سورة يس تفسير مجالس النور الآية 52

قَالُواْ یَـٰوَیۡلَنَا مَنۢ بَعَثَنَا مِن مَّرۡقَدِنَاۜۗ هَـٰذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ وَصَدَقَ ٱلۡمُرۡسَلُونَ ﴿٥٢﴾

تفسير مجالس النور سورة يس

المجلس السابع والتسعون بعد المائة: عقيدة البعث والجزاء


من الآية (48- 83)


في هذه الآيات تعرِض السورة جوانب ومَشاهد مختلفة من ذلك اليوم الذي سيبعَث الله فيه الناس للحساب والجزاء، وفيه عرضٌ كذلك لشُبهات المُنكِرين وتساؤلاتهم، وكما يأتي:
أولًا: يبدأ القرآن بعرض تساؤل لمنكري الآخرة ﴿وَیَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾ وهو تساؤل قُصِد منه التهكُّم والاستهزاء، وليس طلبًا للجواب، أو بحثًا عن المعرفة، وقد ردَّ القرآنُ عليهم بما يُناسِب قصدَهم: ﴿مَا یَنظُرُونَ إِلَّا صَیۡحَةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰ تَأۡخُذُهُمۡ وَهُمۡ یَخِصِّمُونَ ﴿٤٩﴾ فَلَا یَسۡتَطِیعُونَ تَوۡصِیَةࣰ وَلَاۤ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِمۡ یَرۡجِعُونَ﴾.
إنَّها لحظةُ الصدمة، والمُفاجأة التي ستنزِل بهم وهم في أشغالهم وخصوماتهم؛ فالساعة لا تأتيهم إلا بغتة، وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين آمنوا بالساعة واستعدُّوا لها، وتنبَّهوا إلى علاماتها وأشراطها.
ثانيًا: بعد الساعة وانتهاء الحياة الأولى كلِّها، يعرِض القرآن صورةَ البعث والخروج للحياة الثانية ﴿وَنُفِخَ فِی ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ یَنسِلُونَ﴾، ﴿إِن كَانَتۡ إِلَّا صَیۡحَةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰ فَإِذَا هُمۡ جَمِیعࣱ لَّدَیۡنَا مُحۡضَرُونَ﴾، وفي وسط هذا الذهول يتساءَل المشركون وكأنَّهم كانوا في رَقدةٍ: ﴿قَالُواْ یَـٰوَیۡلَنَا مَنۢ بَعَثَنَا مِن مَّرۡقَدِنَاۜۗ﴾، فيأتِيهم الجوابُ: ﴿هَـٰذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ وَصَدَقَ ٱلۡمُرۡسَلُونَ﴾.
ثالثًا: يُؤكِّد القرآن أنَّ ذلك اليوم هو يوم العدل الإلهي المطلق الذي يَلقَى فيه كلُّ عامل ما عَمِل ﴿فَٱلۡیَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسࣱ شَیۡـࣰٔا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾.
رابعًا: يقسِّم القرآن الناس هناك بحسب أعمالهم التي قدَّمُوها لأنفسهم ﴿إِنَّ أَصۡحَـٰبَ ٱلۡجَنَّةِ ٱلۡیَوۡمَ فِی شُغُلࣲ فَـٰكِهُونَ ﴿٥٥﴾ هُمۡ وَأَزۡوَ ٰ⁠جُهُمۡ فِی ظِلَـٰلٍ عَلَى ٱلۡأَرَاۤىِٕكِ مُتَّكِـُٔونَ ﴿٥٦﴾ لَهُمۡ فِیهَا فَـٰكِهَةࣱ وَلَهُم مَّا یَدَّعُونَ ﴿٥٧﴾ سَلَـٰمࣱ قَوۡلࣰا مِّن رَّبࣲّ رَّحِیمࣲ﴾ هؤلاء هم المؤمنون.
أمّا المجرمون فيُقال لهم: ﴿وَٱمۡتَـٰزُواْ ٱلۡیَوۡمَ أَیُّهَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ﴾ يمتازون عن المؤمنين كما تميَّزُوا عنهم في الدنيا، وناصَبُوهم العداء والبغضاء، يمتازون عنهم ليَلقَوا مصيرًا آخر يَلِيقُ بعنادهم وظلمهم واستكبارهم ﴿هَـٰذِهِۦ جَهَنَّمُ ٱلَّتِی كُنتُمۡ تُوعَدُونَ ﴿٦٣﴾ ٱصۡلَوۡهَا ٱلۡیَوۡمَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ ﴿٦٤﴾ ٱلۡیَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰۤ أَفۡوَ ٰ⁠هِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَاۤ أَیۡدِیهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ یَكۡسِبُونَ﴾.
