﴿وَٱلصَّـٰۤفَّـٰتِ صَفࣰّا ﴿١﴾ فَٱلزَّ ٰجِرَ ٰتِ زَجۡرࣰا ﴿٢﴾ فَٱلتَّـٰلِیَـٰتِ ذِكۡرًا﴾ يُقسِمُ الله بالملائكة ويذكر بعض صفاتهم؛ فالصَّافَّات: جماعات الملائكة التي تقِف صفوفًا منتظمة، وهو مشهدٌ يُوحي بالجلال والروعة والنظام، وإنْ كنّا لا ندري عن حقيقة تلك الصفوف وهيئتها وغايتها، فليس ذلك مطلوبًا منَّا، ولا يتصل بوظيفتنا نحن على هذه الأرض، فإيحاءات الصورة الكليَّة تكفي.
أما الزاجرات والتاليات، فالظاهرُ أنَّها جماعات الملائكة التي تنزل بالذِّكر، وهو الوحي، وقد عطَفَ العام على الخاص؛ تنبيهًا على أهميَّة الخاص، فالوحي جاء لغاياتٍ كثيرةٍ، من أهمها: زجر الناس عن الشرك، والإثم، والظلم؛ ولذلك قدَّمه.
وقد يأتي الزجر بمعنًى آخر، وهو الصيحة لإماتة الناس جميعًا، ثم الصيحة لبعثهم؛ حيث سمَّاها القرآن: زَجْرة، كما في الآية الآتية:
﴿فَإِنَّمَا هِیَ زَجۡرَةࣱ وَ ٰحِدَةࣱ فَإِذَا هُمۡ یَنظُرُونَ﴾ ومعلومٌ أنَّ هذا من عمل الملائكة أيضًا.
﴿وَرَبُّ ٱلۡمَشَـٰرِقِ﴾ المطالِعُ المختلفة للنجوم والكواكب، ومنها: حركةُ الشمس التي نراها بأعيننا كلَّ يوم، فلكلِّ يومٍ مشرِقه، كما أنَّ لكلِّ يومٍ مغرِبه، ونصَّ على المشارق دون المغارب؛ لدلالتها عليها باللزوم، وتنبيهًا على أهمية المشارق؛ لأنَّها بداية كلِّ يوم، وفيها الحياة والنشاط، والانبِعاث للعمل.
﴿إِنَّا زَیَّنَّا ٱلسَّمَاۤءَ ٱلدُّنۡیَا بِزِینَةٍ ٱلۡكَوَاكِبِ﴾ تنبيهًا إلى قيمة الجمال والزينة، وفيه إشارة لمعنى المشارق أيضًا.
﴿وَحِفۡظࣰا مِّن كُلِّ شَیۡطَـٰنࣲ مَّارِدࣲ ﴿٧﴾ لَّا یَسَّمَّعُونَ إِلَى ٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰ وَیُقۡذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبࣲ﴿٨﴾ دُحُورࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابࣱ وَاصِبٌ﴾ يخبر الله ـ أنَّ النجوم والكواكب محروسة بنظام الله وناموسه الذي لا يسمح للشيطان أن يَرقَى فيها لاستراق السمع، أو التشويش على الوحي، والمقصود العملي بهذا الإخبار أنَّ الشياطين لا يعلَمون الغيب، وأنَّ مصدر الغيب الوحيد إنَّما هو الوحي، والمارد: المُتمرِّد، والواصِب: الدائِم، والمقصود به هنا: العذاب الدائم في الآخرة.
﴿إِلَّا مَنۡ خَطِفَ ٱلۡخَطۡفَةَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابࣱ ثَاقِبࣱ﴾ صورة لما يحصل في الفلك العلوي؛ حيث تحاول الشياطين أن تطَّلع على شيءٍ من ذلك العالم الغيبي، فتردعها الشهب.
وليس للعقل البشري قدرة على تكييف هذا الشيء؛ إذ إنَّ إدراك الكيفيَّة كما هي ليس مطلوبًا، وقد لا يكون نافعًا أيضًا، وإنّما المقصود التيقُّن من أنَّ الشياطين ممنوعون من الغيب، وهذا يكفي، والثاقب: صفة للشهاب، وفيها معنى السرعة والتوهُّج.
﴿فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ﴾ أي: سَلْ هؤلاء المشركين.
﴿مِّن طِینࣲ لَّازِبِۭ﴾ أي: من طِينٍ مُتماسِكٍ لَزِجٍ.
﴿بَلۡ عَجِبۡتَ﴾ أي: إنَّك تتعجَّب يا مُحمَّد من تكذيبِهم لك، وأنت الصادقُ الأمينُ.
