سورة النساء تفسير مجالس النور الآية 43

یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِی سَبِیلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰۤ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَاۤءَ أَحَدࣱ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَاۤىِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَاۤءࣰ فَتَیَمَّمُواْ صَعِیدࣰا طَیِّبࣰا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَیۡدِیكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ﴿٤٣﴾

تفسير مجالس النور سورة النساء


المجلس السابع والثلاثون: تنظيم شؤون المجتمع


من الآية (29- 43)


بعد صيانة المجتمع من لوثة الفساد والانحراف الأخلاقي تأتي هذه الآيات للرُّقيّ بالمجتمع وتهذيبه وتنظيم شؤونه وتوجيهه نحو التواصل والتكافل وبناء الروابط الداخلية المتينة بحيث يصبح كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا، ويحمي بعضه بعضًا، وأوَّل ما بدأ به القرآن هنا المال:
العلاقات الماليَّة:
حذّر القرآن من الظلم الماليِّ وأكل أموال الناس بالباطل ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوۤاْ أَمۡوَ ٰ⁠لَكُم بَیۡنَكُم بِٱلۡبَـٰطِلِ﴾، ثم أشار إشارةً لطيفةً إلى أحد أهم أسباب هذا التعدّي؛ وهو الحسد وتمنّي ما عند الغير ﴿وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲۚ﴾، ثمّ ذكّر بالحقوق الخاصّة ﴿وَلِكُلࣲّ جَعَلۡنَا مَوَ ٰ⁠لِیَ مِمَّا تَرَكَ ٱلۡوَ ٰ⁠لِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَۚ وَٱلَّذِینَ عَقَدَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡ فَـَٔاتُوهُمۡ نَصِیبَهُمۡۚ﴾.
وأخيرًا حثَّ على الإنفاق العام محذِّرًا من البخل، ومُبشِّرًا المُنفِقِين بمضاعفة الثواب وعظيم الأجر﴿ٱلَّذِینَ یَبۡخَلُونَ وَیَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ وَیَكۡتُمُونَ مَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابࣰا مُّهِینࣰا ﴿٣٧﴾ وَٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰ⁠لَهُمۡ رِئَاۤءَ ٱلنَّاسِ وَلَا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۗ وَمَن یَكُنِ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لَهُۥ قَرِینࣰا فَسَاۤءَ قَرِینࣰا ﴿٣٨﴾ وَمَاذَا عَلَیۡهِمۡ لَوۡ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِهِمۡ عَلِیمًا ﴿٣٩﴾ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةࣰ یُضَـٰعِفۡهَا وَیُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِیمࣰا ﴿٤٠﴾.
حق الحياة والمحافظة على النفس:
بعد المال أوصَى بالأنفس ﴿وَلَا تَقۡتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِیمࣰا ﴿٢٩﴾ وَمَن یَفۡعَلۡ ذَ ٰ⁠لِكَ عُدۡوَ ٰ⁠نࣰا وَظُلۡمࣰا فَسَوۡفَ نُصۡلِیهِ نَارࣰاۚ﴾ والعدوان والظلم قرينَتَا إرادة قتل الغير وليس قتل الرجل نفسه، وإنما أنزل نفس المقتول منزلة نفس القاتل لإثارة دواعي الرحمة والتذكير بحالة الجسد الواحد إيمانًا وأخوَّة، كما أن الاستهانة بالقتل تُشِيعه وتكثره، فيكون المجتمع الذي لا يتورَّع عن القتل ولا يردع القتلة كأنه يقتل نفسه، وقدَّم المال على النفس؛ لأن الخلاف المالي قد يكون مقدِّمة للقتل، والله أعلم.
العلاقات الزوجية:
وبعد المال والنفس شرع ببيان العلاقات البينيَّة داخل المجتمع، وبدأ بالعلاقة الزوجيَّة مُثبِّتًا لحقِّ الزوج في القوامة، ومُنطلِقًا منها في تفصيل المسائل الأخرى، والقوامة الحقّ إنما هي للدّين، فكلاهما يخضعان له ولأحكامه وآدابه، والزوج لا يدير بيته على هواه، بل وفق هذه الأحكام والآداب، وهنا يكون دور الزوج إداريًّا وتنفيذيًّا في حدود الشرع وحكمته ورحمته، وليس حاكمًا فذًّا أو متسلّطًا.
