لسورة
الأحزاب خصوصيَّة عن باقي السور؛ لأنّها تناوَلَت حياةَ نبيِّنا الكريم
ﷺ في أدقِّ خصوصيَّاته، وقد أشارت السورة نفسها إلى الغاية من هذا التناول:
﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِی رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ﴾.
فمن أجل هذه الغاية الجليلة، بسطت هذه السورة حياةَ رسول الله
ﷺ العامة والخاصة؛ في علاقاته الاجتماعيَّة مع زوجاته وأهل بيته، وفي حياته الدعويَّة والتربويَّة مع أصحابه وأحبابه وكلِّ الناس الذين يعيشون معه في المدينة أو في محيطها، ثم تصدِّيه لأحزاب الكفر والضلالة، ولخيانة يهود لما بينهم وبينه من مواثيق وعهود، وكذلك معاناته الطويلة - بأبي هو وأمِّي - من الدور المُؤذي الذي تبنَّتْه الفئة المنافقة ومن يقِف خلفها.
وربما كان من توفيق الله تعالى أن تُكتب هذه الكلمات في تدبُّر هذه السورة العزيزة أمام الروضة المشرَّفة في رحاب المسجد النبويِّ الشريف، فكنتُ أقرأُ الآيات وأُعيدُها وأتدبَّر معانيها وأنظر في سياقها وتسلسلها، ثم أنظرُ أمامي فأمتَلِئُ بالرهبة، وكأنَّها الآن تنزِل، وها هو رسولُ الله
ﷺ يتلُوها على أصحابه، ويؤمّهم بها في مِحرابه، وينشرها بين الناس كلِّ الناس مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم، ينشرها بينهم كما أنُزلت عليه، وفيها خلَجَات نفسه، وفيها أسرار بيته، فيها ما كان يَستَحيِي أن يُظهره ويبُوح به
﴿وَتُخۡفِی فِی نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِیهِ﴾، و
﴿إِنَّ ذَ ٰلِكُمۡ كَانَ یُؤۡذِی ٱلنَّبِیَّ فَیَسۡتَحۡیِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا یَسۡتَحۡیِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّ ۚ﴾.
فعليك يا أيها الحبيب صلواتُ الله وسلامُه دائمًا وأبدًا، عسى الله أن يغفر لنا، ويرزقنا شفاعتك ومُصاحبَتَك على الحوض، وفي أعلى جِنان الخُلد.
في فواتح هذه السورة كان الحديث عن رسول الله
ﷺ مُرتبطًا بوظيفته الكبرى في تبليغ الرسالة، وموقعه
ﷺ بين المؤمنين، وبعض الأحكام والتوجيهات المناسبة لهذا السياق:
أولًا: استهلَّت السورة بوصيَّة التقوَى، وإخلاص الطاعة لله وحده، واتِّباع شريعته ووحيِه، والنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين، وهي وصيةٌ للأُمَّة كلّها في شخص نبيِّها
ﷺ:
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ ۚ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ وَٱلۡمُنَـٰفِقِینَ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِیمًا حَكِیمࣰا ﴿١﴾ وَٱتَّبِعۡ مَا یُوحَىٰۤ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣰا﴾.
ثانيًا: ولأنَّ هذه الوصيَّة تستدعي العداء من طرف الكافرين وأحزابهم ومُنافقيهم، جاء التوجيهُ بأهميَّة التوكُّل على الله وحده، فهو سبحانه مُقدِّر الأقدار، ومُيسِّر الأسباب
﴿وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِیلࣰا﴾.
ثالثًا: ثم شرَعَ القرآن بإعلانه إبطال الموروث الجاهلي، لتستَبِينَ سبيلُ الحقِّ عن سبيل الباطل، فلا يبقى في هذا عذرٌ لمعتذر، ولا تأويلٌ لمتأوِّل
﴿مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلࣲ مِّن قَلۡبَیۡنِ فِی جَوۡفِهِۦۚ﴾.
وفي هذا تمهيدٌ وتهيئةٌ لاستقبال الأحكام الإلهيَّة الناقضة للعادات الجاهلية
﴿وَمَا جَعَلَ أَزۡوَ ٰجَكُمُ ٱلَّـٰۤـِٔی تُظَـٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَـٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِیَاۤءَكُمۡ أَبۡنَاۤءَكُمۡۚ ذَ ٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَ ٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ یَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ یَهۡدِی ٱلسَّبِیلَ ﴿٤﴾ ٱدۡعُوهُمۡ لِـَٔابَاۤىِٕهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِۚ فَإِن لَّمۡ تَعۡلَمُوۤاْ ءَابَاۤءَهُمۡ فَإِخۡوَ ٰنُكُمۡ فِی ٱلدِّینِ وَمَوَ ٰلِیكُمۡۚ وَلَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحࣱ فِیمَاۤ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمًا﴾.
فمِن عادات الجاهلية: الظهار، وهو أن يقول الرجل لامرأته: أنتِ علَيَّ كظهر أمِّي، وقد جاء ذكر أحكامه مفصَّلةً في سورة المجادلة، ومن عاداتهم الشائعة: التبنِّي، وقد خصَّه القرآن هنا بالتفصيل، وجعل من فعل الرسول
ﷺ المثل الأول؛ حيث كان
ﷺ قد تبنَّى زيدَ بن حارثة ، فلما أراد الله أن يُبطِل هذه العادة بدأ بنبيِّه، وفي هذا ترسيخٌ لمعنى القدوة والأُسوة الحسنة التي تدور السورةُ حولَها.