خامسًا: يُوجِّهُ القرآن بعد كل هذا نداءَه لبني آدم، ذلك النداء الذي يختَرِق حواجِزَ الزمن، فيتلقَّاه مَن يسمَعه في هذه الدار ليتَّعِظ ويعتَبِر، ويتلقَّاه مَن في تلك الدار؛ ليزدادَ الطائِعُون سعادةً وحُبُورًا، ويزدادَ المجرمون شقاوةً وبُورًا: ﴿۞ أَلَمۡ أَعۡهَدۡ إِلَیۡكُمۡ یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ أَن لَّا تَعۡبُدُواْ ٱلشَّیۡطَـٰنَۖ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوࣱّ مُّبِینࣱ ﴿٦٠﴾ وَأَنِ ٱعۡبُدُونِیۚ هَـٰذَا صِرَ ٰ⁠طࣱ مُّسۡتَقِیمࣱ ﴿٦١﴾ وَلَقَدۡ أَضَلَّ مِنكُمۡ جِبِلࣰّا كَثِیرًاۖ أَفَلَمۡ تَكُونُواْ تَعۡقِلُونَ﴾.
سادسًا: وعلى صلةٍ بهذا النداء الكريم، يرسُمُ القرآن لهؤلاء ولغَيرهم طريق النجاة الواضِحة البيِّنة التي هي فوق الشك والشبهة ﴿وَمَا عَلَّمۡنَـٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا یَنۢبَغِی لَهُۥۤۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرࣱ وَقُرۡءَانࣱ مُّبِینࣱ ﴿٦٩﴾ لِّیُنذِرَ مَن كَانَ حَیࣰّا وَیَحِقَّ ٱلۡقَوۡلُ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾.
سابعًا: ثم يأخذ بهذه العقول والقلوب مرة أخرى إلى دلائل الإيمان وشواهده المبثوثة في هذا الكون ﴿أَوَلَمۡ یَرَوۡاْ أَنَّا خَلَقۡنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتۡ أَیۡدِینَاۤ أَنۡعَـٰمࣰا فَهُمۡ لَهَا مَـٰلِكُونَ ﴿٧١﴾ وَذَلَّلۡنَـٰهَا لَهُمۡ فَمِنۡهَا رَكُوبُهُمۡ وَمِنۡهَا یَأۡكُلُونَ ﴿٧٢﴾ وَلَهُمۡ فِیهَا مَنَـٰفِعُ وَمَشَارِبُۚ أَفَلَا یَشۡكُرُونَ﴾.
ثامنًا: ثم يلتَفِت إلى النبيِّ الكريم مُسلِّيًا ومُواسِيًا على تكذيبهم له وهو الناصِحُ لهم، الحريصُ عليهم - بأبي هو وأمِّي - ﴿وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءَالِهَةࣰ لَّعَلَّهُمۡ یُنصَرُونَ ﴿٧٤﴾ لَا یَسۡتَطِیعُونَ نَصۡرَهُمۡ وَهُمۡ لَهُمۡ جُندࣱ مُّحۡضَرُونَ ﴿٧٥﴾ فَلَا یَحۡزُنكَ قَوۡلُهُمۡۘ إِنَّا نَعۡلَمُ مَا یُسِرُّونَ وَمَا یُعۡلِنُونَ﴾.
