سورة سبأ تفسير مجالس النور الآية 5

وَٱلَّذِینَ سَعَوۡ فِیۤ ءَایَـٰتِنَا مُعَـٰجِزِینَ أُوْلَــٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عَذَابࣱ مِّن رِّجۡزٍ أَلِیمࣱ ﴿٥﴾

تفسير مجالس النور سورة سبأ

المجلس الثاني والتسعون بعد المائة: عمارة الأرض وخرابها بمنظورٍ إيمانيٍّ وبُعدٍ تاريخيٍّ


من الآية (1- 21)


تتناول سورة سبأ قضية الإيمان وتأثيرها المباشر في صورة المجتمع وقوَّته، ونمط حياته وتطوره، وقد جاء شطر السورة الأول - والذي هو موضوعُ هذا المجلس - مُتضمِّنًا لمقدمةٍ تُلخِّصُ المفاهيم الإيمانيَّة واختلاف الناس فيها الاختلاف المعروف بين مُصدِّقٍ ومُكذِّبٍ، ثم تعرض لنموذجَين مختلفَين من الدول والحضارات التي قامَت في التاريخ، ومدى تأثير الإيمان من عدمه في اختلاف هذَين النموذجَين:
أولًا: يعرض القرآن في مقدمة هذه السورة جملة من المفاهيم الإيمانيّة المؤثرة في حياة الناس وواقعهم، وكما يأتي:
- يؤكِّد القرآن أنّ الذي له ملك السماوات والأرض إنّما هو الله وحده ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِی ٱلۡأَخِرَةِۚ﴾ وهذا الاستِهلال كأنّه يُمهِّد لموضوع السورة؛ حيث يتنازع الناس ويختلفون في من يملك الأرض ومن يحكمها، وما الأساس الذي ينبغي أن تدار عليه هذه الأرض.
- يؤكِّد القرآن أيضًا أنّ الله وحده هو الذي يعلم حقيقة هذا الخلق من مُبتداه إلى مُنتهاه، وأنّه سبحانه الرحيم بهذا الخلق ﴿یَعۡلَمُ مَا یَلِجُ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا یَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا یَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَمَا یَعۡرُجُ فِیهَاۚ وَهُوَ ٱلرَّحِیمُ ٱلۡغَفُورُ ﴾، ﴿عَـٰلِمِ ٱلۡغَیۡبِۖ لَا یَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةࣲ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَاۤ أَصۡغَرُ مِن ذَ ٰ⁠لِكَ وَلَاۤ أَكۡبَرُ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینࣲ ﴾.
وهنا إشارةٌ: أنّ منهج الله هو الأصلح لهذه الأرض؛ لأنّه مبنيٌّ على علمٍ شاملٍ، ورحمةٍ واسعةٍ، وهاتان الصفتان هما الأساس في بناء المجتمع السليم، والدولة الرشيدة؛ إذ إنَّ إرادة الخير لوحدها والقصد لتحقيق المصلحة لا يكفِيَان من دون علمٍ بحقائق الأمور والأحوال ومآلاتها، كما أنّ العلم لوحده لا يكفي من غير القصد الصادق لتحقيق الرحمة والغايات النبيلة والعادلة في الحكم.
- يُشير القرآن في هذا السياق إلى دور أهل العلم في إدراك هذه الحقيقة وتبيِينها للناس: ﴿وَیَرَى ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلۡحَقَّ وَیَهۡدِیۤ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَمِیدِ ﴾.
- ثم يعرض القرآن لموقف أهل الجهل والضلال: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لَا تَأۡتِینَا ٱلسَّاعَةُۖ﴾ وهذا الجزم غاية السفاهة والجهل، فهم لا يعلمون الغيب، ولا يعلمون كيف خُلِقوا أصلًا، ثم يتمادون في السخرية والاستهزاء ﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ هَلۡ نَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلࣲ یُنَبِّئُكُمۡ إِذَا مُزِّقۡتُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمۡ لَفِی خَلۡقࣲ جَدِیدٍ ﴿٧﴾ أَفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِۦ جِنَّةُۢۗ﴾.
