سورة الصافات تفسير مجالس النور الآية 2

فَٱلزَّ ٰ⁠جِرَ ٰ⁠تِ زَجۡرࣰا ﴿٢﴾

تفسير مجالس النور سورة الصافات

المجلس الثامن والتسعون بعد المائة: حوار مع المشركين


من الآية (1- 71)


سورة الصافَّات سورةٌ مكيَّةٌ تتناول طبيعة الصراع القائم آنذاك في مكة بين التوحيد والشرك، وكلّ آياتها إنّما تدور حول هذا الموضوع، وتعرضه بأساليب متنوعة، فيها المُحاورة المُباشرة سؤالًا وجوابًا، وأخذًا وردًّا، وفيها ضربُ الأمثلة من قصص النبيين وأقوامهم، وفيها كذلك انتقالات سريعة تعرِضُ لنا مشاهد من الآخرة مُتضمِّنة لحوارات التحسُّر والتندُّم، وسنتناول هذه المشاهد والمعاني بحسب تسلسُلِها في هذه الآيات، وكما يأتي:
أولًا: يؤكِّدُ القرآن في مُستهلِّ السورة وحدانيَّة الله تبارك وتعالى بجملةٍ من المؤكِّدات؛ منها: القسم، ومنها: حروف التوكيد وأدواته المعروفة في اللسان العربي ﴿وَٱلصَّـٰۤفَّـٰتِ صَفࣰّا ﴿١﴾ فَٱلزَّ ٰ⁠جِرَ ٰ⁠تِ زَجۡرࣰا ﴿٢﴾ فَٱلتَّـٰلِیَـٰتِ ذِكۡرًا ﴿٣﴾ إِنَّ إِلَـٰهَكُمۡ لَوَ ٰ⁠حِدࣱ ﴿٤﴾ رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَا وَرَبُّ ٱلۡمَشَـٰرِقِ﴾.
ثانيًا: يُشير القرآن إلى مصداقيَّة الوحي في كلِّ ما يُشرِّعُه أو يُخبِرُ به، وتفرُّده أيضًا بنقل الحقائق الغيبيَّة، وفي هذا تخليصٌ للعقل البشري من لَوَثِ الخرافة والأساطير، وأعمال السحر والتنجيم والشعوذة ﴿إِنَّا زَیَّنَّا ٱلسَّمَاۤءَ ٱلدُّنۡیَا بِزِینَةٍ ٱلۡكَوَاكِبِ ﴿٦﴾ وَحِفۡظࣰا مِّن كُلِّ شَیۡطَـٰنࣲ مَّارِدࣲ ﴿٧﴾ لَّا یَسَّمَّعُونَ إِلَى ٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰ وَیُقۡذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبࣲ ﴿٨﴾ دُحُورࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابࣱ وَاصِبٌ ﴿٩﴾ إِلَّا مَنۡ خَطِفَ ٱلۡخَطۡفَةَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابࣱ ثَاقِبࣱ﴾.
ثالثًا: يدعو القرآن المشركين إلى النظر في هذا الخَلق العظيم وفي خَلق أنفسهم أيضًا، ففي هذا بُلغةٌ لمن أراد الهداية ﴿فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَهُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَم مَّنۡ خَلَقۡنَاۤۚ إِنَّا خَلَقۡنَـٰهُم مِّن طِینࣲ لَّازِبِۭ﴾.
رابعًا: يُبيِّنُ القرآن أنّ سبب ضلال هؤلاء إنّما هو الاستهزاء وأخذ الأمور بمأخذ السخرية واللهو والعبث ﴿بَلۡ عَجِبۡتَ وَیَسۡخَرُونَ ﴿١٢﴾ وَإِذَا ذُكِّرُواْ لَا یَذۡكُرُونَ ﴿١٣﴾ وَإِذَا رَأَوۡاْ ءَایَةࣰ یَسۡتَسۡخِرُونَ ﴿١٤﴾ وَقَالُوۤاْ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ مُّبِینٌ﴾.
