سورة آل عمران تفسير مجالس النور الآية 154

ثُمَّ أَنزَلَ عَلَیۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةࣰ نُّعَاسࣰا یَغۡشَىٰ طَاۤىِٕفَةࣰ مِّنكُمۡۖ وَطَاۤىِٕفَةࣱ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ یَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَیۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِۖ یَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَیۡءࣲۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ یُخۡفُونَ فِیۤ أَنفُسِهِم مَّا لَا یُبۡدُونَ لَكَۖ یَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَیۡءࣱ مَّا قُتِلۡنَا هَـٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِی بُیُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِینَ كُتِبَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِیَبۡتَلِیَ ٱللَّهُ مَا فِی صُدُورِكُمۡ وَلِیُمَحِّصَ مَا فِی قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ﴿١٥٤﴾

تفسير مجالس النور سورة آل عمران


المجلس الثلاثون : بيان المعركة


من الآية (138- 154)


استهلَّ هذا المقطع بقوله تعالى: ﴿هَـٰذَا بَیَانࣱ لِّلنَّاسِ﴾ وكأنه يسترعِي انتباه الناس لأمر عظيم، وهو كذلك؛ حيث كان المسلمون يتطلَّعون إلى تقويمٍ دقيقٍ من الوحي لذلك اليوم العصيب الذي مرَّ عليهم، ولتلك التجربة الاستثنائية وتبعاتها الثقيلة على كواهلهم، ما الذي جرى؟ وكيف ينتصر الكافرون على المؤمنين، والكافرون هم المُعتَدون، والمؤمنون هم المدافِعون؟ كيف ينهَزِم صفٌّ يقودُه نبيٌّ؟ وقد تكفَّل هذا المقطع القرآني بالإجابة عن هذه الأسئلة ونحوها:

أولًا: المعيار الحقُّ:
يُصحِّح القرآن في هذا المقطع المعيار الذي يَزِن فيه الناس مستوى النجاح والفشل؛ حيث يتنافس الناس من أجل تحقيق الغلبة والتفوق وفق معايير تحقيق الرغبات، والوصول إلى الأهداف المرسومة ولو كان بمنهج خاطئ، وسياسة ظالمة.
القرآن هنا يضع المعيار الحقَّ ﴿وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ﴾ وهي حالة ثابتة ومستقرة مع ثبات الإيمان في القلب واستقراره، فالعلوُّ الصحيح هو علوُّ المبدأ والمنهج والخُلُق، أما علوُّ الكافرين والظالمين فهو علوٌّ مغشُوش، وعاقِبَتُه إلى زوالٍ - لا محالة - بزوال الغلبة أو زوال القدرة على الاستمتاع بها.
أما علوُّ المؤمنين فهو علوٌّ ذاتي موصولٌ بالله ولو كانوا فقراء أو ضعفاء، فقد كان جُلُّ الأنبياء على هذه الحال، ولم يُمَكَّن إلا للقليلِ منهم، فالتمكينُ بالحكم والسلطان مسؤولية كبيرة، ولها شروطها ومتطلباتها، قد تتحقَّق وقد لا تتحقَّق، وقد يكون ذلك بتقصيرٍ من المؤمنين وقد لا يكون، لكنَّ هذا كله ليس هو معيارَ النجاح والفشل، فليس كلُّ غالبٍ ناجحًا، وليس كلُّ مغلوبٍ فاشلًا.

ثانيًا: مداولة النصر والهزيمة:
تفريعًا عن المسألة الأولى يعرِض القرآن حقيقةً ملموسةً ﴿وَتِلۡكَ ٱلۡأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیۡنَ ٱلنَّاسِ﴾ فالغلبة قد تكون لهؤلاء وقد تكون لأولئك، وقد تكون للمؤمنين وقد تكون للكافرين.
وقد صرَّح القرآن بأربعة أوجه للحكمة الإلهية في ذلك ﴿ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَیَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَاۤءَۗ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ(١٤٠) وَلِیُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَیَمۡحَقَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ فاختلاف الأحوال من نصرٍ إلى هزيمةٍ ومن هزيمةٍ إلى نصرٍ من شأنه أن يكشف معادن الناس، ومستوى إيمانهم وإخلاصهم، وفيه أيضًا تكريمٌ بالشهادة لمستحقيها ومحقٌ وهلاكٌ للكافرين والظالمين.
وقد جاء قوله تعالى في وسط هذه الرباعية: ﴿وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ تنبيهًا لمن يتوهَّم أن الغلبة هي معيار الفوز والنجاح، فالظالمون قد يتمكَّنون من المؤمنين، وقد يُسلِّطهم الله على من يشاء من عباده وبلاده، وليس هذا من محبَّة الله لهم.

