سورة غافر تفسير مجالس النور الآية 3

غَافِرِ ٱلذَّنۢبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوۡبِ شَدِیدِ ٱلۡعِقَابِ ذِی ٱلطَّوۡلِۖ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ إِلَیۡهِ ٱلۡمَصِیرُ ﴿٣﴾

تفسير مجالس النور سورة غافر

المجلس السابع بعد المائتين: الذين آمنوا والذين كفروا


الآية (1- 22)


سورةُ غافر سورةٌ مكيَّةٌ تُعالِجُ حالةَ الصراع بين الإيمان والكفر، والتي بدأت مع بواكير الدعوة الإسلاميَّة المُبارَكة في مكّة، وكان القرآن يُتابِعُ هذا الصراع من زوايا مُختلفة، بدءًا بتوصيفِ حالةِ الفريقَين، والأُسُس التي يفترقون عليها، والمعالم الواضحة التي تميِّز كلّ فريقٍ عن الآخر، وكما يأتي:
أولًا: بيان الأصول التي افترق عليها الناس؛ حيث تستهلُّ السورة بتأكيد نزول الوحي بهذا القرآن، فهو كلام الله العزيز العليم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴿حمۤ ﴿١﴾ تَنزِیلُ ٱلۡكِتَـٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡعَلِیمِ﴾.
ولأنّ القرآن رسالة عمليَّة هادفة تسعى لتصحيح عقائد الناس وتصوُّراتهم، وإصلاح حياتهم وعلاقاتهم، فتح الله بابَ التوبة لكلِّ مُخطئٍ وعاصٍ مهما كان، مُحذِّرًا في الوقت ذاته من التمادي في الخطأ، والإصرار على المعصية ﴿غَافِرِ ٱلذَّنۢبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوۡبِ شَدِیدِ ٱلۡعِقَابِ ذِی ٱلطَّوۡلِۖ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ إِلَیۡهِ ٱلۡمَصِیرُ﴾.
ثم نبَّه العقولَ إلى دلائل الإيمان المبثوثة في هذا الكون فقال: ﴿هُوَ ٱلَّذِی یُرِیكُمۡ ءَایَـٰتِهِۦ وَیُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ رِزۡقࣰاۚ وَمَا یَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن یُنِیبُ﴾.
ثم نبَّه إلى ما في التاريخ من دروسٍ وعبرٍ: ﴿۞ أَوَلَمۡ یَسِیرُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُواْ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ كَانُواْ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُواْ هُمۡ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةࣰ وَءَاثَارࣰا فِی ٱلۡأَرۡضِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقࣲ ﴿٢١﴾ ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانَت تَّأۡتِیهِمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ قَوِیࣱّ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ﴾ مؤكِّدًا في ثنايا ذلك أصول الدين القائمة على توحيد الله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان برسالة النبيِّ ، وأنّه هو المُبلِّغ عن الله ﴿فَٱدۡعُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ ﴿١٤﴾ رَفِیعُ ٱلدَّرَجَـٰتِ ذُو ٱلۡعَرۡشِ یُلۡقِی ٱلرُّوحَ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ لِیُنذِرَ یَوۡمَ ٱلتَّلَاقِ ﴿١٥﴾ یَوۡمَ هُم بَـٰرِزُونَۖ لَا یَخۡفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنۡهُمۡ شَیۡءࣱۚ لِّمَنِ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡیَوۡمَۖ لِلَّهِ ٱلۡوَ ٰ⁠حِدِ ٱلۡقَهَّارِ﴿١٦﴾ ٱلۡیَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡیَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ ﴿١٧﴾ وَأَنذِرۡهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡـَٔازِفَةِ إِذِ ٱلۡقُلُوبُ لَدَى ٱلۡحَنَاجِرِ كَـٰظِمِینَۚ مَا لِلظَّـٰلِمِینَ مِنۡ حَمِیمࣲ وَلَا شَفِیعࣲ یُطَاعُ ﴿١٨﴾ یَعۡلَمُ خَاۤىِٕنَةَ ٱلۡأَعۡیُنِ وَمَا تُخۡفِی ٱلصُّدُورُ ﴿١٩﴾ وَٱللَّهُ یَقۡضِی بِٱلۡحَقِّۖ وَٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا یَقۡضُونَ بِشَیۡءٍۗ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ﴾.
