سورة النساء تفسير مجالس النور الآية 153

یَسۡـَٔلُكَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَیۡهِمۡ كِتَـٰبࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِۚ فَقَدۡ سَأَلُواْ مُوسَىٰۤ أَكۡبَرَ مِن ذَ ٰ⁠لِكَ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهۡرَةࣰ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ بِظُلۡمِهِمۡۚ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَتۡهُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُ فَعَفَوۡنَا عَن ذَ ٰ⁠لِكَۚ وَءَاتَیۡنَا مُوسَىٰ سُلۡطَـٰنࣰا مُّبِینࣰا ﴿١٥٣﴾

تفسير مجالس النور سورة النساء


المجلس الخامس والأربعون: أهل الكتاب


من الآية (150- 176)


يتكرر الحديث عن أهل الكتاب، وهذا دليل على خطورة شأنهم، وعظيم تأثيرهم في هذه الحياة، بيد أن هذا التكرار يحمل معه إضافات جديدة ومعالجات لجوانب أخرى لم تطرح من قبل، وفيه أيضا تأكيد للمقولات والمقدّمات الجوهرية التي ينبغي استحضارها في كل مرة، أما المسائل التي تناولها الحديث في هذه الآيات فهي:
أولًا: تجزئة الإيمان كفر، وهذا هو مدخل الكفر بالنسبة لأهل الكتاب ﴿وَیَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضࣲ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضࣲ وَیُرِیدُونَ أَن یَتَّخِذُواْ بَیۡنَ ذَ ٰ⁠لِكَ سَبِیلًا ﴿١٥٠﴾ أُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ حَقࣰّاۚ﴾ فهم آمنوا بموسى وكفروا بمحمد واختلفوا في عيسى عليهم السلام.
ثانيًا: عناد اليهود وتكبُّرهم على الحق ﴿یَسۡـَٔلُكَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَیۡهِمۡ كِتَـٰبࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِۚ فَقَدۡ سَأَلُواْ مُوسَىٰۤ أَكۡبَرَ مِن ذَ ٰ⁠لِكَ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهۡرَةࣰ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ بِظُلۡمِهِمۡۚ﴾ وقد ذكَّرَهم القرآن بعد هذا بأن الله قد أراهم المعجزات الحسِّيَّة كرفع الطور، لكنَّ قلوبهم القاسية لم تَلِن فازدادت قساوة، وتمادَت في ظُلمها وتكبُّرها.
ثالثًا: جرائم اليهود، وقد جاءت هذه الآيات بنماذج متنوعة، بدأت بكفرهم بآيات الله، ونقضهم الميثاق الإلهي، وقتلهم الأنبياء، وحرصهم على قتل السيد المسيح، وانتهت بأخذهم الربا وأكلهم لأموال الناس بالباطل ﴿فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّیثَـٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِیَاۤءَ بِغَیۡرِ حَقࣲّ﴾ ﴿وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِیحَ عِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ﴾، ﴿وَأَخۡذِهِمُ ٱلرِّبَوٰاْ وَقَدۡ نُهُواْ عَنۡهُ وَأَكۡلِهِمۡ أَمۡوَ ٰ⁠لَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَـٰطِلِۚ﴾ وقد استثنى الله من هؤلاء من رفض هذه الجرائم واهتدى للحق ﴿لَّـٰكِنِ ٱلرَّ ٰ⁠سِخُونَ فِی ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ﴾.
رابعًا: شرك النصارى؛ وهو مدخل ثانٍ للكفر؛ حيث قالوا في عيسى ما يرفعه إلى مقام الألوهية ﴿وَلَا تَقُولُواْ ثَلَـٰثَةٌۚ ٱنتَهُواْ خَیۡرࣰا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهࣱ وَ ٰ⁠حِدࣱۖ سُبۡحَـٰنَهُۥۤ أَن یَكُونَ لَهُۥ وَلَدࣱۘ﴾، ﴿لَّن یَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِیحُ أَن یَكُونَ عَبۡدࣰا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَــٰۤىِٕكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ﴾.
خامسًا: الغلو سبب مضاف للكفر والشرك، وهو قاسم مشترك بين اليهود والنصارى وإن جاء بنتائج متضادَّة ﴿یَــٰۤـأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِی دِینِكُمۡ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِیحُ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥۤ أَلۡقَىٰهَاۤ إِلَىٰ مَرۡیَمَ وَرُوحࣱ مِّنۡهُۖ﴾، فعيسى نبيٌّ ورسولٌ، خلقه الله بأمره وجعل خلقه آيةً، وهذا هو الموقف الحق بين غلو اليهود فيه حتى اتهموه وأمَّه بما لا يليق بآحاد الناس، وبين الغلو المقابل عند النصارى؛ حيث جعلوه نِدًّا لله، ونفَوا عنه صفة المخلوقيَّة.
سادسًا: وحدة الرسالات السماوية من حيث المصدر، ومن حيث الغاية ﴿۞ إِنَّـاۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ كَمَاۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ نُوحࣲ وَٱلنَّبِیِّـۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ﴾، ﴿رُّسُلࣰا مُّبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ لِئَلَّا یَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ﴾، ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَیُرِیدُونَ أَن یُفَرِّقُواْ بَیۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ﴾.
وقد خُتِمَت السورة بمسألةٍ فقهيةٍ وثيقةِ الصلة بالمسائل التي استُهِلَّت بها السورة؛ تأكيدًا للوحدة الموضوعيّة، ومنهجية القرآن في معالجة المسائل المتنوعة، فهي وإن اختلفت في بعض الجوانب، لكنها حقيقة كالنهر المتدفق لا يمكن فصل بعضه عن بعض، فالعقيدة تؤثِّر في السلوك الفردي والجماعي، والعلاقات السياسية مرتبطة بالعلاقات الاقتصادية، وهكذا.