ثالثًا: النظرية والتطبيق:
يعرِض القرآن في هذا المقطع لمسألة تواجه الكثير من القادة والموجِّهين، تتزامن مع كلِّ نقلة جادة من ميدان النظر إلى ميدان التطبيق، ومن ميدان الأقوال إلى ميدان الأفعال ﴿وَلَقَدۡ كُنتُمۡ تَمَنَّوۡنَ ٱلۡمَوۡتَ مِن قَبۡلِ أَن تَلۡقَوۡهُ فَقَدۡ رَأَیۡتُمُوهُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ﴾ والقرآن هنا يشدُّ انتباهنا إلى متطلبات هذه النقلة؛ لأن التجارب البشريَّة على اختلافها مُثقَلةٌ بحالاتٍ من الفشل؛ بسبب تصدِّي الكفاءات النظرية الحالمة، والتي أعطَتْها منابرُ الخطابة ومحاضرات الدرس دورًا لم تستعدَّ له تمام الاستعداد.

رابعًا: التعلق بالقضية لا بالأشخاص:
ليس هناك في الخَلقِ من هو أَولَى وأزكَى من رسول الله ، وفي أُحُد أُشيع خبر مقتله فاضطرب المؤمنون اضطرابًا شديدًا، وحُقَّ لهم أن يضطربوا وأن يُزلزَلوا، بَيْدَ أن القرآن الكريم أراد لهم أن يَسْموا على عواطفهم ومشاعرهم، وأن يتعلَّموا أن العمل للإسلام قضية لا تتوقف على حياة أحدٍ ولو كان رسول الله، فالعمل عبادة، والعبادة لله وحده ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولࣱ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِیْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰۤ أَعۡقَـٰبِكُمۡۚ وَمَن یَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَیۡهِ فَلَن یَضُرَّ ٱللَّهَ شَیۡـࣰٔاۗ وَسَیَجۡزِی ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِینَ﴾ وإذا كان هذا في حق رسول الله، فما بالك بمن دونه؟

خامسًا: وجود النبي لا يمنع الابتلاء:
وهذه حقيقة قرآنية مؤدَّاها أن النبيَّ إنما يقود أمته وفق السنن الإلهية والنواميس الكونية، وكما أنه معرَّض للمرض والتعب والضعف والحوادث الأخرى، فإنه في شأنه العام معرَّض لكل ما يمكن أن يتعرَّض له القادة الآخرون إلا ما يُخالِف مُقتَضَى سلامة التبليغ وعصمة الوحي ﴿وَكَأَیِّن مِّن نَّبِیࣲّ قَـٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّیُّونَ كَثِیرࣱ فَمَا وَهَنُواْ لِمَاۤ أَصَابَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ وهذه الحقيقة جوابٌ لمَن استغرب حصول النكسة مع وجود النبي ، مع الجزم أن النبي لا يمكن أن يكون هو سبب النكسة، فقيادة الأنبياء هي أكمل القيادات وأزكاها وأولاها باستحقاق نصر الله وتمكينه، لكن العبرة في التمكين هو حالُ الأمة كلها ووَزنُها بين الأمم الأخرى، والله أعلم.