وهنا يُبيِّن القرآن حقيقةَ حالهم: ﴿بَلِ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأَخِرَةِ فِی ٱلۡعَذَابِ وَٱلضَّلَـٰلِ ٱلۡبَعِیدِ﴾، ثم يردُّ عليهم بما يكشف جهلهم وضعفهم: ﴿أَفَلَمۡ یَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِن نَّشَأۡ نَخۡسِفۡ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضَ أَوۡ نُسۡقِطۡ عَلَیۡهِمۡ كِسَفࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّكُلِّ عَبۡدࣲ مُّنِیبࣲ ﴾.
فهم لا يملِكون لأنفسهم حياةً ولا موتًا، ولا يعلَمُون كيف بدأ هذا الخلق، ولا كيف سينتَهِي، وليست لديهم القُدرة على تغيير نوامِيسِه أو التنبُّؤ بأحداثِهِ، ومع هذا يجزِمُون بنفي ما لا يعلمون، ويقولون في هذا الخلق وكأنّهم أعلم به من خالقه وأقدر عليه منه.
- في ثنايا هذا العرض يُؤكِّد القرآن النتيجةَ المحتومةَ التي تنتظر الفريقَين: ﴿لِّیَجۡزِیَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِۚ أُوْلَــٰۤىِٕكَ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَرِزۡقࣱ كَرِیمࣱ ﴿٤﴾ وَٱلَّذِینَ سَعَوۡ فِیۤ ءَایَـٰتِنَا مُعَـٰجِزِینَ أُوْلَــٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عَذَابࣱ مِّن رِّجۡزٍ أَلِیمࣱ ﴾، ولا شكَّ أنَّ التذكير بعقيدة الجزاء في هذا السياق له دلالته الخاصَّة في بيان أثر هذه العقيدة في نمط المجتمع والدولة المُنبَثِقة منه، والسلوك العام لكلِّ صاحب مسؤوليَّةٍ صغُرت أو كبُرت.
ثانيًا: يعرض القرآن نموذج الحكم الرشيد الذي يستفيد من كلِّ الطاقات المتاحة في أرضه، ويُسخِّرُها في البناء والعمران وتحقيق مستوى أعلى من الترفُّه والتنعُّم، وهذا النموذج تمثَّل في المُلك الذي أعطاه الله لنبيِّه داود، ثم لابنه النبيِّ سليمان عليهما السلام، وقد حمل هذا النموذج المعاني والدلالات الآتية:
- يشير القرآن إلى أنّ الحكم الرشيد المنبثق من الإيمان بوحدانيَّة الخالق يحقق الانسجام المطلوب بين الإنسان وبين البيئة المحيطة به ﴿۞ وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلࣰاۖ یَـٰجِبَالُ أَوِّبِی مَعَهُۥ وَٱلطَّیۡرَۖ﴾، ﴿وَلِسُلَیۡمَـٰنَ ٱلرِّیحَ غُدُوُّهَا شَهۡرࣱ وَرَوَاحُهَا شَهۡرࣱۖ ﴾، ﴿ وَمِنَ ٱلۡجِنِّ مَن یَعۡمَلُ بَیۡنَ یَدَیۡهِ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ﴾.
صحيحٌ أنّ هذه الصور من الانسِجام تدخل في باب المعجزات وخوارِقِ العادات ممَّا لا مجال لتقليده، أو محاولة تكراره، لكن هذا ليس مطلوبًا أيضًا، وإنّما المطلوب الاقتداء المنهجي الذي يُشير إليه القرآن، فالذي خلق هذا الخلق كلّه واحد، والذي شرَّع الدين وعلَّمَنا الإيمان هو نفسه الذي خلقنا وخلق هذا الكون، وبالتالي فالانسجام متحققٌ بين شرع الله وخلق الله، أما كيف يظهر هذا الانسجام، فلكلِّ زمانٍ ما يناسبه، ولكلِّ حالةٍ ما يُناسبها.