وقد ذكرَ القرآن سببَين لهذه القوامة:﴿بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲ وَبِمَاۤ أَنفَقُواْ﴾ والإنفاق معروف في الصداق ونفقة المعيشة ونحوها، وأما التفضيل فمن المقطوع به أنَّه ليس التفضيل الديني عند الله؛ إذ هذا مرهونٌ بما يقدِّمه المرء من عملٍ وحسن تعبُّدٍ وتديُّنٍ ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾ [الحجرات: 13]، فلم يَبْقَ إلا التفضيل بقدرات خَلقيّة وجسديّة امتاز بها الرجل وأهَّلتهُ أكثر من المرأة لكسب الرزق وإدارة البيت وحمايته وضبط سلوك الأولاد بعد أن يكبروا، ونحو هذا، وبهذه القوامة أعطى القرآن صلاحيَّات للزوج في إدارة بيته ﴿وَٱلَّـٰتِی تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِی ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ﴾.
وهذه وسائل لضبط البيت في حالات النشوز، والذي يظهر أن كل وسيلة منها جاءت لتتناسب مع مستوى النشوز، وعلى الرجل أن يكون حكيمًا ولا يفرط أو يتعسَّف، وقد جاء الضرب آخِرًا للتنبيه أنه لعلاج حالة شاذَّة من النشوز؛ لمنع الاعتداء المباشرأو التصرُّف المُضِر بالبيت والأولاد مثلًا، كما في حالة الغضب الشديد، والذي يتطلب تدخُّلًا سريعًا ولا يحتمل الانتظار، وليس كما يُظنُّ أنه حقٌّ للزوج في كلِّ حالة خلاف، فالخلاف لا يُحلُّ بالضرب إطلاقًا، وإنما بالحلم والعقل والموعظة الحسنة، ثُمَّ الهجران المؤقَّت لاستثارة العاطفة المحرّكة لإعادة الصلة.
ويجدر التنبُّه هنا أن هذه الوسائل إنما تكون مشروعة في حالة النشوز، وهو خروج المرأة عن الطريق السوي الخروجَ البيِّن، أما الخلاف في وجهات النظر، أو الخلاف في تقدير الحقوق والواجبات، فليس للرجل أن يكون هو الخصم والحكم؛ ولذلك جاء قوله سبحانه:﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَیۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمࣰا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمࣰا مِّنۡ أَهۡلِهَاۤ﴾.
صلة الرحم والإحسان إلى الآخرين:
بعد العلاقات الزوجيّة جاء الحديث عن العلاقات الاجتماعيَّة الأخرى ﴿وَبِٱلۡوَ ٰ⁠لِدَیۡنِ إِحۡسَـٰنࣰا وَبِذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱلۡجَارِ ذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡۗ﴾ والإحسان هو الاسم الجامع لأنواع البر وأعمال الخير مع الإتقان والاستقامة حتى يؤتي ثماره الطيِّبة في بناء الثقة والمحبَّة بين كلِّ أفراد المجتمع.
بناء الفرد الصالح:
وفي ثنايا هذه التوجيهات الاجتماعيَّة تأتي التوجيهات الربَّانيَّة لبناء الفرد الصالح القادر على المحافظة على تلك العلاقات، ومن هذه التوجيهات:
أولًا: توثيق الصلة بالله ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَیۡـࣰٔاۖ﴾، ﴿إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَاۤىِٕرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَیِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلࣰا كَرِیمࣰا﴾، ﴿وَمَاذَا عَلَیۡهِمۡ لَوۡ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُۚ﴾ وهذا تأكيدٌ أن الصلة الوثيقة بالله تنتج صلةً طيّبةً بالخلق.
ثانيًا: ترسيخ القيم الأخلاقيَّة ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالࣰا فَخُورًا﴾، والمُلاحَظ هنا أن هذا التوجيه جاء مباشرةً عقب الحديث عن حقوق الوالدين والقربى واليتامى والجار ونحوها من الحقوق الاجتماعيَّة والإنسانيَّة، وكأنه يقول: إن الخيلاء والفخر والتكبر هي التي تؤدِّي إلى التقاطع والتدابر.
ثالثًا: سلامة العقل ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ فالحكمة من تحريم الخمر إنما كانت لتحصيل المعرفة والعلم بما يقرأ ويسمع من الآيات.