تاسعًا: ثم يختم القرآن هذه السورة الكريمة بحوار مع مُنكِرِي البعث ﴿أَوَلَمۡ یَرَ ٱلۡإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَـٰهُ مِن نُّطۡفَةࣲ فَإِذَا هُوَ خَصِیمࣱ مُّبِینࣱ ﴿٧٧﴾ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلࣰا وَنَسِیَ خَلۡقَهُۥ ۖ قَالَ مَن یُحۡیِ ٱلۡعِظَـٰمَ وَهِیَ رَمِیمࣱ ﴿٧٨﴾ قُلۡ یُحۡیِیهَا ٱلَّذِیۤ أَنشَأَهَاۤ أَوَّلَ مَرَّةࣲۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِیمٌ ﴿٧٩﴾ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلۡأَخۡضَرِ نَارࣰا فَإِذَاۤ أَنتُم مِّنۡهُ تُوقِدُونَ ﴿٨٠﴾ أَوَلَیۡسَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰۤ أَن یَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۚ بَلَىٰ وَهُوَ ٱلۡخَلَّـٰقُ ٱلۡعَلِیمُ ﴿٨١﴾ إِنَّمَاۤ أَمۡرُهُۥۤ إِذَاۤ أَرَادَ شَیۡـًٔا أَن یَقُولَ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ ﴿٨٢﴾ فَسُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِی بِیَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَیۡءࣲ وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾.
فالذي خلق الإنسان من نطفةٍ كيف لا يقدر على خلقه مرة أخرى؟ والذي خلق آدم من لا شيء، وخلق السماوات والأرضين كلَّها بما فيها ومَن فيها، كيف يُعجزُهُ أن يُعِيدَ خلقهم؟ إنَّه نداء العقل والفطرة، لو كانوا يسمَعُون.


﴿إِلَّا صَیۡحَةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰ﴾ هي نفخةُ الصُّور الأولى، والتي يُعلَن فيها نهاية الحياة ويموت فيها الناس.
﴿یَخِصِّمُونَ﴾ أي: يختصمون في شؤون حياتهم، بمعنى أنَّ الساعة تأتيهم بغتة وهم غافلون.
﴿فَلَا یَسۡتَطِیعُونَ تَوۡصِیَةࣰ﴾ كما هو شأن المحتضر الذي يُوصِي بما عنده، فهؤلاء الذين يحضرون النفخة يصعَقون صعقةً واحدةً، فلا تُتاح لهم توصية ولا غيرها.
﴿وَنُفِخَ فِی ٱلصُّورِ﴾ أي: النفخة الثانية، وهي نفخة البعث والقيامة من القبور.
﴿مِّنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ﴾ من القبور.
﴿یَنسِلُونَ﴾ يخرجون من قبورهم سراعًا.
﴿قَالُواْ یَـٰوَیۡلَنَا مَنۢ بَعَثَنَا مِن مَّرۡقَدِنَاۜۗ﴾ أي: مِن مَنامِنا، يُشبِّهون موتهم الذي كانوا فيه بالنوم، وهذا دليلٌ أنَّهم في تلك المُدَّة التي تسبق البعث لم يكونوا يُعذَّبون، والجمع بين هذا وبين ما وَرَدَ من نعيم القبر وعذابه: أنَّ حياةَ البرزَخ حياةٌ طويلة، ولا مانع من اختلاف أحوالها، والله أعلم.
﴿إِنَّ أَصۡحَـٰبَ ٱلۡجَنَّةِ ٱلۡیَوۡمَ فِی شُغُلࣲ فَـٰكِهُونَ﴾ هو شغل التنعُّم والتفكُّه، وليس شغل الجهد والمشقة.
﴿عَلَى ٱلۡأَرَاۤىِٕكِ﴾ جمع أريكة، وهي السرير.
﴿وَلَهُم مَّا یَدَّعُونَ﴾ ما يطلبون.
﴿سَلَـٰمࣱ قَوۡلࣰا مِّن رَّبࣲّ رَّحِیمࣲ﴾ وهذا غايةُ المُنَى؛ حيث يُحَيِّي الله عبادَه المؤمنين بتحية السلام.
﴿سَلَـٰمࣱ قَوۡلࣰا مِّن رَّبࣲّ رَّحِیمࣲ﴾ أي: ميِّزُوا أنفسكم عن أهل الجنَّة؛ فليس لكم معهم نصيب.
﴿۞ أَلَمۡ أَعۡهَدۡ إِلَیۡكُمۡ یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ﴾ ألم أُوصِكم وأُبيِّن لكم بما أَوحَيتُه في كُتُبي وعلى لسان رُسُلي.
﴿وَلَقَدۡ أَضَلَّ مِنكُمۡ جِبِلࣰّا كَثِیرًاۖ﴾ خلقًا كثيرًا.