- يؤكِّد القرآن أنّ هذا الحكم يستند إلى رقابةٍ إيمانيَّةٍ ذاتيَّةٍ لا تُنتِج بطبيعتها إلا العمل الصالح ﴿وَٱعۡمَلُواْ صَـٰلِحًاۖ إِنِّی بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ ﴾، ﴿ٱعۡمَلُوۤاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرࣰاۚ وَقَلِیلࣱ مِّنۡ عِبَادِیَ ٱلشَّكُورُ ﴾.
والشكر - كما مرَّ معنا -: استِعمال النعمة في الطاعة، وهذه من أُسُس الحكم الرشيد، بخلاف أولئك الذين يُبدِّدون ثروات بلادهم في غير ما منفعة.
- يشيرُ القرآن إلى القوة في هذا الحكم، وذلك من خلال قوله: ﴿ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِیدَ ﴿١٠﴾ أَنِ ٱعۡمَلۡ سَـٰبِغَـٰتࣲ وَقَدِّرۡ فِی ٱلسَّرۡدِۖ﴾ والسابغات: هي الدروع، ذكر الصفة وحذف الموصوف؛ تنبيهًا على أهمية الصفة بأن تكون الدروع سابغة وكافية لحماية الجند.
- يشير القرآن أيضًا إلى الصناعة، وقد تقدَّم قوله في صناعة الدروع: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِیدَ ﴿١٠﴾ أَنِ ٱعۡمَلۡ سَـٰبِغَـٰتࣲ وَقَدِّرۡ فِی ٱلسَّرۡدِۖ ﴾، ثم قال أيضًا: ﴿ وَأَسَلۡنَا لَهُۥ عَیۡنَ ٱلۡقِطۡرِ ۖ﴾ والقِطْر: معدنٌ من المعادن المستخدمة في أنواعٍ مختلفةٍ من الصناعات.
- يشير القرآن أيضًا إلى حركة البناء والعمران: ﴿یَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا یَشَاۤءُ مِن مَّحَـٰرِیبَ﴾ وأصلُ المحراب: الحِصن العالي، ثم استُعمل في القصور المحصَّنة، والأماكن المُخصَّصة للعبادة، ثم شاع استعمالها في مكان صلاة الإمام مِن المساجِد، ولا يمنع من إرادة كلِّ ذلك؛ فالحصون والقصور والمساجد كلُّها من مظاهر الحُكم السُليمانيِّ الرشيد.
- ثم يشير القرآن إلى حركة النقل بما تحمله من تحرُّك المسافرين والتجار، ونقل البضائع: ﴿وَلِسُلَیۡمَـٰنَ ٱلرِّیحَ غُدُوُّهَا شَهۡرࣱ وَرَوَاحُهَا شَهۡرࣱۖ﴾ وتسخير الريح هنا لتيسير حركة السفن ذهابًا وإيابًا.
- ثم يشير القرآن إلى حالة الرخاء والنعيم الواسع في هذا المُلك ﴿وَجِفَانࣲ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورࣲ رَّاسِیَـٰتٍۚ ﴾ والجِفَانُ: جمع جَفنة، وهي قَصعَةُ الطعام، والقُدُور الراسيات: الثابِتات التي لا تتحرَّك لعِظَمها، وفي هذا إشارة لوفرة الطعام، وهو مقصدٌ من مقاصد الحُكم الرشيد.
وقد مرَّ معنا في قصّة يوسف عليه السلام كيف أنّه سخَّر جهده من أجل توفير الطعام لشعب مصر، وفي هذا تصحيحٌ لمفهوم الحُكم الرشيد الذي اقتَرَن لدى كثيرٍ من الوعَّاظ بالزهد والتقشُّف وحِرمان النفس من النعم، وهي الصورة المأخوذة من حياة الخلفاء الراشدين  دون النظر إلى أسبابها الموضوعيَّة، ومنها: الحالة الاجتماعيَّة العامة، ومستوى الحياة الاقتصاديَّة، ومنها: التوجه الشخصي نحو الإقلال من الترف، وهذا حقٌّ، لكنه ليس شرعًا مُلزِمًا لكلِّ الناس فضلًا عن ملوكهم وأمرائهم إذا خافُوا اللهَ في رعيّتهم، والله أعلم.