رابعًا: بعد ذلك انتقل القرآن لبيان مكانة الرسول
ﷺ في هذه الأُمَّة:
﴿ٱلنَّبِیُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ﴾ وهذه هي القيمة المحوريَّة التي تُنظِّم علاقة المسلمين بنبيِّهم، فهو
ﷺ ليس مُبلِّغًا لرسالة فحسب كما يتوهَّم المتوهِّمون، بل هو المحور الإنسانيُّ الذي تدور حوله الأُمَّة في وجودها وحركتها، فهو نقطة البداية في نشأتها وتكوُّنها، وهو القدوة الأولى في تطلُّعها وسيرها إلى الله، وتقديم أيِّ شخص عليه في الاهتمام والمحبَّة والاتِّباع يعدُّ خَرقًا كبيرًا لعقيدة الأمة وهويَّتها الجامعة.
ومعنى أنَّه المحور الإنساني في هويَّتنا: أننا لا نُقدِّمُ أيَّ إنسانٍ عليه كائنًا من كان، كما أننا لا نُقدِّمُ على القرآن كتابًا، ولا نُقدِّمُ على الكعبة مكانًا، فهذه محاور تلتقي عليها الأُمة، فمن أحدث فيها وابتدع وقدَّم وأخَّر، فقد ارتكب جناية عظيمة بحقِّ الأُمَّة، وأقلُّ آثار هذه الجناية ما نراه اليوم من اضطرابٍ في هويَّة الأمة، واختلافٍ في أولويَّاتها ومصادر دينها وشريعتها.
خامسًا: يُؤصِّلُ القرآن لمكانة أهل بيته عليه وعليهم الصلاة والسلام
﴿وَأَزۡوَ ٰجُهُۥۤ أُمَّهَـٰتُهُمۡۗ﴾ ومع ما في هذا الحكم الربَّاني القاطع من تزكيتهنَّ وإعلاء شأنهنَّ، وفرض احترامهنَّ وتبجيلهنَّ، ففيه أيضًا مغزى مرتبط بصورة التأسِّي والاقتداء، والتي هي محور هذه السورة؛ إذ إنَّ حياته
ﷺ اليوميَّة مع أهل بيته تُشكِّل جانبًا كبيرًا من النموذج الذي ينبغي أن يُحتذى في تكوين البيت المسلم، وعلاقاته الداخلية، وطبيعة حياته واهتماماته وسلوكه اليومي، ومن ثَمَّ جاء التذكير بهذه المعاني في هذه السورة نفسها بقوله تعالى:
﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا یُتۡلَىٰ فِی بُیُوتِكُنَّ مِنۡ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ﴾.
وعليه فإنَّ الانتقاص منهنَّ هو انتقاصٌ وتشكيكٌ في هذا الذكر الذي كلَّفهُنَّ الله بحمله إلى الناس، إضافةً إلى عقوقٍ مفضوحٍ بحقهنَّ وهنَّ أمهاتنا بنصِّ القرآن، بل إنَّ الرافض لهذه العلاقة إنَّما يُعلِنُ عن نزعه لصفةِ الإيمان عن نفسه، والعياذ بالله.
سادسًا: يُؤصِّلُ القرآن أنَّ محور العلاقات الاجتماعيَّة فيما بين المسلمين كافَّة إنَّما هو الرَّحِم، فصلة الأرحام أساس البناء الاجتماعي
﴿وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضࣲ فِی كِتَـٰبِ ٱللَّهِ﴾ وهذا المحور تنبني عليه حقوقٌ وواجباتٌ والتزاماتٌ منها: الإرث، والنفقة، ومن سوء فقه الرجل - وربَّما سوء تديُّنه - أن يُقدِّمَ على رَحِمه مَن يرتبط معهم بروابط المصلحة الماديَّة أو الحزبيَّة.
سابعًا: يُؤكِّدُ القرآن أنَّ رسالة محمدٍ
ﷺ ليست بِدعًا من الرسالات، بل كلُّها يرجِع إلى مصدرٍ واحدٍ، وميثاقٍ واحدٍ
﴿وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِنَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ مِیثَـٰقَهُمۡ وَمِنكَ وَمِن نُّوحࣲ وَإِبۡرَ ٰهِیمَ وَمُوسَىٰ وَعِیسَى ٱبۡنِ مَرۡیَمَۖ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّیثَـٰقًا غَلِیظࣰا﴾.
ثم يُشير إلى انقسام الخلق تجاه هذه الرسالة، وذاك الميثاق إلى مؤمنين وكافرين، وصادقين وكاذبِين
﴿لِّیَسۡـَٔلَ ٱلصَّـٰدِقِینَ عَن صِدۡقِهِمۡۚ وَأَعَدَّ لِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابًا أَلِیمࣰا﴾ وبهذه الآية يُمهِّدُ القرآنُ للحديثِ عن معركةٍ من معارك الإيمان الخالدة، وهي معركةُ
الأحزاب.