ثانيًا: بيان حال الذين كفروا وأنّهم أهل جدالٍ وعنادٍ ﴿مَا یُجَـٰدِلُ فِیۤ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ فَلَا یَغۡرُرۡكَ تَقَلُّبُهُمۡ فِی ٱلۡبِلَـٰدِ﴾ مُذكِّرًا بهذه الظاهرة البشريَّة المُمتدَّة في عُمق التاريخ ﴿كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحࣲ وَٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۖ وَهَمَّتۡ كُلُّ أُمَّةِۭ بِرَسُولِهِمۡ لِیَأۡخُذُوهُۖ وَجَـٰدَلُواْ بِٱلۡبَـٰطِلِ لِیُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّ فَأَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَیۡفَ كَانَ عِقَابِ ﴿٥﴾ كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحࣲ وَٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۖ وَهَمَّتۡ كُلُّ أُمَّةِۭ بِرَسُولِهِمۡ لِیَأۡخُذُوهُۖ وَجَـٰدَلُواْ بِٱلۡبَـٰطِلِ لِیُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّ فَأَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَیۡفَ كَانَ عِقَابِ﴾.
وبعد هذا الأخذ والعقاب الأليم في الدنيا، يذكِّرهم القرآن بالمصير الأقسى والعذاب الأكبر ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ یُنَادَوۡنَ لَمَقۡتُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُ مِن مَّقۡتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡ إِذۡ تُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلۡإِیمَـٰنِ فَتَكۡفُرُونَ ﴿١٠﴾ قَالُواْ رَبَّنَاۤ أَمَتَّنَا ٱثۡنَتَیۡنِ وَأَحۡیَیۡتَنَا ٱثۡنَتَیۡنِ فَٱعۡتَرَفۡنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلۡ إِلَىٰ خُرُوجࣲ مِّن سَبِیلࣲ ﴿١١﴾ ذَ ٰ⁠لِكُم بِأَنَّهُۥۤ إِذَا دُعِیَ ٱللَّهُ وَحۡدَهُۥ كَفَرۡتُمۡ وَإِن یُشۡرَكۡ بِهِۦ تُؤۡمِنُواْۚ فَٱلۡحُكۡمُ لِلَّهِ ٱلۡعَلِیِّ ٱلۡكَبِیرِ﴾.
ثالثًا: بيان حال الذين آمنوا واستجابوا لهذا الدين، فكانوا في انسجامٍ مع فطرتهم ومع هذا الخلق الواسع الذي أبدعه الله سبحانه ﴿ٱلَّذِینَ یَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ یُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَیُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَیَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِینَ ءَامَنُواْۖ رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَیۡءࣲ رَّحۡمَةࣰ وَعِلۡمࣰا فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِینَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِیلَكَ وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِیمِ ﴿٧﴾ رَبَّنَا وَأَدۡخِلۡهُمۡ جَنَّـٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِی وَعَدتَّهُمۡ وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَاۤىِٕهِمۡ وَأَزۡوَ ٰ⁠جِهِمۡ وَذُرِّیَّـٰتِهِمۡۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ ﴿٨﴾ وَقِهِمُ ٱلسَّیِّـَٔاتِۚ وَمَن تَقِ ٱلسَّیِّـَٔاتِ یَوۡمَىِٕذࣲ فَقَدۡ رَحِمۡتَهُۥۚ وَذَ ٰ⁠لِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ﴾.
وهذا الدعاء الودود اللطيف الذي تدعو به الملائكة لهؤلاء المؤمنين ولمن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريَّاتهم قائمٌ مقام التحقُّقِ؛ لأنَّ الله تعالى امتَدَحَ الملائكة به، وساقَه مساقَ الامتِنان على أهل الإيمان.
وفيه كذلك شعورٌ بالرابطة الإيمانيَّة الجميلة التي تربط المؤمن بعالم الملائكة، ذلك العالم الأجمل والأطهر والأنقى، وهذا الشعور يرفع هذا الإنسان عن ضِيق الدنيا وهمومها ومستواها المادّي الثقيل ليَسْبَح في عالمٍ من النور والأفق الواسع الرحيب.


﴿حمۤ﴾ تقدّم الحديث عن الحروف المقطَّعة في أوَّلِ سورة البقرة.
﴿غَافِرِ ٱلذَّنۢبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوۡبِ شَدِیدِ ٱلۡعِقَابِ﴾ هذه الصفات الجليلة تجمع في تأثيرها العملي السلوكي بين الرجاء والخوف؛ فالذي يُقبِلُ على الله يقبَلُه الله، والذي يتمادَى في غيِّهِ وإعراضه له العقابُ الشديد.
﴿ذِی ٱلطَّوۡلِۖ ﭵ﴾ أصلُ الطَّول: السَّعة، ومعناه هنا: سَعة قُدرته سبحانه، وعظيم فضله وإنعامه.
﴿مَا یُجَـٰدِلُ فِیۤ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ﴾ الجدال هنا: الجدال الباطل، وهو التكذيب بآيات الله عنادًا واستكبارًا.