- وقد مرَّ في ثنايا هذه الملامح ذِكْر التماثيل: ﴿یَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا یَشَاۤءُ مِن مَّحَـٰرِیبَ وَتَمَـٰثِیلَ﴾ والتمثال: صورةٌ مجسَّمةٌ لمخلوقٍ ما، ومعلومٌ أنَّ هذا مُحرَّم في ديننا إذا كان لذي روح، وهو الغالب في التماثيل والمتبادر للذهن.
وهنا مسألتان:
الأولى: أنّ صناعة التماثيل بحدِّ ذاتها ليست من مسائل العقيدة، وإنَّما هي من مسائل الفقه؛ لأنّه من المقطوع به أنَّ عقائد الأنبياء لا تختلف، وإنَّما تختلف الأحكام الفقهيَّة تَبَعًا للحاجة وتطوُّر الحياة.
والثانية: أنّ ذِكْرَ التماثيل هنا في مقام المدح والامتنان يعني أنّ القيم الجماليَّة مطلوبة، وإن كانت طريقة التعبير عنها تختلف مِن شريعةٍ إلى شريعةٍ، ومِن زمانٍ إلى زمانٍ.
- أخيرًا يُصحِّحُ القرآن من خلال هذا النموذج تصوُّرًا خاطِئًا لدى كثيرٍ من الناس عن طبيعة الجن وقُدراتهم ﴿فَلَمَّا قَضَیۡنَا عَلَیۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦۤ إِلَّا دَاۤبـَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَیَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ یَعۡلَمُونَ ٱلۡغَیۡبَ مَا لَبِثُواْ فِی ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِینِ ﴾ فالجنُّ لا يعلمون الغَيبَ، ولا يستطيعون أن يُميِّزوا بين الجسَد الذي فيه رُوح والجسَد الذي سُلِبت منه الروح إذا كان في صورة الأول وهيئته، فكيف ينسب لهم العلم بمقادير الكون والتحكم بحياة الناس وإراداتهم؟
ثالثًا: بعد هذا النموذج يعرض القرآن نموذجًا مُختلفًا، فيه دلالات وإشارات مختلفة، إنّه نموذج مملكة سبأ ﴿لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإࣲ فِی مَسۡكَنِهِمۡ ءَایَةࣱۖ﴾:
- يُخبرنا القرآن أنّ مملكة سبأ كانت عامرةً بالخير والنعيم حينما كانت طيِّبة بالإيمان والعمل الصالح: ﴿جَنَّتَانِ عَن یَمِینࣲ وَشِمَالࣲۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةࣱ طَیِّبَةࣱ وَرَبٌّ غَفُورࣱ﴾، وربما كانت هذه المرحلة أيام بلقيس؛ حيث أسلَمَت وقومها مع سُليمان لله ربِّ العالمين، وهذا رابطٌ نفيسٌ بين النموذجَين؛ فمملكة سبأ الطيِّبة والمؤمنة والمتنعِّمة إنَّما كانت امتدادًا لمملكة سُليمان عليه السلام.