وقد كان هذا التحريم مقدِّمةً للتحريم العام للخمر وكلِّ ما من شأنه أن يَذهب بالعقل؛ لأن ذهاب العقل ولو مؤقَّتًا من شأنه أن يورث العداوة ﴿إِنَّمَا یُرِیدُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَن یُوقِعَ بَیۡنَكُمُ ٱلۡعَدَ ٰ⁠وَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ فِی ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَیۡسِرِ﴾ [المائدة: 91].
رابعًا: نظافة الجسد ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِی سَبِیلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰۤ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَاۤءَ أَحَدࣱ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَاۤىِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَاۤءࣰ فَتَیَمَّمُواْ صَعِیدࣰا طَیِّبࣰا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَیۡدِیكُمۡۗ﴾ وهذا التشديد في النظافة حتى مع عدم وجود الماء هو لبيان أهميّة هذه القيمة، وقد جاء ذكرها بعد آيات التواصل الاجتماعي إشارة إلى أهميّة النظافة في بناء هذا التواصل، والله أعلم.


﴿إِلَّاۤ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضࣲ مِّنكُمۡۚ﴾ دلالة أن التراضي أصل في المبادلات التجارية، وعليه فكلّ تبادل لا ينشأ عن تراضٍ من الفريقين فهو محظور لما فيه من العدوان وأكل أموال الناس بالباطل، ومن ذلك الإكراه واستغلال ضعف الآخر أو حيائه.
﴿إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَاۤىِٕرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَیِّـَٔاتِكُمۡ﴾ الكبيرة ما استوجبت حدًّا أو لعنةً أو وعيدًا شديدًا، والسيئة هنا كلُّ ذنب دون الكبيرة، وهذا وعدٌ ودودٌ ورحيمٌ أن الله يغفر لنا سيئاتنا إذا اجتنبنا الكبائر، اللهم فاغفر لنا كبائرنا وصغائرنا بمنِّك وفضلك.
﴿وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلࣰا كَرِیمࣰا﴾ فالذي تطهَّر من كبائره وصغائره يستحقُّ الكرامة والمنزلة العظيمة من الله، وهي عامة شاملة في دنياه وأخراه، طمأنينةً وسكينةً ورضًا في الدنيا، وجنَّةً خالدةً وزُلفَى ودودٍ في الآخرة.
﴿وَلِكُلࣲّ جَعَلۡنَا مَوَ ٰ⁠لِیَ مِمَّا تَرَكَ ٱلۡوَ ٰ⁠لِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَۚ﴾ أي: لكل تركة جعلنا لها وُرَّاثًا يتقاسَمُونها وفق شرع الله الذي أعطى لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه.
﴿وَٱلَّذِینَ عَقَدَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡ فَـَٔاتُوهُمۡ نَصِیبَهُمۡۚ﴾ الظاهر أنها عامة في الالتزامات والعقود من غير الوراثة المقدَّرة في الشرع، وهذه الحقوق تخضع لمنهجيَّة التشريع، فما أبطله الشرع من عقود الجاهليَّة وأعرافها فهو باطل، وكذا الحقوق المرحلية التي أقرَّها الشرع ثم أبطلها كالتوارث بين المهاجرين والأنصار بنظام الأخوَّة الخاصَّة، أما العقود المتوافقة مع ما استقرّ عليه التشريع فهي حقٌّ، وينبغي أن يُستخرج من مال المتوفَّى قبل توزيع التركة، والله أعلم.
﴿فَٱلصَّـٰلِحَـٰتُ قَـٰنِتَـٰتٌ حَـٰفِظَـٰتࣱ لِّلۡغَیۡبِ﴾ جاء هذا في بيان أصل العلاقة الزوجيّة، والمرأة هنا محفوظة كرامتها وحقوقها الماديَّة والمعنويَّة كما صانَت بيتها وحقَّ زوجها، وأمَّا الحالة الثانية:﴿وَٱلَّـٰتِی تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ فهي حالة استثنائية تتطلَّب حلًّا استثنائيًّا.