سادسًا: طمأنينة المؤمن وقلق الكافر:
يتميَّز المؤمن عن غيره بنظرته العابرة لحدود الحياة القصيرة العاجلة، فالموت الذي يهابه الخلق لا يمثِّل سوى قنطرة العبور للحياة المديدة المستقرَّة، من هنا يعمر قلب المؤمن بالسكينة والطمأنينة مهما واجه من المخاطر، بينما رُعْبُ الموت لا يفارق قلب الكافر وإن كان في بيته وبين أهله ﴿سَنُلۡقِی فِی قُلُوبِ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ بِمَاۤ أَشۡرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ یُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَـٰنࣰا﴾.
والقرآن يفتح باب الأمل للمؤمنين حتى وهم في حالة الهزيمة والنكسة، ويستنهِضُ فيهم عناصر القوة الكامنة في نفوسهم ﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَاۤ أَصَابَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِینَ(١٤٦) وَمَا كَانَ قَوۡلَهُمۡ إِلَّاۤ أَن قَالُواْ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِیۤ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ ﴾.
سابعًا: مرحلة النكسة:
يصارح القرآن في بيانه هذا جيش المسلمين أنه قد فشل في وسط المعركة بعد أن حقَّقَ نجاحًا سريعًا في أولها ﴿وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥۤ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰۤ إِذَا فَشِلۡتُمۡ﴾، ثم يبيِّن أسبابَ هذا الفشل ﴿وَتَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَیۡتُم﴾، ثمَّ عاد ليصوِّر حالةَ الفشل هذه ﴿إِذۡ تُصۡعِدُونَ وَلَا تَلۡوُۥنَ عَلَىٰۤ أَحَدࣲ وَٱلرَّسُولُ یَدۡعُوكُمۡ فِیۤ أُخۡرَىٰكُمۡ فَأَثَـٰبَكُمۡ غَمَّۢا بِغَمࣲّ ﴾.
إن القرآن يرسُمُ في تقريره هذا منهجيَّتَه في الإصلاح والتصحيح، والتي تبدأ بالتشخيص الدقيق والصريح والمباشر، وجعل هذه المصارحة مقروءة على الملأ، الصالح منهم والطالح، والعدو منهم والصديق، وبهذا يُنهِي القرآن الجدلَ حول أدبيات المراجعة والتقويم، والتي يرى بعض العاملين في مجال العمل الإسلامي المعاصر أنها ينبغي أن لا تكون مباشرة أو علنيَّة؛ حتى لا يستفيدَ منها العدو، ولا تخدِش في وحدة الصَّفِّ ومعنوياته، وما إلى ذلك من المبررات التي تفضِّل إبقاء الورم تحت الجلد، وإحاطة العمل بهالة من الهيبة والتقديس.

ثامنًا: ظنون وتلاوم:
في كلِّ حالات الفشل يكثر التلاوم وتبادل التهم، وهذا هو الوجه المقابل للمراجعة الصادقة والجادَّة، والوجهان قد يختلطان وتتشابه السلوكيات الفرعية المنبثقة منهما، وبعض الذين يتخوَّفون من المراجعة قد يتخوَّفون منها لاختلاطها فعلًا بهذا السلوك المشين والمدمّر ﴿وَطَاۤىِٕفَةࣱ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ یَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَیۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِۖ یَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَیۡءࣲۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ یُخۡفُونَ فِیۤ أَنفُسِهِم مَّا لَا یُبۡدُونَ لَكَۖ یَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَیۡءࣱ مَّا قُتِلۡنَا هَـٰهُنَا﴾ وقصدهم من هذا تزكية النفس وتبرئتها من الخطأ، وإن كان في هذا طعنٌ في الصفِّ كلِّه، بل وسوء ظنٍّ بالله أنه لم يَنصُر المؤمنين وهم أحبابه على الكافرين وهم أعداؤه.
وقد عقَّب القرآن على هذا السلوك بقوله: ﴿وَلِیَبۡتَلِیَ ٱللَّهُ مَا فِی صُدُورِكُمۡ وَلِیُمَحِّصَ مَا فِی قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾ وهذا من ثمار المداولة وابتلاء المؤمنين ببعض نتائجها الثقيلة.


﴿هَـٰذَا بَیَانࣱ لِّلنَّاسِ﴾ كلّ الناس، وإن كان فيه ما يثقل على نفوس المؤمنين من بيان أسباب فشلهم ونكستهم، وهو تأكيد لمنهجية القرآن الصريحة والمباشرة في الإصلاح والتصحيح.

﴿وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ﴾ لام التعليل جاء بها لتعليل المداولة، ومجيئها بعد الواو يُوحِي بوجود تعليلات أخرى لم يشأ الله أن يذكرها، وهي قطعًا ليست مما يخصُّنا نحن البشر، وإنما هي من حكمة الله المطلقة والتي تخضع لها كل حركة وسكنة في هذا الكون.