ثم يربط القرآن بين هذه النظرة اللاهية العابثة وما فيها من سُخرية واستهزاء بأصل الداء العُضال والذي هو التكبُّر البغيض الذي يُعمي ويُصم ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴿٣٥﴾ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ﴾ ثمّ التعصُّب لموروث الآباء والأجداد دون نظرٍ أو تمحيصٍ ﴿إِنَّهُمۡ أَلۡفَوۡاْ ءَابَاۤءَهُمۡ ضَاۤلِّینَ ﴿٦٩﴾ فَهُمۡ عَلَىٰۤ ءَاثَـٰرِهِمۡ یُهۡرَعُونَ ﴿٧٠﴾ وَلَقَدۡ ضَلَّ قَبۡلَهُمۡ أَكۡثَرُ ٱلۡأَوَّلِینَ﴾.
خامسًا: يعرض القرآن موقف المشركين من الآخرة، في إشارةٍ إلى أنّ هذا الموقف وما فيه من إنكارٍ ليوم الحساب هو الذي يقودهم إلى السخرية واللهو والعبث في حياتهم وفي القضايا المصيريَّة المطروحة أمامهم ﴿أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابࣰا وَعِظَـٰمًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ ﴿١٦﴾ أَوَءَابَاۤؤُنَا ٱلۡأَوَّلُونَ﴾.
سادسًا: يردُّ القرآن عليهم بأنّ يوم الحساب آتٍ لا محالة، وأنّهم هناك سيندمون وسيتلاومون ﴿قُلۡ نَعَمۡ وَأَنتُمۡ دَ ٰ⁠خِرُونَ ﴿١٨﴾ قُلۡ نَعَمۡ وَأَنتُمۡ دَ ٰ⁠خِرُونَ ﴿١٩﴾ قُلۡ نَعَمۡ وَأَنتُمۡ دَ ٰ⁠خِرُونَ ﴿٢٠﴾ هَـٰذَا یَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِ ٱلَّذِی كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ ﴿٢١﴾ ۞ ٱحۡشُرُواْ ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْ وَأَزۡوَ ٰ⁠جَهُمۡ وَمَا كَانُواْ یَعۡبُدُونَﯽ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَٱهۡدُوهُمۡ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طِ ٱلۡجَحِیمِ ﴿٢٢﴾ وَقِفُوهُمۡۖ إِنَّهُم مَّسۡـُٔولُونَ ﴿٢٤﴾ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ﴿٢٥﴾ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ﴿٢٦﴾ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ﴿٢٧﴾ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ﴿٢٨﴾ قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴿٢٩﴾ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ ۖ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ﴿٣٠﴾ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا ۖ إِنَّا لَذَائِقُونَ ﴿٣١﴾ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ﴿٣٢﴾ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴿٣٣﴾ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ﴾.
سابعًا: ينتقلُ السياق هنا لعرض صورةٍ من صور الآخرة فيها بيان لعاقبة الفريقين: الكافرين والمؤمنين، وهذا أسلوبٌ قرآنيٌّ مُتكررٌ لدفع القلوب ترغيبًا وترهيبًا للنظر الجاد، والتفكير الهادف قبل فوات الأوان ﴿بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ﴿٣٧﴾ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ ﴿٣٨﴾ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿٣٩﴾ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴿٤٠﴾ أُولَٰئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ ﴿٤١﴾ فَوَاكِهُ ۖ وَهُم مُّكْرَمُونَ ﴿٤٢﴾ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿٤٣﴾ عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴿٤٤﴾ يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ﴿٤٥﴾ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ﴿٤٦﴾ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴿٤٧﴾ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ﴿٤٨﴾ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾.
ثم يعود القرآن وفي مَعرِض المقارنة لينقل صورةً مختلفةً تمامًا عن صورة هذا النعيم: ﴿أَذَ ٰ⁠لِكَ خَیۡرࣱ نُّزُلًا أَمۡ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ ﴿٦٢﴾ إِنَّا جَعَلۡنَـٰهَا فِتۡنَةࣰ لِّلظَّـٰلِمِینَ ﴿٦٣﴾ إِنَّهَا شَجَرَةࣱ تَخۡرُجُ فِیۤ أَصۡلِ ٱلۡجَحِیمِ ﴿٦٤﴾ طَلۡعُهَا كَأَنَّهُۥ رُءُوسُ ٱلشَّیَـٰطِینِ ﴿٦٥﴾ فَإِنَّهُمۡ لَـَٔاكِلُونَ مِنۡهَا فَمَالِـُٔونَ مِنۡهَا ٱلۡبُطُونَ﴿٦٦﴾ ثُمَّ إِنَّ لَهُمۡ عَلَیۡهَا لَشَوۡبࣰا مِّنۡ حَمِیمࣲ ﴿٦٧﴾ ثُمَّ إِنَّ مَرۡجِعَهُمۡ لَإِلَى ٱلۡجَحِیمِ﴾.