- يُخبِرُنا القرآن أن هناك انقلابًا حصل في عقيدة الناس، فتنكَّروا لإيمانهم، وكفَرُوا بربِّهم، فتغيَّرَت أحوالهم، وتمزَّقَت دولتهم ﴿فَأَعۡرَضُواْ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ سَیۡلَ ٱلۡعَرِمِ وَبَدَّلۡنَـٰهُم بِجَنَّتَیۡهِمۡ جَنَّتَیۡنِ ذَوَاتَیۡ أُكُلٍ خَمۡطࣲ وَأَثۡلࣲ وَشَیۡءࣲ مِّن سِدۡرࣲ قَلِیلࣲ ﴿١٦﴾ ذَ ٰ⁠لِكَ جَزَیۡنَـٰهُم بِمَا كَفَرُواْۖ وَهَلۡ نُجَـٰزِیۤ إِلَّا ٱلۡكَفُورَ ﴾، وهنا إشارةٌ أيضًا للفساد المُستشرِي في مؤسسة الحكم؛ فكان الإهمال في صيانة السدود والمحافظة عليها، وأخذ الاحتياط لكلِّ طارئٍ محتملٍ، فتدمير مملكتهم بالسَّيل العَرِم قد لا يكون تدميرًا قدريًّا بحتًا كما حصل لقوم نوح، بل هو تدميرٌ ناتجٌ عن فسادهم، وهذه من سُنن الله في العقوبة أيضًا، أن يعاقب الفاسد بفساده، والله أعلم.
- يذكُر القرآن من مظاهر النعيم الذي حبَاهم الله به: ﴿وَجَعَلۡنَا بَیۡنَهُمۡ وَبَیۡنَ ٱلۡقُرَى ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَا قُرࣰى ظَـٰهِرَةࣰ وَقَدَّرۡنَا فِیهَا ٱلسَّیۡرَۖ سِیرُواْ فِیهَا لَیَالِیَ وَأَیَّامًا ءَامِنِینَ﴾ فكانت القرى مُتواصِلةً على طريق سفرهم وتجارتهم، فالمسافر كلَّما قطع قريةً ظهرت له قرية، يقِيلُ في واحدةٍ، ويبِيتُ في أخرى، وهذا مظهرٌ للعمران وإحياء الأرض، لكنّهم تنكَّروا لهذه النعمة وكفَروا بها ﴿فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـٰعِدۡ بَیۡنَ أَسۡفَارِنَا﴾ كأنّهم يسألونه أن يمحُو هذه القرى، ولم يذكر القرآن بُغيَتَهم في هذا؛ فقد يكون حسدًا لأهل هذه القرى، وما يسترزِقُون به من مواقعهم هذه، وهذا وارِدٌ، وفيه مظهرٌ من مظاهر الفساد الأخلاقي والمجتمعي.
ويُحتمل أنّهم قالوا ذلك تحدِّيًا لله، وردًّا على من كان يُذكِّرُهم بشُكر هذه النعمة، وهذا سلوكٌ أشنَعُ من الأول، وعلى الاحتمالَين فقد ظلَموا أنفسهم ﴿فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـٰعِدۡ بَیۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمۡ ﴾ فكان ذلك سببًا في عقوبتهم، وزوال ملكهم ﴿فَجَعَلۡنَـٰهُمۡ أَحَادِیثَ وَمَزَّقۡنَـٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ ﴾.
- يُنبِّهُ القرآن في ختام هذه القصَّة إلى أنّ السبب في كلّ هذا الذي حصل لهم ولأمثالهم ممن يُنعم الله عليهم بالملك والقوَّة والأمن والرزق الوفير، ثم تتغيَّر أحوالهم ويعمّهم الخراب والدمار إنّما هو باتباع الهوى ومسالك الشيطان ﴿وَلَقَدۡ صَدَّقَ عَلَیۡهِمۡ إِبۡلِیسُ ظَنَّهُۥ فَٱتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِیقࣰا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾، ثم يُبيِّن أنّ إبليس لم يجعل الله له سلطانًا عليهم؛ إذ لو كان له سلطان عليهم لسُلب التكليف والاختيار منهم، وإنّما هي الوسوسة التي تستجيب لها أهواؤهم ﴿وَمَا كَانَ لَهُۥ عَلَیۡهِم مِّن سُلۡطَـٰنٍ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن یُؤۡمِنُ بِٱلۡأَخِرَةِ مِمَّنۡ هُوَ مِنۡهَا فِی شَكࣲّۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءٍ حَفِیظࣱ ﴾.


