سورة النساء تفسير مجالس النور الآية 62

فَكَیۡفَ إِذَاۤ أَصَـٰبَتۡهُم مُّصِیبَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَیۡدِیهِمۡ ثُمَّ جَاۤءُوكَ یَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنۡ أَرَدۡنَاۤ إِلَّاۤ إِحۡسَـٰنࣰا وَتَوۡفِیقًا ﴿٦٢﴾

تفسير مجالس النور سورة النساء


المجلس التاسع والثلاثون: التشريع ومرجعية الحكم


من الآية (57- 70)


القوانين الحاكمة في كلِّ مجتمعٍ لا بُدَّ لها من فلسفةٍ كلِّيَّةٍ ورؤيةٍ عامَّة تنبثق منها، وهذه الفلسفة سابقة للتشريع ومهيمنة عليه؛ لأنّها تمثِّل في الغالب هويَّة الأمَّة وثقافتها وخصوصيَّاتها التي تميِّزها عن الأمم الأخرى.
والأمة المسلمة ليست بِدعًا ولا استثناءً من هذا السياق والعرف الإنساني العام، فأساس تكوين هذه الأمة وآصرتها الكلِّيَّة إنما هو الإسلام، والإسلام دينٌ وعقيدةٌ تبدأُ بالإيمان بالله الواحد الذي خلق الخلق وأبدعه، وتُثنِّي بالإيمان بالنبيِّ الرسول المبلِّغ عن الله (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله)، وهذه الشهادة هي عقدٌ والتزامٌ بالخضوع والطاعة والتسليم المطلق، ومن هنا جاءت كلمة (الإسلام).
في هذا المقطع من سورة النساء تركيز وبيان لا نظير له في كلِّ آيات القرآن الكريم لتحديد مرجعية الأمّة المسلمة في حكمها ونظامها العام، ومصدريّة التشريع وسنّ القوانين بطريقة مباشرة ومؤكّدة لا تحتمل الخلاف، وهذا يحقق في الأمَّة انسجامًا تامًا بين معتقداتها الكليّة ومفرداتها التشريعيَّة، كما يضمن وحدة الأمة في أخطر جانب من جوانب حياتها.
يبدأ الخطاب بالتذكير بالجانب الغيبي الذي اجتمعت عليه الأمَّة وتشكَّلَت في ضوئه ﴿ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ﴾، ثم جاء الأمر المباشر والصريح: ﴿۞ إِنَّ ٱللَّهَ یَأۡمُرُكُمۡ﴾، فتلك المقدِّمة وهذه النتيجة، فالله الذي آمَنتم به هو الذي يأمُرُكم، وليس بعد هذا سِوَى الطاعة ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ أَطِیعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِیعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِی ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ﴾ والطاعةُ في الحقيقة واحدةٌ؛ لأنه لا طاعة إلا بأمرٍ، والأمر محسومٌ لله ﴿﴿۞ إِنَّ ٱللَّهَ یَأۡمُرُكُم﴾ وعليه فالطاعةُ لله امتثالٌ لأمرِهِ، وطاعةُ الرسول تصديقٌ له في تبليغه لأمرِ الله.
وطاعة وليِّ الأمر (الدولة) خضوعٌ عمليٌّ لسلطة التنفيذ، فهي التي تملك صفة الإلزام القانوني والعملي، وفي حالة حصول الاختلاف مع الجهات التنفيذيَّة يكون الحل بالرجوع إلى مصدر الأمر ﴿فَإِن تَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی شَیۡءࣲ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ﴾.
إن هذا التسلسل المنهجي هو دليل صدق المقدّمة الأولى (الإيمان)؛ ولذلك شدَّد القرآن نكيرَه على من زعم الإيمان وأنكر الحكم ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ یَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ یُرِیدُونَ أَن یَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوۤاْ أَن یَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ﴾، وكان الحكم النهائي في هؤلاء ونحوهم قاطعًا وصريحًا: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا یُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ یُحَكِّمُوكَ فِیمَا شَجَرَ بَیۡنَهُمۡ﴾.
ويُلاحَظ هنا: أن التحكيم المطلوب والذي هو دليل الإيمان التحكيم في الأمور التي يكون فيها الشجار والخصومة بين الناس وليس الشعائر الدينيَّة، وهذا ردٌّ على من زعم أن الحكم الشرعي إنما يكون في الشعائر والعبادات الدينيَّة المجردة عن نظام الحياة.
أما التمسُّك بالشهادتين واسم الإيمان الجامع مع الصدِّ عن حكم الله وأمره فهو علامة النفاق ﴿وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَیۡتَ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ یَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودࣰا﴾، من هنا يكون الوعد الإلهي مرتبطًا بالطاعة وليس بالإيمان المجرَّد: ﴿وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ مَعَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ وَٱلصِّدِّیقِینَ وَٱلشُّهَدَاۤءِ وَٱلصَّـٰلِحِینَۚ وَحَسُنَ أُوْلَــٰۤىِٕكَ رَفِیقࣰا﴾.
ولكي لا يظنَّ ظانٌّ أن الحكم الشرعي هو حكمٌ طبقيٌّ أو سلاليٌّ تتحكم فيه طائفة - ولو كان في الأرض من هو خيرٌ منها - جاء التأكيد المبكر ﴿۞ إِنَّ ٱللَّهَ یَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَـٰنَـٰتِ إِلَىٰۤ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَیۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ﴾ فهذان ركنان في الحكم: الأمانة والعدل، والأمانة معنًى واسعٌ؛ ومن صورها المعاصرة:
الأمانة في الترشُّح للولايات العامة، والأمانة في الاختيار، والأمانة في التصويت، حتى في السلوك العملي الفردي داخل كلِّ مؤسسةٍ ووظيفةٍ، والعدل كذلك هو معنًى واسعٌ لكلِّ ما هو منافٍ للظلم، لكنَّه يتأكَّد في الشأن العام وسياسة الدولة أكثر؛ لتعلُّق مصالح الخلق ومصيرهم وطبيعة حياتهم.


