سورة النساء تفسير مجالس النور الآية 28

یُرِیدُ ٱللَّهُ أَن یُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَـٰنُ ضَعِیفࣰا ﴿٢٨﴾

تفسير مجالس النور سورة النساء


المجلس السادس والثلاثون: المجتمع الطاهر


من الآية (15- 28)


حفاظًا على طهارة المجتمع ونقاء الأسرة شرع القرآن في بيان المنهج العملي الذي يحقق هذه الغاية، فحرّم الزنا وسمَّاه (الفاحشة)؛ تنفيرًا عنه وتنبيهًا على خطره وكبير ضرره، وبدأ بالنساء ﴿وَٱلَّـٰتِی یَأۡتِینَ ٱلۡفَـٰحِشَةَ مِن نِّسَاۤىِٕكُمۡ﴾ لأنهنّ المتضررات به أكثر من الرجال؛ حيث يفتضح أمرهنَّ بالحمل ونحوه، فتكون الفضيحة والسقوط الاجتماعي، بخلاف الرجل الذي لا يظهر عليه من هذا الأثر شيءٌ، وكذلك لأن سمعة المرأة أرقّ، فهي كالثوب الأبيض الذي لا يحتمل الدنس، ولأن مقدمّات هذا المنكر إنما تكون في العادة من سوء تصرُّف المرأة بالزينة في غير محلِّها، وبِلِين القول مما يُسقِطُ عنها الهَيبةَ؛ فيتشجَّعُ الرجلُ على طرق بابها.
ثم ثنَّى بالرجال: ﴿وَٱلَّذَانِ یَأۡتِیَـٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ﴾ لكي لا يظنّ الرجال أنهم بمنأى عن الملامة والعقوبة، ومن الملاحظ هنا أنه عجّل بعقوبة الرجال ﴿فَـَٔاذُوهُمَاۖ﴾ وأجّل عقوبة النساء إلى مرحلة أخرى في التشريع، واكتفى هنا بحبسهنّ في البيوت حبسًا احترازيًّا واحتياطيًّا، والعقوبة أيًّا كانت دليلٌ على أن الإسلام لا يكتفي بالنصح والتوجيه، بل هو يحمّل المجتمع والدولة المنبثقة عنه مسؤولية المنع والردع، فليس كلّ النفوس تستقيم بالموعظة والبيان.
ومع هذا الموقف الحازم والرادع لم يقطع الإسلام طريق المراجعة والتصحيح الذاتي ﴿فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَاۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابࣰا رَّحِیمًا﴾ ولكي لا يُستغل هذا الطريق للتمادي في المنكر جاء الاستثناء الواضح والدقيق ﴿وَلَیۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِینَ یَعۡمَلُونَ ٱلسَّیِّـَٔاتِ حَتَّىٰۤ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّی تُبۡتُ ٱلۡـَٔـٰنَ﴾.
ولِعِلم الله أن هذه الشهوة مغروسة في الإنسان وهو بحاجة إلى إشباعها شرّع الزواج، وهو الحل الأزكى والأطهر ﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاۤءَ ذَ ٰ⁠لِكُمۡ﴾ فالله لم يغلق الباب الحرام إلّا وفتحَ الباب الحلال الواسع الذي يستوعب هذه الشهوة الغريزيّة ويوجهها باتجاه الخير مودّةً ورحمةً واستقرارًا وسكينةً وحفظًا للصحة والنسل والنسب.
ثمَّ فتح بابًا آخر للعلاقات الاجتماعيَّة البريئة والنافعة بين الرجال والنساء وهي دائرة (المحارم) وعظَّم من شأن هذه الدائرة؛ لأنَّها ضرورة حياتيَّة، ولها أكثر من وظيفة نفسيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة، وهي واحة التواصل وواحة التعاون والتكافل والتشاور، ومن ثَمَّ كانت الشهوة هنا محرَّمة ومرفوضة رفضًا أشدَّ وأخطر منها مع الأجانب ﴿إِنَّهُۥ كَانَ فَـٰحِشَةࣰ وَمَقۡتࣰا وَسَاۤءَ سَبِیلًا﴾.


