكشف معادن الناس، ومستوى إيمانهم وإخلاصهم، وفيه أيضًا تكريمٌ بالشهادة لمستحقيها ومحقٌ وهلاكٌ للكافرين والظالمين.
وقد جاء قوله تعالى في وسط هذه الرباعية:
﴿وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ تنبيهًا لمن يتوهَّم أن الغلبة هي معيار الفوز والنجاح، فالظالمون قد يتمكَّنون من المؤمنين، وقد يُسلِّطهم الله على من يشاء من عباده وبلاده، وليس هذا من محبَّة الله لهم.
ثالثًا: النظرية والتطبيق:
يعرِض القرآن في هذا المقطع لمسألة تواجه الكثير من القادة والموجِّهين، تتزامن مع كلِّ نقلة جادة من ميدان النظر إلى ميدان التطبيق، ومن ميدان الأقوال إلى ميدان الأفعال
﴿وَلَقَدۡ كُنتُمۡ تَمَنَّوۡنَ ٱلۡمَوۡتَ مِن قَبۡلِ أَن تَلۡقَوۡهُ فَقَدۡ رَأَیۡتُمُوهُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ﴾ والقرآن هنا يشدُّ انتباهنا إلى متطلبات هذه النقلة؛ لأن التجارب البشريَّة على اختلافها مُثقَلةٌ بحالاتٍ من الفشل؛ بسبب تصدِّي الكفاءات النظرية الحالمة، والتي أعطَتْها منابرُ الخطابة ومحاضرات الدرس دورًا لم تستعدَّ له تمام الاستعداد.
رابعًا: التعلق بالقضية لا بالأشخاص:
ليس هناك في الخَلقِ من هو أَولَى وأزكَى من رسول الله
ﷺ، وفي أُحُد أُشيع خبر مقتله
ﷺ فاضطرب المؤمنون اضطرابًا شديدًا، وحُقَّ لهم أن يضطربوا وأن يُزلزَلوا، بَيْدَ أن القرآن الكريم أراد لهم أن يَسْموا على عواطفهم ومشاعرهم، وأن يتعلَّموا أن العمل للإسلام قضية لا تتوقف على حياة أحدٍ ولو كان رسول الله، فالعمل عبادة، والعبادة لله وحده
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولࣱ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِیْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰۤ أَعۡقَـٰبِكُمۡۚ وَمَن یَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَیۡهِ فَلَن یَضُرَّ ٱللَّهَ شَیۡـࣰٔاۗ وَسَیَجۡزِی ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِینَ﴾ وإذا كان هذا في حق رسول الله، فما بالك بمن دونه؟
خامسًا: وجود النبي لا يمنع الابتلاء:
وهذه حقيقة قرآنية مؤدَّاها أن النبيَّ
ﷺ إنما يقود أمته وفق السنن الإلهية والنواميس الكونية، وكما أنه معرَّض للمرض والتعب والضعف والحوادث الأخرى، فإنه في شأنه العام معرَّض لكل ما يمكن أن يتعرَّض له القادة الآخرون إلا ما يُخالِف مُقتَضَى سلامة التبليغ وعصمة الوحي
﴿وَكَأَیِّن مِّن نَّبِیࣲّ قَـٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّیُّونَ كَثِیرࣱ فَمَا وَهَنُواْ لِمَاۤ أَصَابَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ وهذه الحقيقة جوابٌ لمَن استغرب حصول النكسة مع وجود النبي
ﷺ، مع الجزم أن النبي
ﷺ لا يمكن أن يكون هو سبب النكسة، فقيادة الأنبياء هي أكمل القيادات وأزكاها وأولاها باستحقاق نصر الله وتمكينه، لكن العبرة في التمكين هو حالُ الأمة كلها ووَزنُها بين الأمم الأخرى، والله أعلم.