ثامنًا: وفي هذا السياق ينقل القرآن مشهدًا فريدًا، يتحاورُ فيه المؤمنون وهم في غَمرة السعادة والحُبُور، مشهد يتذكَّرون فيه دنياهم وما كان فيها مِن صراعٍ، فينهض أحدهم ليُطلِعَهم على قرينٍ له كان على الباطل، وكان يجهد نفسه لأخذ صاحبه معه لولا أن نجَّاه الله، فيراه في سواء الجحيم.
نَعَم لقد كانا قرينَين، لكن لكلِّ واحدٍ منهما مشربه ومذهبه، فافترقا هناك أيّما افتراق ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ﴿٥٠﴾ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴿٥١﴾ یَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُصَدِّقِینَ ﴿٥٢﴾ أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابࣰا وَعِظَـٰمًا أَءِنَّا لَمَدِینُونَ ﴿٥٣﴾ قَالَ هَلۡ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ ﴿٥٤﴾ فَٱطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِی سَوَاۤءِ ٱلۡجَحِیمِ ﴿٥٥﴾ قَالَ تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرۡدِینِ ﴿٥٦﴾ وَلَوۡلَا نِعۡمَةُ رَبِّی لَكُنتُ مِنَ ٱلۡمُحۡضَرِینَ ﴿٥٧﴾ أَفَمَا نَحۡنُ بِمَیِّتِینَ ﴿٥٨﴾ إِلَّا مَوۡتَتَنَا ٱلۡأُولَىٰ وَمَا نَحۡنُ بِمُعَذَّبِینَ﴾.
تاسعًا: يدعو القرآن كافة الناس إلى هذا الفوز العظيم، وإلى العمل الجاد للحاق بركب الصالحين، وعباد الله المُخلَصين، وهي الغاية العمليَّة لتلك الصور وتلك المشاهد الغيبية التي ينقلها لنا القرآن ﴿إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ ﴿٦٠﴾ لِمِثۡلِ هَـٰذَا فَلۡیَعۡمَلِ ٱلۡعَـٰمِلُونَ﴾.


﴿وَٱلصَّـٰۤفَّـٰتِ صَفࣰّا ﴿١﴾ فَٱلزَّ ٰ⁠جِرَ ٰ⁠تِ زَجۡرࣰا ﴿٢﴾ فَٱلتَّـٰلِیَـٰتِ ذِكۡرًا﴾ يُقسِمُ الله بالملائكة ويذكر بعض صفاتهم؛ فالصَّافَّات: جماعات الملائكة التي تقِف صفوفًا منتظمة، وهو مشهدٌ يُوحي بالجلال والروعة والنظام، وإنْ كنّا لا ندري عن حقيقة تلك الصفوف وهيئتها وغايتها، فليس ذلك مطلوبًا منَّا، ولا يتصل بوظيفتنا نحن على هذه الأرض، فإيحاءات الصورة الكليَّة تكفي.
أما الزاجرات والتاليات، فالظاهرُ أنَّها جماعات الملائكة التي تنزل بالذِّكر، وهو الوحي، وقد عطَفَ العام على الخاص؛ تنبيهًا على أهميَّة الخاص، فالوحي جاء لغاياتٍ كثيرةٍ، من أهمها: زجر الناس عن الشرك، والإثم، والظلم؛ ولذلك قدَّمه.
وقد يأتي الزجر بمعنًى آخر، وهو الصيحة لإماتة الناس جميعًا، ثم الصيحة لبعثهم؛ حيث سمَّاها القرآن: زَجْرة، كما في الآية الآتية: ﴿فَإِنَّمَا هِیَ زَجۡرَةࣱ وَ ٰ⁠حِدَةࣱ فَإِذَا هُمۡ یَنظُرُونَ﴾ ومعلومٌ أنَّ هذا من عمل الملائكة أيضًا.