﴿فَلَا یَغۡرُرۡكَ تَقَلُّبُهُمۡ فِی ٱلۡبِلَـٰدِ﴾ فلا يغرُرْكَ ما معهم من جاهٍ ومالٍ وقدرتهم على التصرُّف في مكة، والتحكم في شؤونها، وذلك هو تقلُّبهم فيها، وأصلُ التقلُّب: التردُّد ذهابًا ومجيئًا.
﴿كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحࣲ وَٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۖ﴾ أي: من بعد قوم نوحٍ؛ كعادٍ، وثمود.
﴿وَهَمَّتۡ كُلُّ أُمَّةِۭ بِرَسُولِهِمۡ لِیَأۡخُذُوهُۖ﴾ أي: ليقتُلُوه.
﴿لِیُدۡحِضُواْ﴾ ليُبطلوا.
﴿فَأَخَذۡتُهُمۡۖ﴾ فأهلَكْتُهُم، ويلحظ هنا مناسبة هذه العقوبة لما تقدَّم من جُرمهم ﴿وَهَمَّتۡ كُلُّ أُمَّةِۭ بِرَسُولِهِمۡ لِیَأۡخُذُوهُۖ﴾.
﴿ٱلَّذِینَ یَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ﴾ هم الملائكة، وحملهم للعرش من الأحوال الغيبيَّة التي تُوحي بالجلال والعظمة، ولا سبيل للعقل أن يُدرك ذلك الغيبَ على حقيقته وكيفيَّته، وإنّما الواجب التسليم بصدق الخبر، ثم البحث عن مقصوده العملي السلوكي، وهو قريبٌ ويسيرٌ على من يسَّره الله عليه.
﴿یُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ﴾ الباء للمُصاحبة، بمعنى أنّهم يُسبِّحون الله مُستصحِبين حمده ـ.
﴿وَیُؤۡمِنُونَ بِهِۦ﴾ أي: يتجدَّد فيهم معنى الإيمان كُلَّما سبَّحُوه وحمِدُوه، وفيه إشارةٌ إلى أنّ الذِّكر يُعزِّزُ الإيمانَ ويُقوِّيه.
﴿وَیَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِینَ ءَامَنُواْۖ﴾ أي: يدعُون لهم بالمغفرة، وهذا الاستغفار يُقوِّي من صِلَة المؤمن بملائكة الله واستِشعار وجودهم ومودَّتهم، ومِن ثَمَّ الحياء منهم، وكلّ هذا الشعور مؤثِّرٌ في النفس مُعزِّزٌ لمعاني الخير، والله أعلم.
﴿رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَیۡءࣲ رَّحۡمَةࣰ وَعِلۡمࣰا﴾ أي: وسِعَتْ رحمَتُك وعِلمُك كلَّ شيءٍ.
﴿وَقِهِمُ ٱلسَّیِّـَٔاتِۚ﴾ أي: احمهم وادفع عنهم كلّ ما يسوؤهم في الدنيا والآخرة.
﴿وَمَن تَقِ ٱلسَّیِّـَٔاتِ یَوۡمَىِٕذࣲ فَقَدۡ رَحِمۡتَهُۥۚ﴾ أي: من حَمَيتَه من السيئات في ذلك اليوم - وهو يوم القيامة - فقد رحِمتَه.
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ یُنَادَوۡنَ﴾ تُناديهم الملائكة، وذلك يوم القيامة.
﴿لَمَقۡتُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُ مِن مَّقۡتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡ﴾ بمعنى أنّ بُغض الله لكم ولما قدَّمتموه لأنفسكم أشدُّ مِن بُغضكم لأنفسكم؛ ذاك أنّ الكافرين هناك سيبغضون أنفسهم ويتمنَّون أن لو كانوا عدمًا.
﴿قَالُواْ رَبَّنَاۤ أَمَتَّنَا ٱثۡنَتَیۡنِ وَأَحۡیَیۡتَنَا ٱثۡنَتَیۡنِ﴾ هذه الآية مُفسَّرة بقوله تعالى في سورة البقرة: ﴿كَیۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَ ٰ⁠تࣰا فَأَحۡیَـٰكُمۡۖ ثُمَّ یُمِیتُكُمۡ ثُمَّ یُحۡیِیكُمۡ﴾ [البقرة: 28]، فسمَّى العدمَ قبل الخلق موتًا؛ إذ هو بحُكمه، والله أعلم.
﴿وَیُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ رِزۡقࣰاۚ﴾ أي: المطر الذي هو سبب الرزق، فذكر السبب وأراد النتيجة.