﴿وَإِذَا رَأَوۡاْ ءَایَةࣰ یَسۡتَسۡخِرُونَ﴾ أي: يُبالِغُون بالسخرية والاستهزاء.
﴿أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابࣰا وَعِظَـٰمًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ ﴿١٦﴾ أَوَءَابَاۤؤُنَا ٱلۡأَوَّلُونَ﴾ يسألون استنكارًا واستهزاءً بعودتهم إلى الحياة كرَّة ثانية بعد أن يُصبِحوا ترابًا وعظامًا، ثم يتساءلون عن آبائهم الأولين، لأن إعادتهم إلى الحياة - بمنطقهم - أكثر غرابة واستحالة؛ لطول العهد، وضياع قبورهم ورُفاتهم.
وكلمة (أَوَ) مركبة من: همزة استفهام، وواو عطف، كأنَّهم يقولون: أئِنَّا لمبعوثون وأآباؤنا أيضًا، ثم قدَّم الهمزة؛ تجنُّبًا لثِقَل اللفظ، والله أعلم.
﴿وَأَنتُمۡ دَ ٰخِرُونَ﴾ صاغِرُون.
﴿فَإِنَّمَا هِیَ زَجۡرَةࣱ وَ ٰحِدَةࣱ فَإِذَا هُمۡ یَنظُرُونَ﴾ هي الصيحة الثانية؛ إيذانًا بالبعث وعودة الحياة من جديد.
﴿هَـٰذَا یَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِ﴾ يوم القضاء والحكم بين الخلائق.
﴿۞ ٱحۡشُرُواْ ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْ وَأَزۡوَ ٰجَهُمۡ﴾ أي: وأشباهَهم ومَن كان يُناصِرُهم ويُشايِعُهم.
﴿قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ﴾ هذا قولُ الأتباع للمتبُوعين في ذلك الموقف العَصِيب، يقولون لهم: إنَّكم كنتم تُزيِّنُون لنا الباطل، وتأتونَنا من الجهة التي نأمَنُكم فيها ولا نشُكُّ بنُصحِكُم.
﴿قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿٢٩﴾ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ ۖ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ﴾ هذا ردُّ المتبُوعِين على أتباعهم، يرُدُّون اللائِمةَ عليهم، ويقولون لهم: إنَّه لم يكن لنا عليكم حُجَّة نُلزِمُكم بها، ولكنَّنا دعَوناكم فاستَجبتُم لنا.
﴿فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ﴾ لأنَّكم كنتم مثلنا في الكفر والطغيان.
﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ تأكيدٌ لمبدأ العدل الإلهي المطلق.
﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنَّهم لم يدخلوا أصلًا في الخطاب المُتقدِّم:
﴿إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ﴾ وفائدة الاستثناء هنا: المقارنة بين الذين يستحِقُّون العذابَ الأليمَ، وبين عباد الله المُخلِصِين الذين هم في جنَّات النعيم.
﴿بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ﴾ من عينٍ جاريةٍ لا تنقَطِع، والمقصود بالكأس هنا: كأس الخمر، وهي خمر الجنَّة الآتي وصفُها.
﴿بَيْضَاءَ﴾ وصفٌ للون الخمر التي في الكأس.
﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ﴾ لا تذهب بالعقل، ولا تضرُّ بالصحة.
﴿وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ أي: لا يُصرَفون عنها، بمعنى أنَّها موفورة لهم متى شاءوا.
﴿وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ﴾ أي: الحُور العين، ووصفهنَّ بأنَّهنَّ قاصِرات الطرف بمعنى أنَّهنَّ حيِيَّات فلا يُحدِّقن بوجوه أزواجهنَّ، بل ينظُرن إليهم مِن طرفٍ حَيِيٍّ، مع أنَّهنَّ واسِعات العيون، وهذا معنى قوله:
﴿عِينٌ﴾، وهذا أَولَى مِن تفسير مَن فسّرها بأنّهنَّ قاصِرات الطَّرف على أزواجهنَّ، فلا يتطلَّعنَ إلى غيرِهم؛ فالجنّةُ ليس فيها ما يستوجِبُ مثلَ هذا التحرُّز، والله أعلم.
﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾ هذا تشبيهٌ معروفٌ عند العرب، يُشبِّهُون المرأة الحسناء ببيض النعام، فالنعامة تحفرُ لبيضها في الرمل، وتفرش له من ريشها الناعم، فتخرج شديدة اللَّمَعَان، ناصِعة البياض، مُصانة من الدَّرَن واللَّوَث، ومنهم من يُطلِق البيض المكنون على اللآلئ المكنونة في الصدف.
﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾ هؤلاء هم أهل الجنَّة، يتسامَرون ويأنَس بعضهم ببعض.
﴿قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ﴾ كان لي صاحب في الدنيا.
