سورة الروم تفسير مجالس النور الآية 54

۞ ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن ضَعۡفࣲ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفࣲ قُوَّةࣰ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةࣲ ضَعۡفࣰا وَشَیۡبَةࣰۚ یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡقَدِیرُ ﴿٥٤﴾

تفسير مجالس النور سورة الروم

المجلس الرابع والثمانون بعد المائة: قصَّة الإنسان في حياته وعاقبة أمره


من الآية (54- 60)


يُلخِّصُ القرآنُ في خواتيم هذه السورة قصَّةَ الإنسان من مراحل تكوينه وتطوُّر حياته حتى قيام الساعة، وما يعقُبُها من حسابٍ وجزاء، مع الإشارة إلى طريق الفوز والنجاة، إنه عرضٌ لخلاصة التجربة الإنسانيَّة بمنظور الحقيقة الكبرى والقِيَم المُنبَثِقَة عنها:
أولًا: ذكر القرآن مراحل خلق الإنسان من أيامه الأولى التي لم يكن يَقوَى فيها على شيء، ولا يستقِلُّ بنفسه في مطعمٍ أو مشربٍ أو قضاء حاجةٍ، ولا يعرف ما حوله ولا مَن حوله، ولا ما يضره ولا ما ينفعه، حتى بلغ أشدَّه مع الأيام، ثم ما لبِثَ أن عاد إلى ضعفه مع تغيُّرٍ في الصورة والشكل، فهناك كان طفلًا مُقبلًا على الدنيا، وهنا أصبح شيخًا مدبرًا عنها، هناك ينتظر القوَّة والأشُدَّ، وهنا ينتظر الموت والقبر: ﴿۞ ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن ضَعۡفࣲ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفࣲ قُوَّةࣰ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةࣲ ضَعۡفࣰا وَشَیۡبَةࣰۚ یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡقَدِیرُ﴾.
ثانيًا: ذكَّرَ القرآن بذلك الأجل المحتوم والمصير الذي ينتظر الحياة ﴿وَیَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ﴾.
في ذلك اليوم سينظر الناس إلى ما تركوه وراءهم من ذكريات دنيويَّة، فلا يراها الغافلون إلَّا ساعة عابرة ليست لها قيمة؛ لأنها كانت بالنسبة لهم ساعة لهوٍ ومتاعٍ، أما المؤمنون الذين آتاهم الله الإيمان والعلم والحكمة فإنهم يعرفون ما الدنيا وما موقعها بالنسبة للآخرة، وما المسؤوليَّة التي كانت مُلقاة على عاتقهم فيها ﴿وَیَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ یُقۡسِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَیۡرَ سَاعَةࣲۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ كَانُواْ یُؤۡفَكُونَ ﴿٥٥﴾ وَقَالَ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَٱلۡإِیمَـٰنَ لَقَدۡ لَبِثۡتُمۡ فِی كِتَـٰبِ ٱللَّهِ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡبَعۡثِۖ فَهَـٰذَا یَوۡمُ ٱلۡبَعۡثِ وَلَـٰكِنَّكُمۡ كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾.
ثالثًا: آنذاك يصدر الحكم العدل بحقّ هؤلاء الذين ظلموا وتكبّروا وأفسدوا في الأرض ﴿فَیَوۡمَىِٕذࣲ لَّا یَنفَعُ ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْ مَعۡذِرَتُهُمۡ وَلَا هُمۡ یُسۡتَعۡتَبُونَ﴾.
رابعًا: للخلاص من تلك العاقبة البائسة، يبيِّن القرآن طريق النجاة بالأدلة الواضحة، والأساليب المقنعة التي لا تُبقِي عُذرًا لمُعتذِر ﴿وَلَقَدۡ ضَرَبۡنَا لِلنَّاسِ فِی هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلࣲۚ وَلَىِٕن جِئۡتَهُم بِـَٔایَةࣲ لَّیَقُولَنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤاْ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا مُبۡطِلُونَ ﴿٥٨﴾ كَذَ ٰ⁠لِكَ یَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِینَ لَا یَعۡلَمُونَ﴾.
فمشكلة هؤلاء أبدًا لم تكن من جهة الفكر والنظر، بل من جهة العناد والمكابرة، فلقد طُبِعت قلوبُهم على الكفر حتى لم تعُد تصغي لموعظةٍ، ولا تنتفع بدليلٍ.
خامسًا: يُوصِي الله تعالى نبيَّه الكريم وكلَّ مَن آمن به بوصيَّة الثبات والصبر على طريق الحقّ مهما بلغت محاولات المُبطِلين في المكر والعداوة والاستفزاز ﴿فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّۖ وَلَا یَسۡتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِینَ لَا یُوقِنُونَ﴾.