﴿رَفِیعُ ٱلدَّرَجَـٰتِ﴾ وصفٌ لله تعالى يستلزم العلوَّ المطلق، كما في قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى﴾ [الأعلى: 1]، والعلوُّ صفةٌ ثابتةٌ لله بالنص، ولا قدرة للعقل في إدراك معناها كما هي في الغيب، لكنّها تُوحي بالعظمة والقدرة المطلقة، وهذا هو المقصود العملي من هذا الإخبار، ولا يبعُد أيضًا أن يكون المعنى أنّه تعالى يرفع درجات المؤمنين، إلَّا أنَّ ذِكر العرش بعدها يُرجِّح الأوّل، والله أعلم.
﴿ذُو ٱلۡعَرۡشِ﴾ خالق العرش ومالكه.
﴿یُلۡقِی ٱلرُّوحَ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ﴾ أي: يُنزِّلُ الوحيَ على مَن يشاء مِن أنبيائِهِ ورسُلِهِ.
﴿لِیُنذِرَ یَوۡمَ ٱلتَّلَاقِ﴾ أي: ليُنذِر النبيُّ الناسَ ويُحذِّرهم من يوم القيامة، وسمَّاه يوم التلاقِ لأنّ الخلائق تلتَقِي فيه أوَّلُهم وآخرُهم.
﴿لِّمَنِ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡیَوۡمَۖ لِلَّهِ ٱلۡوَ ٰ⁠حِدِ ٱلۡقَهَّارِ﴾ المُلك لله وحده دائمًا وأبدًا في هذا اليوم وفي ذاك اليوم، وإنّما خصّ ذلك اليوم لأهميته وخطورته، ولأنَّ الذين توهَّموا أنّهم يشاركون الله في مُلكه لغفلتهم وضعف بصيرتهم أدركوا هناك الحقيقة، وأدركوا أن كلَّ المتاع الذي كان بأيديهم إنّما كان على سبيل التخويل والاستخلاف والاختبار.
﴿ٱلۡیَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡیَوۡمَۚ﴾ تأكيدٌ لعقيدة العدل الإلهي، ونفيٌ صريحٌ لأي شُبهةٍ قد تطرأ بسبب سوء فهمٍ لعقيدةِ القدر، أو نصٍّ من نصوص الهداية والضلال؛ فالله إنّما يضل من يطلب الضلالة، ويهدي من يطلب الهداية وفق سُننٍ كونيَّةٍ عادلةٍ، كمن يموت بسبب شُرب السمِّ، ومن يبرأ بسبب أخذ الدواء.
﴿وَأَنذِرۡهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡـَٔازِفَةِ﴾ هو يوم القيامة، والآزفة أي: القريبة، والتذكير بقُربها يشدّ الانتباه لها، وأخذ الحيطة قبل وقوعها.
﴿إِذِ ٱلۡقُلُوبُ لَدَى ٱلۡحَنَاجِرِ كَـٰظِمِینَۚ﴾ بمعنى أنّ القلوب تضطرب من شدَّة الخوف حتى كأنّها تتحول من أماكنها، وتصعد إلى الحناجر، والحناجر جمع حنجرة، وكاظمين أي: كاتمين أنفاسهم من شدَّة الخوف والترقُّب.
﴿مَا لِلظَّـٰلِمِینَ مِنۡ حَمِیمࣲ﴾ من قريبٍ ينفَعُهم.
﴿وَلَا شَفِیعࣲ یُطَاعُ﴾ أي: وما لهم من شافِعٍ يشفَع فتُقبل شفاعته.
﴿یَعۡلَمُ خَاۤىِٕنَةَ ٱلۡأَعۡیُنِ﴾ أي: يعلم اختلاسات الأعْيُن الخفيَّة، بمعنى أنّ الله يعلم كلَّ ذنبٍ ارتكبه العبد ولو كان دقيقًا خفيًّا، وقد أكَّد هذا المعنى بقوله: ﴿وَمَا تُخۡفِی ٱلصُّدُورُ﴾.
﴿وَٱللَّهُ یَقۡضِی بِٱلۡحَقِّۖ﴾ أي: يحكُمُ بالعدل.
﴿وَٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا یَقۡضُونَ بِشَیۡءٍۗ﴾ أي: تلك الأوثان التي عبَدُوها من دون الله لا تقضي لهم بحقٍّ ولا بباطلٍ، فهي أعجَزُ من ذلك، فهي لا تسمعُ، ولا تُبصِرُ، ولا تقدِرُ على شيءٍ، وقد عرَّضَ القرآن بهذا في قوله: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ﴾.
﴿وَءَاثَارࣰا فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ تدل على قوَّتهم وتمكُّنهم في الأرض.
﴿فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡ﴾ أهلَكَهم بسبب ذنوبهم، وفيه أنّ الذنب يُطلق على الكفر، ولا يقتصر على المعصية العمليَّة.
﴿وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقࣲ﴾ أي: ما كان لهم من دون الله مُدافِع يَحمِيهم ويدفَعُ عنهم العذاب.