﴿وَلِیَعۡلَمَ﴾، ﴿وَیَتَّخِذَ﴾، ﴿وَلِیُمَحِّصَ﴾، ﴿وَیَمۡحَقَ﴾ هذه الأفعال الأربعة هي تعليلات المداولة، بَيْدَ أنه ألْحَقَ اللام بالأول والثالث، وحذفها من الثاني والرابع، والظاهر أنه أثبَتَها في كلِّ فعلٍ مُتحقق بعمومه من غير استثناء، فعِلمُ الله تام وشامل، وكذا تمحيصه وتمييزه للمؤمنين، وهو متَّصِل بعلمه سبحانه أيضًا، أما اتخاذ الشهداء ومحق الكافرين فهما على التبعيض؛ فليس كلُّ المؤمنين شهداء، وليس كلُّ الكافرين سيُمحَقون، وليس كل مداولة تستلزم القتال.
ومعلوم أن إلحاق اللام في الفعل المعطوف جائز، وحذفه جائز، فلما ذكره في فعل وحذفه في آخر دلَّ على قصد التأكيد في الأول بخلاف الثاني، والله أعلم.
﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا یَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَیَعۡلَمَ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ عِلْمُ الله متحقِّقٌ وشاملٌ ومستغرِقٌ للموجودات على تنوُّعها واختلاف أحوالها ﴿بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ﴾، فالذي لا يعلمه الله لا يمكن أن يكون موجودًا، وعليه فنفيُ علم الله بشيء ما معناه نفي الشيء نفسه، فيكون معنى الآية: هل تظنون أنكم تدخلون الجنة من غير جهادٍ ولا صبرٍ؛ إذ لو كنتم جاهدتم وصبرتم لعَلِمَ الله ذلك منكم، والله أعلم.

﴿أَفَإِیْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰۤ أَعۡقَـٰبِكُمۡۚ وَمَن یَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَیۡهِ فَلَن یَضُرَّ ٱللَّهَ شَیۡـࣰٔاۗ وَسَیَجۡزِی ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِینَ﴾ الشكر مقابل النعمة هو حقُّ المُنعِم على عبده، والمقام ليس فيه نعمة ظاهرة، بل محنة ومصيبة قاهرة.
والظاهر أن القرآن يتكلم عن معنَيَين للشكر؛ معنى يقابل النعمة، وآخر مستقر في القلوب المطمئنَّة مهما كانت الأحوال، الأول جزء من تقوى العبد، والثاني غاية التقوى وسقفها الأعلى ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [آل عمران: 123]، وهو المعنى الذي لا يرى في أفعال الله إلا الخير وإن كانت ابتلاءً ثقيلًا، فالعبرة بالعواقب والخواتيم.
والقرآن يشير هنا إلى أن موت الرسول بحاجة إلى مستوى من الإيمان واليقين والاتصال الوثيق بالله لكي يثبت العبد على الجادَّة ولا يهتزُّ أو يضعف، والله أعلم.

﴿وَمَن یُرِدۡ ثَوَابَ ٱلدُّنۡیَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَن یُرِدۡ ثَوَابَ ٱلۡأَخِرَةِ نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَاۚ وَسَنَجۡزِی ٱلشَّـٰكِرِینَ﴾ قانون إلهي وميزان عادل، فمن يعمل للدنيا حقَّق الله له ما يريد وفق سنن الله الكونية ونواميسه المودعة في هذا الخلق، ومن يعمل للآخرة حقَّق الله له ما يريد أيضًا.
وفي هذا القانون جوابٌ لمن يسأل عن سرِّ تفوُّق المخلِصِين في عملهم ولو كانوا على دينٍ آخر، وتأخُّر المهملين والمقصِّرين ولو كانوا صوَّامين قوَّامين.
وفيه جوابٌ أيضًا لمن يسأل عن مصير المُبدِعين والمُنتِجين ممن لا يؤمنون بالقرآن، ولا بالآخرة، ولا يسعَون لها سعيها، ويشير القرآن إلى صنفٍ متميِّز، وهم الذين يعملون ويجتهدون في العبادة وكلّ أعمال الخير شكرًا لله، وهؤلاء مع طمعهم بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة لكنهم حينما يتعبَّدون الله لا يستحضرون إلا حقَّه I عليهم، فالعبادة خالصة لوجهه، وجزاء الله لهم منَّة وكرم وفضل، هذه هي العلاقة الأرقَى والتي لا تناسب إلا أولئك المقرَّبين.