﴿فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَیۡهِنَّ أَرۡبَعَةࣰ مِّنكُمۡۖ﴾ وهذا هو طريق إثبات تهمة الزنا، والمتأمِّل فيه يجده صعب التحقق؛ إذ لا يكون الزنا في العادة أمام الناس، ولو حصل في مجتمع الرذيلة مثل هذا فإنَّ الشهادة ستُردُّ في الغالب؛ لأن الذي يكون في ذلك الموقع يكون متهمًا أيضًا ومردود الشهادة، وكأنَّ هذا الحدّ إنما جاء للتخويف والردع، ومنع المجاهرة بالزنا.
أما العلاقات السريَّة التي قد تحوم حولها الشبهات والقرائن بلا بينة قاطعة فغاية ما فيها الحذر والاحتياط ومنع المقدِّمات، وربما التعزير فيما دون الحدِّ، وأما الإقرار فهو حالة من القلق الذاتي وتأنيب الضمير؛ بحيث يرى العقوبة أهون عليه مما هو فيه، وله أن يرجع عن إقراره، وله أن لا يقرَّ أصلًا، فالحدُّ عقوبة قضائيَّة، وليست شرطًا في التوبة الدينيَّة، والستر أَولَى من طلب إقامة الحدِّ، ولو طلب هو إقامة الحدِّ تديُّنًا ونَدَمًا فليس للقاضي أن يسأله عن شريكه في الجرم، مع أن هذه الجريمة لا تكون إلا بالاشتراك.
وهذا الفقه يقطع الطريق على من راح يبحث لإقامة الحدِّ عن طريق الفحص الطبِّي ونحوه؛ إذ هذا التوجُّه يختَلِف في الأصل مع الرؤية الشرعية لهذا الموضوع، والله أعلم.
﴿وَٱلَّذَانِ یَأۡتِیَـٰنِهَا مِنكُمۡ﴾ ليس فيه تنصيص حصري على اللواط، وإن كان متضمنًا له؛ لأن المقصود به كلّ اثنين يمارسان معًا هذه الجريمة، والله أعلم.
﴿لَا یَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَاۤءَ كَرۡهࣰاۖ﴾ إبطال لعادةٍ جاهليةٍ، كان فيها الوارث يرث عن مورّثه زوجته ما لم تكن أُمًّا له كأن تكون زوجة أبيه مثلًا كما يرث ماله ومتاعه.
﴿وَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ لِتَذۡهَبُواْ بِبَعۡضِ مَاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ﴾ تحذيرٌ من سلوك بعض الأزواج؛ حيث يقومون بتنكيد عيش زوجاتهم ومضايقتهنَّ ليطلبن بذلك الخلاص بالخلع مقابل تنازلهنَّ عن حقهنَّ في المهر ونحوه، ثم استثنَى من ذلك مُرتكبة الفاحشة، وهذا الاستثناء هو مناسبة ذكر عضل الزوجات في هذا السياق.
﴿وَءَاتَیۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارࣰا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَیۡـًٔاۚ﴾ والقنطار هو: المال الكثير الذي يدفعه الزوج صداقًا لزوجته، وليس في الآية تشجيع على زيادة المهور، بل هو تبيينٌ لسبب احتيال الزوج عليه بالعَضْل وغيره، فالمال الكثير يثير الحرص والطمع بخلاف القليل، والله أعلم.
﴿وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضࣲ﴾ أي: المعاشرة بلا حاجز ولا احتِشام؛ إذ الإفضاء هو الوصول إلى الشيء ومباشرته بلا حائل ولا واسطة.
﴿وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاۤؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَاۤءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ﴾ ليس في هذا الاستثناء إقرار لهذا النوع من العلاقة وإن كانت بعَقدٍ سابقٍ، بل هو عن العلاقات المنتهية السالفة، وفائدتُه رفعُ الحرج النفسي والاجتماعي عن تلك العلاقات وما نَتَجَ عنها، والله أعلم.
﴿حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمۡ أُمَّهَـٰتُكُمۡ﴾ أي: الأمهات والجدات، وكذا ﴿وَبَنَاتُكُمۡ﴾ أي: البنات والحفيدات.
