سورة ص تفسير مجالس النور الآية 15

وَمَا یَنظُرُ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ إِلَّا صَیۡحَةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰ مَّا لَهَا مِن فَوَاقࣲ ﴿١٥﴾

تفسير مجالس النور سورة ص

المجلس الأول بعد المائتين: عناد المشركين


الآية (1- 16)


موضوع هذه السورة المباركة هو الدعوة الإسلاميَّة في عهدها المكِّي، ومُعاناته مع قومه، وفي هذه الآيات وصفٌ لحال المشركين وحركَتِهم التي لا تهدأ للصدِّ عن سبيل الله، ومُحاصَرة الدعوة في مَهدِها، وكما يأتي:
أولًا: استهَلَّت السورة ببيان الغاية الكليَّة للقرآن الكريم: ﴿صۤۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِی ٱلذِّكۡرِ﴾ بمعنى أنّه إنّما جاء ليُذكِّر الناس بما هم عنه غافِلُون.
ثانيًا: لخَّصت السورة موقف المشركين من هذه الرسالة وهذه الدعوة ﴿﴾ والعزَّةُ معناها هنا: اعتِزازهم بما هم عليه من الكفر والضلال، والشِّقاق معناه: العداوة والبغضاء للحقِّ وأهلِه.
ثالثًا: أشارَت السورة إلى الحسَدِ الذي توقَّد في نفوسهم، فدفعهم لهذا العناد، ولهذه العداوة البغيضة ﴿وَعَجِبُوۤاْ أَن جَاۤءَهُم مُّنذِرࣱ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا سَـٰحِرࣱ كَذَّابٌ﴾، ﴿أَءُنزِلَ عَلَیۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَیۡنِنَاۚ بَلۡ هُمۡ فِی شَكࣲّ مِّن ذِكۡرِیۚ بَل لَّمَّا یَذُوقُواْ عَذَابِ﴾.
رابعًا: تنقل السورة حركة الملأِ الدائبة، وتحريضهم وتواصِيهم بالثبات على ما ألِفُوه من دين الآباء والأجداد ﴿وَٱنطَلَقَ ٱلۡمَلَأُ مِنۡهُمۡ أَنِ ٱمۡشُواْ وَٱصۡبِرُواْ عَلَىٰۤ ءَالِهَتِكُمۡۖ إِنَّ هَـٰذَا لَشَیۡءࣱ یُرَادُ ﴿٦﴾ مَا سَمِعۡنَا بِهَـٰذَا فِی ٱلۡمِلَّةِ ٱلۡأَخِرَةِ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا ٱخۡتِلَـٰقٌ﴾.
والملأُ في كلِّ قومٍ هم الذين يُحارِبون الإصلاحَ والتغييرَ؛ لأنَّهم يظنُّون أنّ هذا يُفقِدُهم مكانتهم وموقعهم المُتصدِّر في قومهم.
خامسًا: ردَّ القرآن على المشركين مُؤكِّدًا أنَّ الأمر لله، وليس لغيره الخِيَرة في اختيار الرسل، وفي هذا تنبيهٌ آخر على الدافع الأساس لإنكارهم وعنادهم، ألا وهو الحسد ﴿أَمۡ عِندَهُمۡ خَزَاۤىِٕنُ رَحۡمَةِ رَبِّكَ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡوَهَّابِ ﴿٩﴾ أَمۡ لَهُم مُّلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَاۖ فَلۡیَرۡتَقُواْ فِی ٱلۡأَسۡبَـٰبِ﴾.
سادسًا: ربط القرآن بين موقف المشركين هذا ومواقف الأقوام السابقة المُكذِّبين لأنبيائهم، مُذكِّرًا بهلاكهم وعاقبة أمرهم ﴿كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحࣲ وَعَادࣱ وَفِرۡعَوۡنُ ذُو ٱلۡأَوۡتَادِ ﴿١٢﴾ وَثَمُودُ وَقَوۡمُ لُوطࣲ وَأَصۡحَـٰبُ لۡـَٔیۡكَةِۚ أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلۡأَحۡزَابُ ﴿١٣﴾ إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ﴾ ثم وجَّه الخطاب لمُشركي قريش مُنذِرًا ومُتوعِّدًا ﴿وَمَا یَنظُرُ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ إِلَّا صَیۡحَةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰ مَّا لَهَا مِن فَوَاقࣲ﴾.