﴿یَعۡلَمُ مَا یَلِجُ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا یَخۡرُجُ مِنۡهَا﴾ يعلَمُ ـ الأرض وما فيها، وما يدبُّ عليها، وما يدخلُ فيها، وما ينبُت منها.
﴿لَا یَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةࣲ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِ ﴾ أي: لا يغيب عن علمه شيءٌ مهما كان دقيقًا أو صغيرًا، ومثقال ذرةٍ يعني: وزن هباءَة لا قيمةَ لها.
﴿ أُوْلَــٰۤىِٕكَ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَرِزۡقࣱ كَرِیمࣱ ﴾ ربط بين الرجوع إلى الله والتمسُّك بدينه وبين سعة الرزق، كما قال في سورة نوح: ﴿فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارࣰا ﴿١٠﴾ یُرۡسِلِ ٱلسَّمَاۤءَ عَلَیۡكُم مِّدۡرَارࣰا ﴿١١﴾ وَیُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَ ٰ⁠لࣲ وَبَنِینَ وَیَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّـٰتࣲ وَیَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَـٰرࣰا﴾ [نوح: 10- 12].
﴿وَٱلَّذِینَ سَعَوۡ فِیۤ ءَایَـٰتِنَا مُعَـٰجِزِینَ ﴾ أي: كذَّبوا بها، وسعَوا في إبطالها؛ ظنًّا منهم أنَّهم يُعجِزُون الله سبحانه في طلبهم ومُعاقبتهم.
﴿وَیَرَى ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ﴾ أي: يعلمون ذلك علمَ اليقين كأنّهم يرونه رأي العين.
﴿ إِذَا مُزِّقۡتُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ إذا تمزَّقَت أجسادكم، وتفتَّت في قبورها.
﴿أَم بِهِۦ جِنَّةُۢۗ ﴾ جنون.
﴿أَفَلَمۡ یَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ ﴾ يدعوهم للتفكُّر في كلِّ ما حولهم، فالتفكُّر بدايةُ الطريق إلى الهداية.
﴿ إِن نَّشَأۡ نَخۡسِفۡ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضَ أَوۡ نُسۡقِطۡ عَلَیۡهِمۡ كِسَفࣰا ﴾ كما كانت عاقبة من قبلهم، والقصد من تذكيرهم بهذا أن يدفعهم للتفكير الجاد الذي دعاهم إليه.
﴿لِّكُلِّ عَبۡدࣲ مُّنِیبࣲ ﴾ تائِب مُقبِل على الله.
﴿یَـٰجِبَالُ أَوِّبِی مَعَهُۥ وَٱلطَّیۡرَۖ ﴾ أي: ردِّدِي معه تسبيحَه لربِّه، وقد ورَدَ هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ یُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّیۡرَۚ﴾ [الأنبياء: 79]، والظاهرُ أنّ داود عليه السلام كان يسمَعُ هذا التسبيح، أو أنّه ينتَفِع به بوجهٍ ما؛ لأنَّه اقتَرَنَ بالتسخير، أمّا مُجرَّد تسبيح الجبال والطير بمعناه العام وهو التسبيحُ الذي تُسبِّحه كلُّ الخلائق ﴿یُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾، فلا يختصُّ به داود عليه السلام.
﴿وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِیدَ ﴾ جعلناه ليِّنًا طوع يده، وفيه إشارةٌ إلى أهميّة الحديد في الصناعات.
﴿سَـٰبِغَـٰتࣲ﴾ دروع كاسية.
﴿وَقَدِّرۡ فِی ٱلسَّرۡدِۖ﴾ في ربط حِلَق الحديد بعضها ببعض، وضبط المسافة بين كلِّ واحدةٍ والتي تَلِيها، وفيه توجيهٌ لِإتقان الصَّنعَة.