﴿ٱلۡیَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰۤ أَفۡوَ ٰ⁠هِهِمۡ﴾ فلا تتكلَّم، وليس هذا حالة دائمة عند أهل النار، بل هو وقت شهادة الجوارح كما يظهر من السياق، ولأنَّ كلام أهل النار بعد الحساب والشهادة ثابتٌ، وقد مرَّ بنا كثيرٌ منه.
﴿وَتُكَلِّمُنَاۤ أَیۡدِیهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ یَكۡسِبُونَ﴾ فالذي جعَلَ اللسانَ يتكلَّم وهو قطعةُ لحمٍ، قادرٌ على أن يجعل بقية الجوارح تتكلَّم، وليس بالضرورة أن يكون ذلك الكلام من جِنس كلامنا اليوم، والله أعلم.
﴿وَلَوۡ نَشَاۤءُ لَطَمَسۡنَا عَلَىٰۤ أَعۡیُنِهِمۡ فَٱسۡتَبَقُواْ ٱلصِّرَ ٰ⁠طَ فَأَنَّىٰ یُبۡصِرُونَ ﴿٦٦﴾ وَلَوۡ نَشَاۤءُ لَمَسَخۡنَـٰهُمۡ عَلَىٰ مَكَانَتِهِمۡ فَمَا ٱسۡتَطَـٰعُواْ مُضِیࣰّا وَلَا یَرۡجِعُونَ﴾ (لو) هذه - والتي هي حرف امتناع لامتناع - جاء بها لبيان قُدرة الله المُطلقة ومشيئته التي لا يحُدُّها حدٌّ، ولبيان نعمةِ الله على هؤلاء؛ حيث منَحَهم البصَرَ والقُدرةَ على النظر، ولو شاء لطمَسَ على أعيُنهم فلا يُبصِرُون طريقَهم، ومنَحَهم القُدرةَ على الحركة والذهاب والمجيء، ولو شاء لأقعَدَهم في مكانهم، فالله قادرٌ على أن يُوقِعَ عليهم مُختلَفَ العقوبات، ولكنَّه أمهَلَهم لعلَّهم يرجِعُون، ولعلَّهم يتفكَّرُون، ولكنَّهم أبَوا إلا العِنادَ والمُكابَرة.
﴿وَمَن نُّعَمِّرۡهُ نُنَكِّسۡهُ فِی ٱلۡخَلۡقِۚ﴾ بمعنى أنَّ الدنيا هذه ليست دار مقرٍّ، فحتى مَن طال عمره فيها فإنَّه سيعيش حياةَ نكدٍ بأسقامٍ وأوجاعٍ، وانحناء ظهرٍ، وضعف سمعٍ وبصرٍ.
﴿لِّیُنذِرَ مَن كَانَ حَیࣰّا﴾ أي: عاقلًا يسمع ويُبصِر ويُفكِّر، بخلاف الجاهل المُعانِد الذي هو كالميت، فلا يسمع، ولا يُبصِر، ولا يُفكِّر.
﴿وَیَحِقَّ ٱلۡقَوۡلُ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ أي: يحلُّ بهم الوعيد الذي توعَّدَهم الله به.
﴿أَوَلَمۡ یَرَوۡاْ أَنَّا خَلَقۡنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتۡ أَیۡدِینَاۤ أَنۡعَـٰمࣰا﴾ فالله خلق الخلق بيده، كما قال في السماء: ﴿وَٱلسَّمَاۤءَ بَنَیۡنَـٰهَا بِأَیۡیْدࣲ﴾ [الذاريات: 47]، وقال في آدم عليه السلام: ﴿لِمَا خَلَقۡتُ بِیَدَیَّۖ﴾ [ص: 75].
﴿فَهُمۡ لَهَا مَـٰلِكُونَ﴾ مُلْكًا مُؤقَّتًا على سبيل الاختبار والاستخلاف، وإلا فالله هو مالك المُلك ولا يشرك في مُلكه أحدًا.
﴿وَذَلَّلۡنَـٰهَا لَهُمۡ﴾ سخَّرناها لهم.
﴿فَمِنۡهَا رَكُوبُهُمۡ وَمِنۡهَا یَأۡكُلُونَ﴾ أي: منها ما يتَّخِذونه للركوب، ومنها ما يتَّخِذونه للأكل، ثم فصَّلَ هذا بقوله: ﴿وَلَهُمۡ فِیهَا مَنَـٰفِعُ وَمَشَارِبُۚ﴾ والمنافع كالأوبار والأصواف المُستعمَلَة في الملابس ونحوها.