﴿صۤۚ﴾ مِن الحروف المُقطَّعة، وقد فصَّلنا القول فيها أول سورة البقرة.
﴿وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِی ٱلذِّكۡرِ﴾ يُقْسِمُ الله بكتابه المجيد مُبيِّنًا غايتَه الكبرى في تذكير الناس بما هم غافلون عنه من حقيقة الحياة والموت، والحساب والجزاء.
﴿بَلِ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ فِی عِزَّةࣲ وَشِقَاقࣲ﴾ (بل) تفيد الإضراب، ومعناها هنا: إبطال ما قد يتوهَّمه القارئ أو السامع من استِفادة أهل مكَّة من هذا الذِّكر وقد نزل بين ظهرانيهم، فهم بعيدون عن ذلك؛ بسبب اعتِزازهم بكفرهم، وعداوتهم لنبيِّهم.
﴿وَّلَاتَ حِینَ مَنَاصࣲ﴾ وليس الوقت وقت مَهْرَب حيثُ حلَّ الهلاك بهم.
﴿وَعَجِبُوۤاْ أَن جَاۤءَهُم مُّنذِرࣱ مِّنۡهُمۡۖ﴾ هو تعجُّب بمعنى الإنكار والاستغراب؛ حسدًا من عند أنفسهم وتكبُّرًا.
﴿عُجَابࣱ﴾ غايةٌ في العجب والغرابة.
﴿وَٱنطَلَقَ ٱلۡمَلَأُ مِنۡهُمۡ﴾ هم أشراف قريش.
﴿أَنِ ٱمۡشُواْ وَٱصۡبِرُواْ عَلَىٰۤ ءَالِهَتِكُمۡۖ﴾ فيها معنى العِناد والمطاولة والمُضيِّ في طريق الشرك ومُحاربة الوحي.
﴿إِنَّ هَـٰذَا لَشَیۡءࣱ یُرَادُ﴾ أي: إنَّ هذه الدعوة التي جاء بها محمد لَشَيءٌ يُرادُ منه أمرٌ آخر، وهو انقِيادنا إليه، وخضوعنا لحُكمه ومُلكه، بمعنى أنَّهم يُشكِّكون في غايةِ النبيِّ ودعوته.
﴿مَا سَمِعۡنَا بِهَـٰذَا﴾ أي: الذي يقولُه محمد .
﴿فِی ٱلۡمِلَّةِ ٱلۡأَخِرَةِ﴾ في آخر ما عهِدناه من الدين، ويقصدون به هنا الدين الموروث عن آبائهم.
﴿إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا ٱخۡتِلَـٰقٌ﴾ أي: ما هذا إلا كذِبٌ.
﴿بَل لَّمَّا یَذُوقُواْ عَذَابِ﴾ بمعنى أنّهم يتطاولون كلَّ هذا التطاول؛ لأنَّهم يظنُّون أنّهم في سَعَةٍ من أمرهم، ولا يعلمون أنَّ العذاب بانتظارهم، و﴿لَّمَّا﴾ تُفيد نفي الماضي مع توقع حصول ما نفَتْه، كأنّه يقول: إنّهم لم يذوقوا العذاب بَعدُ، لكنَّهم سيذوقُونه.
﴿أَمۡ عِندَهُمۡ خَزَاۤىِٕنُ رَحۡمَةِ رَبِّكَ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡوَهَّابِ﴾ سؤالٌ استنكاريٌّ، بمعنى: هل هُم مَن يملك خزائن رحمة الله لكي يُقرِّروا مَن يختارونه للنبوَّة ومَن يستبعدون؟
﴿فَلۡیَرۡتَقُواْ فِی ٱلۡأَسۡبَـٰبِ﴾ أي: فليصعدوا في السماء إذا كانوا يملكون من أمرها شيئًا.
﴿جُندࣱ مَّا هُنَالِكَ مَهۡزُومࣱ مِّنَ ٱلۡأَحۡزَابِ﴾ أي: ليس هؤلاء المُكذِّبون سوى جُندٍ مُجتَمِعِين لنُصرة الباطل، كالأحزاب الذين كانوا من قبلهم مثل: قوم نوحٍ، وعادٍ، وثمودَ، وأنّهم مهزُومُون كما هُزِم مَن قبلهم، وهذه بشارةٌ بهزيمة المشركين، وقد تحقَّقَت في بدرٍ إلى فتح مكَّة.
﴿كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحࣲ وَعَادࣱ وَفِرۡعَوۡنُ ذُو ٱلۡأَوۡتَادِ ﴿١٢﴾ وَثَمُودُ وَقَوۡمُ لُوطࣲ وَأَصۡحَـٰبُ لۡـَٔیۡكَةِۚ أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلۡأَحۡزَابُ﴾ تفصيلٌ لمعنى الأحزاب الواردة في الآية السابقة، وتشبيهٌ لمُشركي قريش بهذه الأقوام.
﴿وَمَا یَنظُرُ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ إِلَّا صَیۡحَةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰ مَّا لَهَا مِن فَوَاقࣲ﴾ الصيحة: نوعٌ من العذاب الماحِق الذي نزل على بعض الأحزاب، وتخويف قريش به جارٍ على مجرى الاستحقاق، بمعنى أنّهم يستحقُّون مثل هذه الصيحة، وليس هذا إخبارًا مِن الله؛ لأنّ خبر الوحي لا يتخلَّف.
ويحتمل أنّه تذكيرٌ بالساعة ونفخة الصور التي ستُنهِي هذه الحياة، كأنّه بعد أن توعَّدهم بالهزيمة في بدرٍ وما بعدها، أخذ يُذكِّرُهم بالعذاب الأكبر.
والفَوَاق: وقتٌ محددٌ يعرفه العرب، وهو ما بين حَلْبَتي الناقة، والمقصود أنَّ العذاب إذا نزل بالمشركين فليس فيه مُهلة للتأخير ولا لتدارُك الأمر.
﴿وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبۡلَ یَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ﴾ أي: عجِّل لنا نصيبَنا من العذاب الذي تُهدِّدنا به، والظاهر أنّهم يقولون ذلك استهزاءً وتكذيبًا وتحدِّيًا؛ ولذلك جاء التوجيهُ القرآنيُّ عقِبَ قولَتهم هذه: ﴿ٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا یَقُولُونَ﴾.