﴿وَأُمَّهَـٰتُ نِسَاۤىِٕكُمۡ﴾ ولو بمجرد حصول العقد من غير دخول؛ إذ العقد على البنات يحرّم الأمّهات، ولا ينعكس، فالعقد على الأمهات لا يحرِّم البنات إلا إذا اكتمل بالدخول ﴿فَإِن لَّمۡ تَكُونُواْ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ﴾.
﴿وَرَبَـٰۤىِٕبُكُمُ ٱلَّـٰتِی فِی حُجُورِكُم﴾ الرَّبيبة بنت الزوجة، وهي محرمة على زوج أمها بعد الدخول كما مرَّ، وقوله:﴿فِی حُجُورِكُم﴾أي: في بيوتكم، وهذا القَيد ليس احترازيًّا، فالربيبة محرمة سواء كانت في هذا البيت أو غيره، وفائدة ذكر الوصف: إثارة الرحمة والعطف بها في قلب الزوج.
﴿وَحَلَـٰۤىِٕلُ أَبۡنَاۤىِٕكُمُ ٱلَّذِینَ مِنۡ أَصۡلَـٰبِكُمۡ﴾ فزوجة الابن محرمة، وكذا زوجة ابن الابن، والقيد ﴿مِنۡ أَصۡلَـٰبِكُمۡ﴾ احتراز عن زوجة المُتبَنَّى، لا غير.
﴿وَٱلۡمُحۡصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنِّسَاۤءِ﴾أي: النساء المتزوجات، فليس للمتزوجة الزواج من رجلٍ آخر قبل انتهاء عدَّتها من زوجها الأول وانفصالها عنه بالكامل.
ومناسبة الحكم هجرة بعض المؤمنات المتزوجات من مشركين في مكة، وقد وقع الانفصال الفعلي، دون الانفصال القضائي الشرعي، وهذا بخلاف من تقع في السَّبي من المشركات أثناء الحرب، فهذه لها أحكام خاصَّة تتعلق أولًا بسياسة الدولة المسلمة والتزاماتها مع الدول الأخرى، وطريقة تعامل العدو مع أسرانا من رجال ونساء، وملك اليمين هو حالة واحدة من حالات كثيرة واحتمالات متعدِّدة، والأمر أوسع بكثير مما يُظنُّ أو يُتوهَّم.
وقد ترد المحصنات بمعنى: الحرائر متزوجات أو غير متزوجات، ومنه قوله: ﴿وَمَن لَّمۡ یَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن یَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ﴾.
﴿فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾أي: مهورهنَّ، والاستمتاع هو الزواج المشروع بضوابطه وأحكامه المعروفة.
وأما المتعة المؤقَّتة فهي تخالف معنى الزواج والسكينة والاستقرار، والتمسك بلفظ الأجور لا حجة فيه، وحمله على ثمن المتعة المؤقتة باطل؛ لأن الله ذكره بالنص في حقِّ أمهات المؤمنين:﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِنَّـاۤ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَ ٰ⁠جَكَ ٱلَّـٰتِیۤ ءَاتَیۡتَ أُجُورَهُنَّ﴾ [الأحزاب: 50].
﴿طَوۡلًا﴾ غنى، والمقصود به هنا القدرة على دفع المهر.
﴿مُتَّخِذَ ٰ⁠تِ أَخۡدَانࣲۚ﴾ بمعنى: نساء عفيفات ليس عندهنَّ أصحاب وخلَّان من غير أزواجهنَّ.
﴿فَإِذَاۤ أُحۡصِنَّ فَإِنۡ أَتَیۡنَ بِفَـٰحِشَةࣲ فَعَلَیۡهِنَّ نِصۡفُ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ مِنَ ٱلۡعَذَابِۚ﴾ نزلت في الأَمَة التي ترتكب الزنا بعد إحصانها؛أي: زواجها، فتجلد خمسين جلدة، وهي نصف حدِّ الحرَّة المحصنة.
والظاهر من الآية: أن الأَمَة غير المحصنة ليس عليها حدّ، وما ثبت من جلدها في السنّة محمول على جلد التأديب والتعزير، وخلاف الفقهاء في هذا معروف، والله أعلم.
﴿ذَ ٰ⁠لِكَ لِمَنۡ خَشِیَ ٱلۡعَنَتَ مِنكُمۡۚ﴾أي: خشِيَ الوقوع في الفاحشة.
﴿یُرِیدُ ٱللَّهُ أَن یُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَـٰنُ ضَعِیفࣰا﴾ هذه قاعدة كلِّيَّة في التشريع الإسلامي، فالتخفيف والتيسير ورفع الحرج سمات لهذا التشريع؛ إذ التعبُّد طريق السعادة الدنيويَّة والأخرويَّة، فإذا أدَّى إلى الشقاء فإنما هو بسوء الفهم، أو سوء التطبيق.