﴿لَا یَسۡتَطِیعُونَ نَصۡرَهُمۡ وَهُمۡ لَهُمۡ جُندࣱ مُّحۡضَرُونَ﴾ أي: الأصنام لا تستطيع نصر المشركين، بينما المشركون يُجنِّدُون أنفسَهم لخدمة الأصنام وحمايتها.
﴿فَلَا یَحۡزُنكَ قَوۡلُهُمۡۘ﴾ أي: فلا تحزن لتكذيب الكفَّار لك.
﴿فَإِذَا هُوَ خَصِیمࣱ مُّبِینࣱ﴾ مُخاصِمٌ مُعرِبٌ عن خصومته لله الذي خلَقَه.
﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلࣰا وَنَسِیَ خَلۡقَهُۥ ۖ﴾ لأنَّه لو تذكَّرَ خَلْقَهُ لما ضرَبَ هذا المثل.
﴿قَالَ مَن یُحۡیِ ٱلۡعِظَـٰمَ وَهِیَ رَمِیمࣱ﴾ إنه مُتعجِّبٌ كيف يقول محمدٌ بأنَّ الله قادِرٌ على إعادة الحياة لهذه العظام بعد أن تَبلَى وتفت وتختلط بالتراب، ولكن هذا السائل نسِيَ نفسَه المخلوقةَ من نطفةٍ من ماءٍ مَهِين.
﴿قُلۡ یُحۡیِیهَا ٱلَّذِیۤ أَنشَأَهَاۤ أَوَّلَ مَرَّةࣲۖ﴾ إذ الخلق الثاني في عادة البشر أهوَنُ مِن الخلق الأول.
﴿ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلۡأَخۡضَرِ نَارࣰا فَإِذَاۤ أَنتُم مِّنۡهُ تُوقِدُونَ﴾ وهي ظاهرةٌ من ظواهر هذه الحياة؛ حيث تؤول الأشجار بعد أن كانت زاهِية الخُضرة إلى حطبٍ يابسٍ تستعمل في الوقود، ضمن دورة حياتيَّة يُشبِّهُها القرآن دائمًا بدورة الحياة الإنسانية من موتٍ إلى حياةٍ، ومن حياةٍ إلى موتٍ، ومن موتٍ إلى حياةٍ، كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَیۡهَا ٱلۡمَاۤءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡۚ إِنَّ ٱلَّذِیۤ أَحۡیَاهَا لَمُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰۤۚ﴾ [فصلت: 39].
أمّا الحديث عن وجود شجرتَين يُؤخذ غصنٌ من هذه، وغصنٌ من هذه فتتَّقِدُ النارُ، فلا يتَّسِعُ له السياق؛ لأن السياق يتحدَّث في إطارٍ أوسع، وفي تسلسُلٍ مختلف، قصد منه الإشارة إلى بيان قانون الحياة والممات في هذا الخلق، والله أعلم.
﴿إِنَّمَاۤ أَمۡرُهُۥۤ إِذَاۤ أَرَادَ شَیۡـًٔا أَن یَقُولَ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ﴾ بمعنى أنَّ الله لا يحتاج إلى الوسائل والوسائط، ولا إلى المعامل وهندسة الصناعات، وإنَّما أن تتوجَّه إرادتُه إلى تكوين الشيء الذي يريده فيكون، وهذا فيه دليلٌ آخر على البعث مستندٌ إلى معنى الربوبيَّة والألوهيَّة، فالله الخالق لكلِّ شيءٍ كيف يُعجِزُهُ شيء؟
﴿فَسُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِی بِیَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَیۡءࣲ وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ أي: تقدَّسَ وتنزَّهَ الله الذي بيده مُلك كلِّ شيءٍ، وقوله: ﴿وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ فيه وعدٌ للمتقين، ووعيدٌ للكافرين، وهو خطابٌ لمَن ذكَرَهم الله تعالى بهذَين الوصفَين في قوله: ﴿إِنَّ أَصۡحَـٰبَ ٱلۡجَنَّةِ ٱلۡیَوۡمَ فِی شُغُلࣲ فَـٰكِهُونَ﴾، وقوله: ﴿وَٱمۡتَـٰزُواْ ٱلۡیَوۡمَ أَیُّهَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ﴾، والله أعلم.