﴿قَـٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّیُّونَ كَثِیرࣱ فَمَا وَهَنُواْ لِمَاۤ أَصَابَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْ﴾ وهذه صفات الربانيين الموصولين بالله، والذين يَسمُون عن آلام الجسد وخسارة الدنيا بربانيَّتهم وثقتهم بما عند الله؛ إذ الرِّبِّيون جمع رِبِّيٍّ، وهو اسمٌ منسوبٌ إلى الرب، وهو والربَّانيُّ بمعنًى، وتغيير فتحة الراء إلى الكسرة واردٌ في النسبة كثيرًا.
ومن قال بأن معناه: الجماعات الكثيرة، نسبه إلى الربَّة، وهي الجماعة، وهو وارد في اللغة أيضًا، والأول أنسَبُ لمقام المدح والتأسِّي، والله أعلم.

﴿إِذۡ تَحُسُّونَهُم﴾ تعبيرٌ عن سرعة التقدُّم في الميدان، وإزاحة صفوف العدوِّ، وهذه هي المرحلة الأولى من المعركة.

﴿وَعَصَیۡتُم﴾ أي: عصَيتم أمر قائدكم، وهم الرماة الذين خالفوا أمر رسول الله فتركوا مواقعهم، وتقدَّمُوا نحو الغنائم، فكانوا السبب في النكسة، والمعصية هنا ليست ذنبًا كبقية الذنوب التي يتعرَّض لها كلُّ البشر عدا الأنبياء عليهم السلام، بل هي معصيةٌ لأمر القائد في ميدان المعركة، وهذه هي التي تُسبِّب النكسات لنا ولغيرنا.
وتعميمُ المعصية في هذا السياق على كلِّ مخالفة دينية لا يصحُّ؛ إذ لو صحَّ لما انتصر جيش من جيوش المسلمين، فليس هناك جيشٌ معصومٌ ومبرَّأٌ من المعاصي، وقد نصر الله جيوشًا كثيرة وفتح على أيديهم رغم ما فيهم من الذنوب والمعاصي، وليس معنى هذا التهوينُ مِن خطر الذنوبِ، خاصَّةً تلك التي تفُتُّ في عضُدِ المُقاتلِين كالغِيبة والنَّميمة، والتحاسُد والتباغُض، لكنَّ معصِيةَ أُحُد كانت إخلالًا بالنظام العسكري أكثرَ مِن كونها ذنبًا مثلَ بقيَّة الذنوبِ، والله أعلم.

﴿إِذۡ تُصۡعِدُونَ وَلَا تَلۡوُۥنَ عَلَىٰۤ أَحَدࣲ﴾ أي: تهرَبُون في الأرض على غير هدى ولا خطة مرسومة، هروبًا لا يبقى معه تذكُّر لعزيز أو ضعيف يستحقُّ منكم الإغاثة والرأفة، وهو تعبيرٌ عن شدَّة النكسة، وما صاحَبَها من هلع واضطراب.

﴿فَأَثَـٰبَكُمۡ غَمَّۢا بِغَمࣲّ لِّكَیۡلَا تَحۡزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا مَاۤ أَصَـٰبَكُمۡ﴾ غمٌّ مركَّب؛ لأنها نكسة بعد نصر، فهي أشدُّ وقعًا، وأكثر إيلامًا، وفيها فاتَ النصر المأمول، وضاعَت الغنائم التي كانت سبب النكسة، واستعمل الثواب بدل العقاب؛ لأن الأصل في المجاهد أنه يسعى للثواب، فلما تغيَّرَت النوايا وحصَلَت المعصية كان ثوابهم غمًّا بغم.
وأما قوله: ﴿لِّكَیۡلَا تَحۡزَنُواْ﴾ مع أن الحزن غمٌّ، فهو حاصل بالضرورة، فالأظهر أنه توجيه بصيغة الخبر، بمعنى: أن ما أصابكم من غمٍّ وحزنٍ وأذًى يكفيكم لتتدبَّرُوا حالكم وأسبابَ ما نالكم فتستفيدوا من أخطائكم؛ فذلك هو طريق الخروج من أحزانكم وآلامكم، وهذا من شأنه أن يفتح باب الأمل والتفاؤل.
وقد اقترن هذا بلطيفةٍ ربَّانيَّةٍ أعقَبَت ذلك الغمَّ ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَیۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةࣰ نُّعَاسࣰا﴾ وهو إيذانٌ بأن الغمَّ مرحلةٌ ينبغي أن تنتهي سريعًا؛ لينطلق الناس في ميدان التصحيح العملي، والله أعلم.