﴿خَلَقَكُم مِّن ضَعۡفࣲ﴾ هي مرحلة طويلة تبدأ من النطفة فالعلقة فالمضغة، حتى الولادة ثم الطفولة التي لا يستقلُّ فيها الطفل بشؤونه من غير رعايةٍ وحمايةٍ.
﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفࣲ قُوَّةࣰ﴾ وهي مرحلة الشباب والعمل والعطاء، وهي مرحلة طويلة كذلك.
﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةࣲ ضَعۡفࣰا وَشَیۡبَةࣰۚ﴾ وهذه هي دورة الحياة، والتنبيه إلى هذه المراحل المختلفة يُذكِّر الإنسان بطبيعة خَلقِه حتى لا يغترَّ بقوَّته، ولا ينسى مُستقبله وما ينتظره.
وفيه أيضًا إشارة إلى أنَّ هذا الإنسان قد مرَّ بحياةٍ طويلةٍ ومُتنوعةٍ، وكانت تكفِيه أن يعتبر ويتَّعِظ، ويُفكِّر بما يصلُح له في دنياه وأخراه.
﴿وَیَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ یُقۡسِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَیۡرَ سَاعَةࣲۚ﴾ هو من الجِناس؛ إذ الساعة التي يقصدونها هي الوحدة القياسيَّة لأجزاء اليوم، والتي كانوا يعرفونها في الدنيا، وهي غيرُ ساعة القيامة، وقسَمُهم هذا ناتجٌ من شدَّةِ جهلِهم، وتسرُّعِهم وقلَّةِ رويَّتِهم، وهو تعبيرٌ أيضًا عن دهشَتِهم وهولِ صدمتِهم.
والأظهرُ أنَّهم يَعنُون أنهم ما لبِثُوا في الدنيا إلا ساعةً، وكأنّهم يُومِئُون إلى أنّهم لم يأخُذوا وقتًا كافيًا للتفكُّر، وسياقُ القرآن بذكر مراحل الخلق مِن ضعفٍ إلى قوَّةٍ إلى ضعفٍ يُعزِّزُ هذا المعنى، والله أعلم.
﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ كَانُواْ یُؤۡفَكُونَ﴾ يُصرفون عن الحق بعنادهم وتكبُّرهم.
﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَٱلۡإِیمَـٰنَ﴾ بإشارة تربط بين العلم والإيمان، فالعلم يقود للإيمان، والإيمان يُزكي العلم، ويُوجه صاحبه نحو الخير والصدق، وشهادة الحقِّ.
﴿لَقَدۡ لَبِثۡتُمۡ فِی كِتَـٰبِ ٱللَّهِ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡبَعۡثِۖ﴾ أي: لقد لبِثتم طويلًا قبل أن تُواجِهوا هذا المصير البائس، وقوله: ﴿فِی كِتَـٰبِ ٱللَّهِ﴾ أي: في عِلْمِ الله وتقديره.
﴿فَیَوۡمَىِٕذࣲ لَّا یَنفَعُ ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْ مَعۡذِرَتُهُمۡ﴾ أي: اعتِذارهم بجهلهم وضيق وقتهم، ونحو هذا.
﴿وَلَا هُمۡ یُسۡتَعۡتَبُونَ﴾ أي: ولا هُم يُستجاب لهم بإزالة اللَّوم والعتب الذي يستحقونه على جرائمهم، وما يتبعه من عذاب وعقاب.
﴿وَلَقَدۡ ضَرَبۡنَا لِلنَّاسِ فِی هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلࣲۚ﴾ أي: بيَّنَّا لهم الحقَّ بكلِّ الطرق، وضرَبنا لهم الأمثالَ، وذكَّرناهم بحالِ الأقوام السابقين، إشارة لبُطلان حُجَّتهم وما يُقدِّمونه من معذرةٍ واستِعتابٍ.
﴿مُبۡطِلُونَ﴾ أصحاب باطلٍ.
﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ یَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِینَ لَا یَعۡلَمُونَ﴾ ممن تقدَّمت أوصافهم، وهم أهلُ العناد والمكابرة الذين عطَّلوا عقولهم، وأغلقوا عيونهم، وصمُّوا آذانهم، وولَّوا مُدبِرين، أما الذين لا يعلَمُون لعدم تمكُّنهم من العلم وأدواته، أو أنّ الدعوة لم تبلُغهم، فهذا الجهلُ الذي يُرجَى معه قبولُ العُذر، والله أعلم.
﴿فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّۖ﴾ فطريق الحقِّ يستلزم الصبر، وذكر الوعد الحقّ يحدو بقلوب المؤمنين ويشدّها إلى الصراط المستقيم، فيُهوِّن عليهم المصائب، ويخفِّف عنهم المكائد.
﴿وَلَا یَسۡتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِینَ لَا یُوقِنُونَ﴾ الاستخفاف مِن الخفَّة التي هي مدعاة التردُّد والتذبذب، والتوجيه هنا لكلِّ مؤمنٍ ألا يستجِيب لمزالق الظالمين، وألا يَحِيد عن الطريق وراء كلِّ شهوةٍ أو شُبهةٍ.