﴿وَیُرِیدُونَ أَن یُفَرِّقُواْ بَیۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ بمعنى: أنهم يدَّعُون الإيمان بالله ثم يكفرون برسله.
﴿یَسۡـَٔلُكَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَیۡهِمۡ كِتَـٰبࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِۚ﴾ أي: مكتوبًا جاهزًا من السماء، وليس وحيًا يُملَى عليك ثم تُملِيه على الناس، وهذا من عِنادهم وصَلَفهم، وإلا فدلائلُ الحق في الوحي ظاهرة، وهي كافيةٌ للهداية وإقامة الحُجَّة.
﴿وَرَفَعۡنَا فَوۡقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِیثَـٰقِهِمۡ﴾ أي: رَفَعنا فوقهم الطور أثناء أخذ الميثاق منهم إلزامًا لهم، وتأكيدًا لأهمية الميثاق، وقد مرَّ الميثاق في سورة البقرة بالتفصيل المناسب.
﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ﴾ دليل على حفظ الله لنبيِّه عيسى من كيد اليهود وغيرهم، ونجاته من الموت على أيديهم، ورفعه إلى السماء ﴿بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَیۡهِۚ﴾.
﴿وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ إِلَّا لَیُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ﴾ مُقتضى السياق أن الله نجَّى عيسى ورفعه إليه، ثم يقيم به الحجة على أهل الكتاب الذين غالوا فيه يمنةً ويسرةً، وهو ما سيتحقَّق قبل موته عليه السلام.
وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : «وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيْكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرُ الصَّلِيْبَ، وَيَقْتُلُ الخِنْزِيْرَ، وَيَضَعُ الجِزْيَةَ، وَيَفِيْضُ المَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا».
ثم يقول أبو هريرة: (واقرؤوا إن شئتم: ﴿وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ إِلَّا لَیُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یَكُونُ عَلَیۡهِمۡ شَهِیدࣰا﴾).
وقد أشكل على بعض المفسِّرين تخصيص العموم بهذا التفسير، أي: العموم الوارد بقوله: ﴿وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ﴾ إذ لا دليل على تخصيصه بالجيل الذي سيكون موجودًا عند النزول، فاضطروا لأقوال لا دليل عليها؛ كقولهم: إن كل كتابيٍّ في كل زمان ومكان لا يموت إلا وهو يؤمن بعيسى الإيمان الحق، كأن يرى شيئًا قبل موته - أيْ: موت الكتابي -، وهذا تكلُّفٌ ظاهر، فالتخصيص وارد بالحس والواقع، فالذين سيؤمنون به هم الذين سيُعاصِرُون نزوله ويرونه عيانًا، وهذا شائعٌ في اللغة، وله نظائر في القرآن كثيرة، والله أعلم.
﴿لَّـٰكِنِ ٱلرَّ ٰ⁠سِخُونَ فِی ٱلۡعِلۡمِ﴾ إشارة أن الرسوخ في العلم يقود إلى الهداية؛ لأن هذا الرسوخ هو علامة الصدق والجد، بخلاف العلوم والمواعظ السطحية التي يجمعها علماء النفاق والسلطان الذين يتسوَّلُون الجاهَ والمالَ بعلمهم ومواعظهم.
﴿وَرُسُلࣰا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَیۡكَۚ﴾ فيه جواب ضمني لمن يسأل عن سرِّ وجود الأنبياء كلهم في هذه المنطقة ما بين الفرات إلى النيل، وفيه تأديبٌ أن لا نتناول أحدًا من المصلحين والمؤثرين في العالم؛ لأنه قد يكون من هؤلاء، وإن حُرِّفَت رسالاتهم، فالتوقف عن تناول الأشخاص المعينين منهم أَولَى، والله أعلم.
﴿وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ﴾ فالدعوة إلى الإيمان إنما هي لمصلحة الإنسان وتحقيق سعادته، وإلا فإن الله غنيٌّ عن العالمين مؤمنهم وكافرهم.
﴿لَا تَغۡلُواْ فِی دِینِكُمۡ﴾ أصل الغلو المبالغة والزيادة، ثم استعمل في التطرُّف والتشدد الديني زيادة على الحق بالكره أو الحب ونحوهما.
﴿وَرُوحࣱ مِّنۡهُۖ﴾ الروح التي خلقها الله بأمره، كما تقول: أرض الله وسماؤه وخلقه، بَيْدَ أن إضافة الروح مباشرة إلى الله فيه تشريف وتعظيم لمقام السيد المسيح عليه السلام.
﴿وَیَهۡدِیهِمۡ إِلَیۡهِ صِرَ ٰ⁠طࣰا مُّسۡتَقِیمࣰا﴾ تأكيد للقيمة المحورية لهذا الدين أنه الصراط المستقيم العدل الذي لا عِوَج فيه ولا محاباة ولا ظلم ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَ ٰ⁠طَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ﴾ [الفاتحة: 6].
﴿قُلِ ٱللَّهُ یُفۡتِیكُمۡ فِی ٱلۡكَلَـٰلَةِۚ﴾ تقدَّم تفسير الكلالة ومتعلقاتها في مقدمة السورة، وأن قوله تعالى هناك: ﴿فَإِن كُنَّ نِسَاۤءࣰ فَوۡقَ ٱثۡنَتَیۡنِ﴾ يتكامل هنا بقوله: ﴿كَانَتَا ٱثۡنَتَیۡنِ﴾ فمجموعهما يدلُّ في هذه المسألة على أن نصيب البنتَين أو الأُختَين وما زاد هو الثلُثَان.