﴿أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُصَدِّقِینَ﴾ أي: بالبعث، فصاحِبُه كان كافرًا، وكان يُجادِلُه في عقيدته.
﴿أَءِنَّا لَمَدِینُونَ﴾ لمحاسبون بعد الموت، يسألُ سؤالَ المُستنكِر لا المُستفهِم.
﴿قَالَ هَلۡ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ﴾ هذا قول المؤمن لأصحابه المؤمنين، يدعوهم إلى الاطلاع على أهل النار، والظاهر من هذا أنَّ أهل الجنَّة بإمكانهم الاطِّلاع على النار ومَن فيها.
﴿فَٱطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِی سَوَاۤءِ ٱلۡجَحِیمِ﴾ أي: رأى قرينَه الذي كان يُجادله في الدنيا عن البعث، رآه وسط النار.
﴿قَالَ تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرۡدِینِ﴾ يقول له: لقد قاربت أن تُهلِكَني معك.
﴿وَلَوۡلَا نِعۡمَةُ رَبِّی لَكُنتُ مِنَ ٱلۡمُحۡضَرِینَ﴾ أي: لولا الإيمان - وهو أعظم النعم - لكنتُ مُحضَرًا معك في النار.
﴿أَذَ ٰلِكَ خَیۡرࣱ نُّزُلًا﴾ الإشارة إلى نعيم الجنَّة، والنُّزُل ما يُقدَّم للضيف.
﴿أَمۡ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ﴾ وهي شجرةٌ خبيثةٌ أُعِدَّت طعامًا لأهل النار.
﴿إِنَّا جَعَلۡنَـٰهَا فِتۡنَةࣰ لِّلظَّـٰلِمِینَ﴾ والفتنةُ هنا بمعنى: المِحنَة والعذاب، وفيه أيضًا أنَّها سببٌ لفتنتهم وإعراضهم في الدنيا؛ لأنّهم قاسُوا أحوال الآخرة على أحوال الدنيا، فكذَّبُوا القرآن، وأنكَرُوا وجودَ الشجر في النار؛ لأنَّ النار ستُحرِقُه.
﴿إِنَّهَا شَجَرَةࣱ تَخۡرُجُ فِیۤ أَصۡلِ ٱلۡجَحِیمِ﴾ أي: في قعر جهنَّم، أعاذَنا الله منها.
﴿طَلۡعُهَا كَأَنَّهُۥ رُءُوسُ ٱلشَّیَـٰطِینِ﴾ شبَّه الغائب بالغائب، فنحن نجهَل الشجرة وطلعها، ونجهَل الشياطين ورؤوسهم، إلّا أنّ المقصود واضِحٌ من هذا التشبيه، وهو حصول حالة الاشمئزاز، والنُّفرة عن جهنَّم وما فيها، وهذا يكفِي لمَن كان له لُبٌّ، فمن صدَّقَ بالخبر كما هو، وعمِلَ بمقصوده فقد أبرَأَ الذمَّة، أما الذين يبحَثُون في كُنهِ الغيب وكيفيته فقد شطُّوا بعيدًا عن مقصد القرآن، وأشغَلُوا أنفسَهم فيما لا طائل منه.
﴿فَإِنَّهُمۡ لَـَٔاكِلُونَ مِنۡهَا﴾ أي: هؤلاء الذين كذَّبوا بها وبالبعث عمومًا، سيأكلون منها حتى تمتلئ بطونهم
﴿فَمَالِـُٔونَ مِنۡهَا ٱلۡبُطُونَ﴾.
﴿ثُمَّ إِنَّ لَهُمۡ عَلَیۡهَا لَشَوۡبࣰا مِّنۡ حَمِیمࣲ﴾ أي: يخلِطُون معها شيئًا من الماء الحار.
﴿ثُمَّ إِنَّ مَرۡجِعَهُمۡ لَإِلَى ٱلۡجَحِیمِ﴾ أي: بعد شُربهم من ماء الحميم، وكأنَّ الحميم في مكانٍ آخر، ويُؤكِّدُ هذا قوله تعالى في
سورة الرحمن:
﴿یَطُوفُونَ بَیۡنَهَا وَبَیۡنَ حَمِیمٍ ءَانࣲ﴾ [الرحمن: 44]، والله أعلم.
﴿إِنَّهُمۡ أَلۡفَوۡاْ ءَابَاۤءَهُمۡ ضَاۤلِّینَ﴾ أي: وجدوا آباءهم على الشرك.
﴿فَهُمۡ عَلَىٰۤ ءَاثَـٰرِهِمۡ یُهۡرَعُونَ﴾ يُسارِعُون في الشرك؛ تعصُّبًا لما ورِثُوه عن آبائهم دون تمييزٍ ولا وعيٍ.