﴿ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ هو ظلُّ الجنَّة الكثيف لكثرة أشجارها، وفي العبارة إشارة للأمن والسكينة من كلِّ خوفٍ وفزعٍ.
﴿فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ﴾ أي: إلى كتاب الله وسنَّة نبيِّه، ومن هنا جاء قول من قال بأن أُولي الأمر هم العلماء؛ لأنهم هم الأقدر على استنباط الحكم من الكتاب والسنَّة، والصحيح أن العلماء مرجعيَّة علميَّة وفقهيَّة، والأمر سلطة تنفيذيَّة، وضبط العلاقة بين الجهتين لا بدَّ منه لتحقيق الحكم الرشيد المستند إلى الرشد والقوة.
﴿فَكَیۡفَ إِذَاۤ أَصَـٰبَتۡهُم مُّصِیبَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَیۡدِیهِمۡ ثُمَّ جَاۤءُوكَ یَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنۡ أَرَدۡنَاۤ إِلَّاۤ إِحۡسَـٰنࣰا وَتَوۡفِیقًا﴾ وهي صورة متكررة لمن يرفض التحاكم إلى دين الله، طالما أنه يرى التحاكم في غير مصلحته، فإذا وقع في المصيبة والحاجة إلى الإنصاف لجأ إلى الشرع طلبًا للحلِّ والصلح، فكأنَّه يؤمن ببعض ويكفر ببعض، وهو سلوك المذبذب وفق هواه، والتائه بين السبل والدعوات المختلفة.
وقد ذكر بعض المفسِّرين سببًا لنزول هذه الآيات: أن رجلًا حكم له الرسول فأَبَى، ثم جاء إلى عمر يستَقضِيه، فحكم عليه عمر بالردَّة وقَتَلَه، وهو خبرٌ لا يصحُّ سندًا ولا متنًا، فليس لعُمر أن يحكم عليه بالقتل، ثم يُنفِّذ حُكمَه من غير عِلمِ رسول الله .
﴿وَقُل لَّهُمۡ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِیغࣰا﴾ أي: انصَحهم فيما بينك وبينهم من غير تشهيرٍ؛ لعل هذه النصيحة تؤثِّر فيهم وتبلُغ إلى عقولهم وقلوبهم، وفي الآية من أدب الدعوة والتلطُّف حتى بهؤلاء ما لا يَخفَى على لبيب.
﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمۡ جَاۤءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ﴾ كان ذلك شرطًا في التوبة؛ لأن طاعة الرسول والتلقي عنه والائتمار بأمره واجبات عينيَّة، وبعد انتقاله انتقلت بعض هذه الواجبات إلى سنَّته، وبعضها الآخر إلى خليفته من بعده وكلِّ إمامٍ شرعيٍّ للمسلمين، فالسنَّة حقُّ التشريع، والإمامة حقُّ السلطة والتنفيذ.
وأما استغفاره فلا تخفى بركته؛ إذ دعاء المسلم لأخيه مظنّة الاستجابة فكيف بدعاء النبيِّ ؟
﴿وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَیۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِیَـٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِیلࣱ مِّنۡهُمۡۖ﴾ معناه: أن الناس بتركهم للوحي يقعون في المظالم فيقتل بعضهم بعضًا، ويؤذي أحدهم الآخر، ولو أنَّ الشرع أمرهم بذلك ما فعلوه، فهم بفعلهم هذا قد وقعوا في الشَّرَّين؛ شرِّ المظالم فيما بينهم، وشرِّ مخالفة الشرع.
ومؤدَّى هذا كلِّه أن الشرع إنما جاء لتحقيق السعادة والرحمة، ورفع الحرج والظلمة، وأن الذي يخالف الشرع ويتنكَّر له سيقع في الشرَّين، والله أعلم.