تنتاب الأسرة مشكلات كثيرة قد تعصف باستقرارها وتماسكها، وهذه المشكلات متوقّعة في كلِّ المجتمعات لغياب الوازع الديني، وضعف ثقافة الانسجام، وطغيان الأَثَرة والشح وما إلى ذلك من الأمراض النفسيَّة والاجتماعيَّة، وقد جاءت هذه الآيات لوضع المعايير والقيم الضابطة للسلوك الأسري، ويمكن ترتيبها تنازليًّا كالآتي:
أولًا: القيمة العليا، وهي الإحسان ﴿وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَـتَّـقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣰا﴾ والإحسان متضمن للإيثار والتنازل عن بعض الحقوق، والعمل على تقديم الخير لكلِّ أفراد الأسرة صغارًا وكبارًا وأيتامًا ﴿وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَیۡرࣲ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِۦ عَلِیمࣰ﴾ وهذا مقام المتَّقين الصالحين الذين يُؤثِرون ما عند الله على ما عند الناس.
وقد شاع مؤخَّرًا في ثقافتنا الاجتماعيَّة أن هذا التنازل إنما هو دليلٌ على ضعف الشخصيَّة والقبول بالمذلَّة، وهذا تصوُّرٌ خاطئ؛ فالمصلِح لا يكون مُصلِحًا بحقٍّ إلا أن يبذل مما عنده، ويتغافل عن إساءة الآخرين، ويغفر لهم ويدعو لهم، وهذا من عظمة النفس وكرامتها، ورفعة شأنها.
ثانيًا: العدل، وهي القيمة التي تأتي في المرتبة بعد قيمة الإحسان ﴿وَأَن تَقُومُواْ لِلۡیَتَـٰمَىٰ بِٱلۡقِسۡطِۚ﴾﴿۞ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّ ٰمِینَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَاۤءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَ ٰلِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَۚ إِن یَكُنۡ غَنِیًّا أَوۡ فَقِیرࣰا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَـتَّـبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰۤ أَن تَعۡدِلُواْۚ﴾ وفي حال تعذُّر تحقيق العدل الكامل، خاصة في العلاقات المتشعِّبة والمتضمِّنة للعواطف والمشاعر ﴿وَلَن تَسۡتَطِیعُوۤاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَیۡنَ ٱلنِّسَاۤءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِیلُواْ كُلَّ ٱلۡمَیۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ﴾.
والمقصود هنا: العدل في العاطفة والمحبَّة؛ إذ هو لا يقع تحت الضبط والسيطرة، بخلاف العدل في المسائل المادِّيَّة والتعامل الظاهر، فهذا بمقدور الإنسان تحقيقه، وقوله: ﴿فَلَا تَمِیلُواْ كُلَّ ٱلۡمَیۡلِ﴾ أي: لا تُتْبِعوا الميلَ القلبي بالميل المادِّي؛ لأنكم إن عُذِرتم في الأول فلن تُعذَروا في الثاني، والله أعلم.
ثالثًا: الصلح، وهو القيمة الثالثة في هذا السياق، ولا يكون إلا بوجود مشكلة فعليَّة ﴿وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضࣰا فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِمَاۤ أَن یُصۡلِحَا بَیۡنَهُمَا صُلۡحࣰاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَیۡرࣱۗ﴾ والصلح هنا هو اتفاق على حلِّ المشكلة، وقد يتضمن تنازلًا فيما دون العدل على أن تبقى الرابطة الزوجيَّة قائمة، والخير الذي فيه إنما هو لبقاء العصمة، واستمرار الرعاية والنفقة، والحفاظ على الأولاد، ولا يكون هذا في الغالب إلا في حالة فقدان الانسجام والعاطفة التواصليَّة بين الزوجين، والله أعلم.
رابعًا: الفراق بالحسنى؛ وهو الحلُّ الأخير ﴿وَإِن یَتَفَرَّقَا یُغۡنِ ٱللَّهُ كُلࣰّا مِّن سَعَتِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ وَ ٰسِعًا حَكِیمࣰا﴾.
وقد امتزج في كلِّ هذا التذكير بتقوى الله، والتحذير من الأَثَرة والشح ﴿وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ﴾ والترغيب بما عند الله والدار الآخرة ﴿مَّن كَانَ یُرِیدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡیَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡأَخِرَةِۚ﴾.
﴿فِی یَتَـٰمَى ٱلنِّسَاۤءِ ٱلَّـٰتِی لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾ هي اليتيمة التي يمسك بها وليّها مستأثرًا بمالها وغير راغبٍ بنكاحها فيعضلها عن الزواج أيضًا خوفًا من ذهاب مالها إلى زوجها، وهي حالة مختلفة عن تلك التي وردت في الآية الثالثة من هذه السورة، وهي اليتيمة التي يرغب وليُّها بنكاحها بمهرٍ أقلَّ من القسط، فتحصَّلَت في هذه السورة حالتان:
اليتيمة التي يرغب الولي بنكاحها؛ لأن تكلفة مهرها أقلُّ.
واليتيمة التي لا يرغب بنكاحها ولا يرغب بتزويجها أيضًا حتى لا تذهب بمالها الذي عنده، وكلاهما بغي وإثم. ﴿وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِینَ مِنَ ٱلۡوِلۡدَ ٰنِ﴾ حيث كانوا في الجاهليَّة لا يُورِّثون الصغار من بنين وبنات. ﴿كُلَّ ٱلۡمَیۡلِ﴾ الميل المادي في القسمة والنفقة إضافة إلى الميل العاطفي القلبي. ﴿كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ﴾ أي: ليست بزوجةٍ لها حقوق الزوجة المعروفة في الشرع، ولا مطلقةٍ لترى طريقها وما فيه مصلحتها. ﴿غَنِیًّا أَوۡ فَقِیرࣰا﴾ أي: لا تُحابُوا الغنيَّ تقرُّبًا منه، ولا تُحابُوا الفقيرَ رحمةً به؛ فالعدل أن يأخذ كلُّ طرفٍ ما يستحق، وهذا الحكم العدل، فإن أراد الغنيُّ أن يعطف على الفقير من ماله، فهذا إحسانٌ منه، لكن ليس قبل أن يقضي القاضي بينهما بالعدل، فيكون الإحسان فيما بعدُ مُقدَّرًا ومعلومًا. ﴿وَإِن تَلۡوُۥۤاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ﴾ نهيٌ عن حرفِ الشهادة أو كتمانها.