﴿وَلِسُلَیۡمَـٰنَ ٱلرِّیحَ غُدُوُّهَا شَهۡرࣱ وَرَوَاحُهَا شَهۡرࣱۖ ﴾ معجزةٌ له عليه السلام لتسيِير السفن المُحمَّلَة بالناس أو البضائِع، فتتَّجِه شهرًا مع حركة السفن وهي ذاهبة من موانِئِه، ثم ترجع شهرًا آخر مع عودة السفن.
﴿وَأَسَلۡنَا لَهُۥ عَیۡنَ ٱلۡقِطۡرِ ۖ ﴾ معدنٌ يخرج من باطن الأرض - كالنفط ونحوه - يُستعمل في الصناعات، ولأغراضٍ مختلفة.
﴿وَمَن یَزِغۡ﴾ ينحرِف عن طاعته.
﴿ مَّحَـٰرِیبَ ﴾ أبنية عالية مثل: الحصون والقصور العالية، والمساجد، ﴿وَجِفَانࣲ ﴾ جمع جَفنة، وهي: قَصْعة الطعام، ﴿كَٱلۡجَوَابِ﴾ كالحِياض الكبيرة.
﴿ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦۤ إِلَّا دَاۤبـَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥ ۖ ﴾ الظاهر أنَّ سُليمان عليه السلام توفَّاه الله وهو مُتَّكِئٌ على عصاه، فبقِيَ على هذه الحال حتى أكَلَت الأرضة عصاه، فخرَّ على الأرض، هنالك تبيَّنَت الجنُّ أنّهم لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سُليمان، والظاهر من الآية أيضًا أنّه لبِثَ طويلًا على هذه الحال، فقد عقَّبَ بعد هذا بقوله: ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَیَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ یَعۡلَمُونَ ٱلۡغَیۡبَ مَا لَبِثُواْ فِی ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِینِ ﴾.
والقصة أبرَزَت الجانبَ المقصودَ في إبطال خُرافة أنَّ الجنَّ يعلمون الغيب، أمَّا مُلابسات القصة الجانبيَّة من مثل: كيف بقي الجسد الطاهر كلّ هذه المُدَّة، وهل علِمَ به أهلُه أو لم يعلموا، وكيف لم يستغرِب الجنُّ مُكوثَ الجسَد على حالٍ واحدةٍ - وهذا خلاف المُعتاد قطعًا -، فالأقربُ أنّ القصَّة كلها مُنسَجِمة مع طبيعة مُلك سُليمان عليه السلام في خُروجها عن السُّنن الكونيَّة المعروفة، من مثل: قصة الهُدهد، وعرش بلقيس .. إلخ، فهذه أخبارٌ غيبِيَّةٌ ليس لنا إلا الإيمان بها، وأخذ العبرة العمليَّة من دلالاتها، دون الخوض في كيفيَّاتها ولوازمها، ولا ينبغي أن نحكم على إرادة الله المُطلقة بمقاييسنا الأرضيَّة الضيِّقة.
كما أنّه لا يصِحُّ أن نجِدَ لها التأويلات العلميَّة المُتكلَّفة؛ لأنّ هذا أيضًا معناه أننا ننظر إلى هذه المعجزات الإلهيَّة على أنّها أمورٌ عاديةٌ يمكن أن تخضع لنواميس الأرض، ولنتذكَّر دائمًا أنّ عنوان الإيمان الحقِّ إنّما هو الإيمان بالغيب، فهناك غيبٌ أوسعُ وأكبرُ من عالم الشهادة، وإقحامُ الغيب في نواميس الشهادة تضليلٌ للعقل والعلم، وتضييعٌ لحقيقة الإيمان، والله أعلم.
﴿فَأَعۡرَضُواْ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ سَیۡلَ ٱلۡعَرِمِ﴾ لم يذكُر القرآن وقت الإعراض هذا ولا في أي عهدٍ، لكن الظاهر أنّه بعد عهد بلقيس، وربما بمدَّة ليست قليلة، وأمّا سيلُ العَرِم فهو من العرامَةِ، وهي الشدَّة الطاغية.