﴿وَرَبُّ ٱلۡمَشَـٰرِقِ﴾ المطالِعُ المختلفة للنجوم والكواكب، ومنها: حركةُ الشمس التي نراها بأعيننا كلَّ يوم، فلكلِّ يومٍ مشرِقه، كما أنَّ لكلِّ يومٍ مغرِبه، ونصَّ على المشارق دون المغارب؛ لدلالتها عليها باللزوم، وتنبيهًا على أهمية المشارق؛ لأنَّها بداية كلِّ يوم، وفيها الحياة والنشاط، والانبِعاث للعمل.
﴿إِنَّا زَیَّنَّا ٱلسَّمَاۤءَ ٱلدُّنۡیَا بِزِینَةٍ ٱلۡكَوَاكِبِ﴾ تنبيهًا إلى قيمة الجمال والزينة، وفيه إشارة لمعنى المشارق أيضًا.
﴿وَحِفۡظࣰا مِّن كُلِّ شَیۡطَـٰنࣲ مَّارِدࣲ ﴿٧﴾ لَّا یَسَّمَّعُونَ إِلَى ٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰ وَیُقۡذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبࣲ﴿٨﴾ دُحُورࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابࣱ وَاصِبٌ﴾ يخبر الله ـ أنَّ النجوم والكواكب محروسة بنظام الله وناموسه الذي لا يسمح للشيطان أن يَرقَى فيها لاستراق السمع، أو التشويش على الوحي، والمقصود العملي بهذا الإخبار أنَّ الشياطين لا يعلَمون الغيب، وأنَّ مصدر الغيب الوحيد إنَّما هو الوحي، والمارد: المُتمرِّد، والواصِب: الدائِم، والمقصود به هنا: العذاب الدائم في الآخرة.
﴿إِلَّا مَنۡ خَطِفَ ٱلۡخَطۡفَةَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابࣱ ثَاقِبࣱ﴾ صورة لما يحصل في الفلك العلوي؛ حيث تحاول الشياطين أن تطَّلع على شيءٍ من ذلك العالم الغيبي، فتردعها الشهب.
وليس للعقل البشري قدرة على تكييف هذا الشيء؛ إذ إنَّ إدراك الكيفيَّة كما هي ليس مطلوبًا، وقد لا يكون نافعًا أيضًا، وإنّما المقصود التيقُّن من أنَّ الشياطين ممنوعون من الغيب، وهذا يكفي، والثاقب: صفة للشهاب، وفيها معنى السرعة والتوهُّج.
﴿فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ﴾ أي: سَلْ هؤلاء المشركين.
﴿مِّن طِینࣲ لَّازِبِۭ﴾ أي: من طِينٍ مُتماسِكٍ لَزِجٍ.
﴿بَلۡ عَجِبۡتَ﴾ أي: إنَّك تتعجَّب يا مُحمَّد من تكذيبِهم لك، وأنت الصادقُ الأمينُ.
﴿وَإِذَا رَأَوۡاْ ءَایَةࣰ یَسۡتَسۡخِرُونَ﴾ أي: يُبالِغُون بالسخرية والاستهزاء.
﴿أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابࣰا وَعِظَـٰمًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ ﴿١٦﴾ أَوَءَابَاۤؤُنَا ٱلۡأَوَّلُونَ﴾ يسألون استنكارًا واستهزاءً بعودتهم إلى الحياة كرَّة ثانية بعد أن يُصبِحوا ترابًا وعظامًا، ثم يتساءلون عن آبائهم الأولين، لأن إعادتهم إلى الحياة - بمنطقهم - أكثر غرابة واستحالة؛ لطول العهد، وضياع قبورهم ورُفاتهم.
وكلمة (أَوَ) مركبة من: همزة استفهام، وواو عطف، كأنَّهم يقولون: أئِنَّا لمبعوثون وأآباؤنا أيضًا، ثم قدَّم الهمزة؛ تجنُّبًا لثِقَل اللفظ، والله أعلم.
﴿وَأَنتُمۡ دَ ٰ⁠خِرُونَ﴾ صاغِرُون.