سادسًا: طمأنينة المؤمن وقلق الكافر:
يتميَّز المؤمن عن غيره بنظرته العابرة لحدود الحياة القصيرة العاجلة، فالموت الذي يهابه الخلق لا يمثِّل سوى قنطرة العبور للحياة المديدة المستقرَّة، من هنا يعمر قلب المؤمن بالسكينة والطمأنينة مهما واجه من المخاطر، بينما رُعْبُ الموت لا يفارق قلب الكافر وإن كان في بيته وبين أهله
﴿سَنُلۡقِی فِی قُلُوبِ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ بِمَاۤ أَشۡرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ یُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَـٰنࣰا﴾.
والقرآن يفتح باب الأمل للمؤمنين حتى وهم في حالة الهزيمة والنكسة، ويستنهِضُ فيهم عناصر القوة الكامنة في نفوسهم
﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَاۤ أَصَابَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِینَ(١٤٦) وَمَا كَانَ قَوۡلَهُمۡ إِلَّاۤ أَن قَالُواْ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِیۤ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ ﴾.
سابعًا: مرحلة النكسة:
يصارح القرآن في بيانه هذا جيش المسلمين أنه قد فشل في وسط المعركة بعد أن حقَّقَ نجاحًا سريعًا في أولها
﴿وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥۤ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰۤ إِذَا فَشِلۡتُمۡ﴾، ثم يبيِّن أسبابَ هذا الفشل
﴿وَتَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَیۡتُم﴾، ثمَّ عاد ليصوِّر حالةَ الفشل هذه
﴿إِذۡ تُصۡعِدُونَ وَلَا تَلۡوُۥنَ عَلَىٰۤ أَحَدࣲ وَٱلرَّسُولُ یَدۡعُوكُمۡ فِیۤ أُخۡرَىٰكُمۡ فَأَثَـٰبَكُمۡ غَمَّۢا بِغَمࣲّ ﴾.
إن القرآن يرسُمُ في تقريره هذا منهجيَّتَه في الإصلاح والتصحيح، والتي تبدأ بالتشخيص الدقيق والصريح والمباشر، وجعل هذه المصارحة مقروءة على الملأ، الصالح منهم والطالح، والعدو منهم والصديق، وبهذا يُنهِي القرآن الجدلَ حول أدبيات المراجعة والتقويم، والتي يرى بعض العاملين في مجال العمل الإسلامي المعاصر أنها ينبغي أن لا تكون مباشرة أو علنيَّة؛ حتى لا يستفيدَ منها العدو، ولا تخدِش في وحدة الصَّفِّ ومعنوياته، وما إلى ذلك من المبررات التي تفضِّل إبقاء الورم تحت الجلد، وإحاطة العمل بهالة من الهيبة والتقديس.
ثامنًا: ظنون وتلاوم:
في كلِّ حالات الفشل يكثر التلاوم وتبادل التهم، وهذا هو الوجه المقابل للمراجعة الصادقة والجادَّة، والوجهان قد يختلطان وتتشابه السلوكيات الفرعية المنبثقة منهما، وبعض الذين يتخوَّفون من المراجعة قد يتخوَّفون منها لاختلاطها فعلًا بهذا السلوك المشين والمدمّر
﴿وَطَاۤىِٕفَةࣱ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ یَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَیۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِۖ یَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَیۡءࣲۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ یُخۡفُونَ فِیۤ أَنفُسِهِم مَّا لَا یُبۡدُونَ لَكَۖ یَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَیۡءࣱ مَّا قُتِلۡنَا هَـٰهُنَا﴾ وقصدهم من هذا تزكية النفس وتبرئتها من الخطأ، وإن كان في هذا طعنٌ في الصفِّ كلِّه، بل وسوء ظنٍّ بالله أنه لم يَنصُر المؤمنين وهم أحبابه على الكافرين وهم أعداؤه.
وقد عقَّب القرآن على هذا السلوك بقوله:
﴿وَلِیَبۡتَلِیَ ٱللَّهُ مَا فِی صُدُورِكُمۡ وَلِیُمَحِّصَ مَا فِی قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾ وهذا من ثمار المداولة وابتلاء المؤمنين ببعض نتائجها الثقيلة.