﴿ذَوَاتَیۡ أُكُلٍ خَمۡطࣲ وَأَثۡلࣲ وَشَیۡءࣲ مِّن سِدۡرࣲ قَلِیلࣲ﴾ أي: أنّه لم يبق فيها من أطايب الشجر شيء، فالخَمْطُ: الثمرُ المرُّ، ويقال: إنّه الأراك، والأَثْلُ: شجرٌ معروفٌ لا ثمر له، والسِّدْرُ معروفٌ كذلك، وثمرته النَّبْق.
﴿وَجَعَلۡنَا بَیۡنَهُمۡ وَبَیۡنَ ٱلۡقُرَى ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَا﴾ لم يُسمِّ القرآن هذه القرى المباركة، ولا يبعُد أن تكون الشام؛ لمحل الصلة بين اليمن والشام في النموذجَين من عهد بلقيس التي أسلَمَت مع سُليمان، والله أعلم.
﴿قُرࣰى ظَـٰهِرَةࣰ﴾ بارزة للعيان على الطريق بين سبأ والشام، كلما قطع المسافر قريةً بدَت له أخرى.
﴿وَقَدَّرۡنَا فِیهَا ٱلسَّیۡرَۖ﴾ بمعنى أنّ هذه القرى التي على الطريق كانت مُقدَّرة على مراحل؛ بحيث لا يمضي المسافر نهارًا كاملًا أو ليلةً كاملةً إلا ومرَّ بواحدةٍ منها؛ ولذلك قال: ﴿سِیرُواْ فِیهَا لَیَالِیَ وَأَیَّامًا ءَامِنِینَ ﴾.
﴿فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـٰعِدۡ بَیۡنَ أَسۡفَارِنَا ﴾ كأنّهم يطلبون أن تُمحَى هذه القرى، وقد تقدَّم تأويله.
﴿فَجَعَلۡنَـٰهُمۡ أَحَادِیثَ﴾ قصصًا لمن بعدهم يتحدَّثون بها في مجالسهم وأماكن سمرهم.
﴿وَمَزَّقۡنَـٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ ﴾ فرَّقناهم في البلاد، وشتَّتنَا مُلكَهم.
وهنا مُناسبةٌ لطيفةٌ: أنّ مُنكِري الآخرة كانوا يستهزِئُون بالنبيِّ ويقولون: ﴿هَلۡ نَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلࣲ یُنَبِّئُكُمۡ إِذَا مُزِّقۡتُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾، ثم استعمل القرآن هذا اللفظ في الذين تنكَّروا للإيمان، وأورده مورد الاتِّعاظ والاعتبار، كأنّه يقول: إن التمزيقَ كلَّ التمزيقِ آتيكم قبل موتكم.
﴿وَلَقَدۡ صَدَّقَ عَلَیۡهِمۡ إِبۡلِیسُ ظَنَّهُۥ﴾ حينما توعَّد بإغواء بني آدم فقال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغۡوِیَنَّهُمۡ أَجۡمَعِینَ﴾ [ص: 82]، وقوله: ﴿وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَـٰكِرِینَ ﴾ [الأعراف: 17].
﴿وَمَا كَانَ لَهُۥ عَلَیۡهِم مِّن سُلۡطَـٰنٍ ﴾ أي: لم يكن لإبليس سلطة عليهم تسلب إرادَتَهم منهم.
﴿ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن یُؤۡمِنُ بِٱلۡأَخِرَةِ مِمَّنۡ هُوَ مِنۡهَا فِی شَكࣲّۗ ﴾ استثناءٌ مُنقطِعٌ؛ فسلطانُ إبليس على بني آدم منفيٌّ بالكليَّة، والمُستثنى إنّما هو وسوسة الشيطان وإغواؤه، وتزيينه للباطل، فهذا كلّه كائن، وهو جزءٌ من سنَّة الاختبار والتمايز، والله أعلم.