﴿فَإِنَّمَا هِیَ زَجۡرَةࣱ وَ ٰ⁠حِدَةࣱ فَإِذَا هُمۡ یَنظُرُونَ﴾ هي الصيحة الثانية؛ إيذانًا بالبعث وعودة الحياة من جديد.
﴿هَـٰذَا یَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِ﴾ يوم القضاء والحكم بين الخلائق.
﴿۞ ٱحۡشُرُواْ ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْ وَأَزۡوَ ٰ⁠جَهُمۡ﴾ أي: وأشباهَهم ومَن كان يُناصِرُهم ويُشايِعُهم.
﴿قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ﴾ هذا قولُ الأتباع للمتبُوعين في ذلك الموقف العَصِيب، يقولون لهم: إنَّكم كنتم تُزيِّنُون لنا الباطل، وتأتونَنا من الجهة التي نأمَنُكم فيها ولا نشُكُّ بنُصحِكُم.
﴿قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿٢٩﴾ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ ۖ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ﴾ هذا ردُّ المتبُوعِين على أتباعهم، يرُدُّون اللائِمةَ عليهم، ويقولون لهم: إنَّه لم يكن لنا عليكم حُجَّة نُلزِمُكم بها، ولكنَّنا دعَوناكم فاستَجبتُم لنا.
﴿فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ﴾ لأنَّكم كنتم مثلنا في الكفر والطغيان.
﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ تأكيدٌ لمبدأ العدل الإلهي المطلق.
﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنَّهم لم يدخلوا أصلًا في الخطاب المُتقدِّم: ﴿إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ﴾ وفائدة الاستثناء هنا: المقارنة بين الذين يستحِقُّون العذابَ الأليمَ، وبين عباد الله المُخلِصِين الذين هم في جنَّات النعيم.
﴿بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ﴾ من عينٍ جاريةٍ لا تنقَطِع، والمقصود بالكأس هنا: كأس الخمر، وهي خمر الجنَّة الآتي وصفُها.
﴿بَيْضَاءَ﴾ وصفٌ للون الخمر التي في الكأس.
﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ﴾ لا تذهب بالعقل، ولا تضرُّ بالصحة.
﴿وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ أي: لا يُصرَفون عنها، بمعنى أنَّها موفورة لهم متى شاءوا.
﴿وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ﴾ أي: الحُور العين، ووصفهنَّ بأنَّهنَّ قاصِرات الطرف بمعنى أنَّهنَّ حيِيَّات فلا يُحدِّقن بوجوه أزواجهنَّ، بل ينظُرن إليهم مِن طرفٍ حَيِيٍّ، مع أنَّهنَّ واسِعات العيون، وهذا معنى قوله: ﴿عِينٌ﴾، وهذا أَولَى مِن تفسير مَن فسّرها بأنّهنَّ قاصِرات الطَّرف على أزواجهنَّ، فلا يتطلَّعنَ إلى غيرِهم؛ فالجنّةُ ليس فيها ما يستوجِبُ مثلَ هذا التحرُّز، والله أعلم.
﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾ هذا تشبيهٌ معروفٌ عند العرب، يُشبِّهُون المرأة الحسناء ببيض النعام، فالنعامة تحفرُ لبيضها في الرمل، وتفرش له من ريشها الناعم، فتخرج شديدة اللَّمَعَان، ناصِعة البياض، مُصانة من الدَّرَن واللَّوَث، ومنهم من يُطلِق البيض المكنون على اللآلئ المكنونة في الصدف.
﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾ هؤلاء هم أهل الجنَّة، يتسامَرون ويأنَس بعضهم ببعض.
﴿قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ﴾ كان لي صاحب في الدنيا.
﴿أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُصَدِّقِینَ﴾ أي: بالبعث، فصاحِبُه كان كافرًا، وكان يُجادِلُه في عقيدته.
﴿أَءِنَّا لَمَدِینُونَ﴾ لمحاسبون بعد الموت، يسألُ سؤالَ المُستنكِر لا المُستفهِم.
﴿قَالَ هَلۡ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ﴾ هذا قول المؤمن لأصحابه المؤمنين، يدعوهم إلى الاطلاع على أهل النار، والظاهر من هذا أنَّ أهل الجنَّة بإمكانهم الاطِّلاع على النار ومَن فيها.