﴿حَكَمࣰا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمࣰا مِّنۡ أَهۡلِهَاۤ﴾ فيه تقييد عملي لمعنى القوامة، فهي قوامة مقيَّدة بالعدل ورفع الظلم وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه؛ ولتحقيق هذا العدل جعل الله التحكيم مناصفة من أهله وأهلها، وأوصى الطرفين بتوخّي الإصلاح، وهو معنى أرفع من العدل المجرّد، فهو عدلٌ وزيادةُ صلحٍ وترميمٍ للعلاقات التي تعكَّرت بسبب الخلاف.
﴿وَٱلۡجَارِ ذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ﴾ تفصيل لأنواع الجيران من الناحية الاجتماعيَّة، فهناك من يجمع بين الجوار والقرابة، وهناك من يجمع بين الجوار والصداقة، وهناك الجار الجنب الذي لم يكن قبل الجوار قريبًا ولا صديقًا، وفي هذا اهتمام خاص بحقِّ الجار لا يغفل عنه اللبيب.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةࣰ یُضَـٰعِفۡهَا﴾ أصل في معاملة الباري لعباده، وهو من الوعد الرحيم الذي لا يتخلّف، وفيه إشارة لما ينبغي أن يكون عليه خلق المسلم مع الآخرين؛ أن يغفر لهم الزلّات، ويُكبر فيهم البرّ والأعمال الصالحات.
﴿فَكَیۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۭ بِشَهِیدࣲ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ شَهِیدࣰا﴾ الرسول هو الشهيد على هذه الأمَّة، وكلُّ رسولٍ أو نبيٍّ شهيدٌ على أمَّته، وهذه الشهادة إنما هي بتبليغهم الوحي كما أنزل لإقامة الحجَّة عليهم، ومن ثَمَّ تكون حسرة المكذِّبين ﴿یَوۡمَىِٕذࣲ یَوَدُّ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوۡ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضُ وَلَا یَكۡتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِیثࣰا﴾.
والآية متضمنة لوجوب طاعة الرسول واتخاذه الأسوة الشاملة في كلِّ شأنٍ من شؤوننا، فلم يكن شهيدًا على هذه الأمَّة إلا لكونه قائدها وقدوتها والأمين على دينها بقوله وعمله -بأبي هو وأمي-، وقد جاءت الإشارة إلى هذا بتحسُّر المكذِّبين الذين كفروا و﴿وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ﴾.
﴿لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَـٰرَىٰ﴾ لم يقُل: لا تُصلُّوا وأنتم سُكارَى، طلبًا للتهيُّؤ المبكِّر للصلاة؛ بحيث يكون المصلِّي واعيًا بما يقرأ أو يسمع، وفيه إشارة لقطع جميع العلائق والشواغل التي تشوّش على عقله وقلبه.
﴿أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ﴾ كناية عن الجماع، وهذا هو الأظهر من أقوال الفقهاء بقرينة مقابلته لإتيان الغائط، فيكون اللمس مثالًا للحدث الأكبر وإتيان الغائط مثالًا للحدث الأصغر، وكلاهما يستوجِبَان التيمم بالصعيد الطيِّب عند فقد الماء.
وهذا أيضًا هو الذي يتناسب مع مقاصد الشرع؛ فحذر الزوجين من ملامسة أحدهما للآخر الملامسة الجسديَّة الظاهرة تجنُّبًا لنقض الوضوء من شأنه أن يباعد بينهما لوقتٍ أطول وهما في بيتٍ واحد، بينما مقصد الشرع توطيد الصلة والمودَّة والرحمة، وفي السُّنَّة وفعل السلف ما يؤيَّد هذا مما هو معروف في مظانَّه من كتب السُّنَّة والفقه، والله أعلم.
﴿فَتَیَمَّمُواْ صَعِیدࣰا طَیِّبࣰا﴾ هو التراب الطاهر، هذا هو الأظهر من أقوال الفقهاء؛ لأنّه بديل الماء، فينبغي أن يكون صالحًا للتطهير، أما الحجارة الصلبة التي ليس فيها تراب أو غبار يمرّ على البشرة فليس فيها من آثار التطهير شيء، والقول به ربما جاء ترجيحًا لمعنى التيمم التعبّدي البحت، ومراعاة التطهير المادي هنا أولى مع ما فيه من معاني التديُّن والتعبُّد، وقد جاء التطهير بالتراب في ولوغ الكلب، وهو قرينةٌ قويّةٌ لإرادة هذا المعنى المادِّي، والله أعلم.