﴿فَٱطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِی سَوَاۤءِ ٱلۡجَحِیمِ﴾ أي: رأى قرينَه الذي كان يُجادله في الدنيا عن البعث، رآه وسط النار.
﴿قَالَ تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرۡدِینِ﴾ يقول له: لقد قاربت أن تُهلِكَني معك.
﴿وَلَوۡلَا نِعۡمَةُ رَبِّی لَكُنتُ مِنَ ٱلۡمُحۡضَرِینَ﴾ أي: لولا الإيمان - وهو أعظم النعم - لكنتُ مُحضَرًا معك في النار.
﴿أَذَ ٰ⁠لِكَ خَیۡرࣱ نُّزُلًا﴾ الإشارة إلى نعيم الجنَّة، والنُّزُل ما يُقدَّم للضيف.
﴿أَمۡ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ﴾ وهي شجرةٌ خبيثةٌ أُعِدَّت طعامًا لأهل النار.
﴿إِنَّا جَعَلۡنَـٰهَا فِتۡنَةࣰ لِّلظَّـٰلِمِینَ﴾ والفتنةُ هنا بمعنى: المِحنَة والعذاب، وفيه أيضًا أنَّها سببٌ لفتنتهم وإعراضهم في الدنيا؛ لأنّهم قاسُوا أحوال الآخرة على أحوال الدنيا، فكذَّبُوا القرآن، وأنكَرُوا وجودَ الشجر في النار؛ لأنَّ النار ستُحرِقُه.
﴿إِنَّهَا شَجَرَةࣱ تَخۡرُجُ فِیۤ أَصۡلِ ٱلۡجَحِیمِ﴾ أي: في قعر جهنَّم، أعاذَنا الله منها.
﴿طَلۡعُهَا كَأَنَّهُۥ رُءُوسُ ٱلشَّیَـٰطِینِ﴾ شبَّه الغائب بالغائب، فنحن نجهَل الشجرة وطلعها، ونجهَل الشياطين ورؤوسهم، إلّا أنّ المقصود واضِحٌ من هذا التشبيه، وهو حصول حالة الاشمئزاز، والنُّفرة عن جهنَّم وما فيها، وهذا يكفِي لمَن كان له لُبٌّ، فمن صدَّقَ بالخبر كما هو، وعمِلَ بمقصوده فقد أبرَأَ الذمَّة، أما الذين يبحَثُون في كُنهِ الغيب وكيفيته فقد شطُّوا بعيدًا عن مقصد القرآن، وأشغَلُوا أنفسَهم فيما لا طائل منه.
﴿فَإِنَّهُمۡ لَـَٔاكِلُونَ مِنۡهَا﴾ أي: هؤلاء الذين كذَّبوا بها وبالبعث عمومًا، سيأكلون منها حتى تمتلئ بطونهم ﴿فَمَالِـُٔونَ مِنۡهَا ٱلۡبُطُونَ﴾.
﴿ثُمَّ إِنَّ لَهُمۡ عَلَیۡهَا لَشَوۡبࣰا مِّنۡ حَمِیمࣲ﴾ أي: يخلِطُون معها شيئًا من الماء الحار.
﴿ثُمَّ إِنَّ مَرۡجِعَهُمۡ لَإِلَى ٱلۡجَحِیمِ﴾ أي: بعد شُربهم من ماء الحميم، وكأنَّ الحميم في مكانٍ آخر، ويُؤكِّدُ هذا قوله تعالى في سورة الرحمن: ﴿یَطُوفُونَ بَیۡنَهَا وَبَیۡنَ حَمِیمٍ ءَانࣲ﴾ [الرحمن: 44]، والله أعلم.
﴿إِنَّهُمۡ أَلۡفَوۡاْ ءَابَاۤءَهُمۡ ضَاۤلِّینَ﴾ أي: وجدوا آباءهم على الشرك.
﴿فَهُمۡ عَلَىٰۤ ءَاثَـٰرِهِمۡ یُهۡرَعُونَ﴾ يُسارِعُون في الشرك؛ تعصُّبًا لما ورِثُوه عن آبائهم دون تمييزٍ ولا وعيٍ.