﴿فَمَاۤ أُوتِیتُم مِّن شَیۡءࣲ فَمَتَـٰعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۚ﴾ أي: ما أعطاكم الله من رزقٍ فإنكم تتمتَّعُون به مُدَّة حياتكم في الدنيا ثم يزُول.
﴿وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَیۡرࣱ وَأَبۡقَىٰ﴾ أي: ما أعدَّه الله في الآخرة لعباده المؤمنين خيرٌ من هذا المتاع وأدوَم.
﴿وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمۡ یَغۡفِرُونَ﴾ أي: يكظِمُون غيظَهم، ويتجاوَزُون عمَّن أساءَ إليهم.
﴿وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَیۡنَهُمۡ﴾ الشورى: تبادُل المعلومات والآراء والنصائح للوصول إلى الرأي الأصوَب فيما لا نصَّ فيه من الشرع.
﴿وَٱلَّذِینَ إِذَاۤ أَصَابَهُمُ ٱلۡبَغۡیُ هُمۡ یَنتَصِرُونَ﴾ والبغيُ هو: العدوان ومجاوزة الحقِّ، وهذه الآية تهيئة للمسلمين أن يستعدُّوا لدفع الضُّرِّ عنهم، وكأنّها مقدِّمة لفقه القتال الذي نزل بعد ذلك في المدينة، ومعنى
﴿یَنتَصِرُونَ﴾ هنا أنّهم يردُّون البغيَ وينتَفِضُون عليه.
والجمعُ بين هذه الآية والتي قبلها:
﴿وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمۡ یَغۡفِرُونَ﴾ أنّ مُوجِبات الغضب أوسَع من البغي، وليس كلُّ مُوجِبٍ للغضب يستَدعِي الردَّ، إلَّا إذا وصَلَ إلى حدِّ البغي ومُجاوزة الحقِّ والحدِّ؛ كالعدوان الذي يستهدِف الدين ووجود المسلمين، فهنا الانتِفاض واجبٌ بالقَدر الذي يردُّ العدوان، والله أعلم.
﴿وَجَزَٰٓؤُاْ سَیِّئَةࣲ سَیِّئَةࣱ مِّثۡلُهَاۖ﴾ هذا ضابط في ردِّ العُدوان؛ أن يكون الردّ بقدر العدوان فلا يزيد عليه ولا يتوسَّع به، وسمّى الرد المشروع
﴿سَیِّئَةࣱ﴾ على طريقة المشاكلة؛ لأنّه ردٌّ لسيئة البغي.
﴿فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۚ﴾ عَودٌ على بِدء في الترغيب بكظم الغيظ إذا لم يكن فيه خطرٌ على الدين نفسه.
﴿وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعۡدَ ظُلۡمِهِۦ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ مَا عَلَیۡهِم مِّن سَبِیلٍ﴾ أي: ما عليهم من إثمٍ ولا حرجٍ.
﴿إِنَّمَا ٱلسَّبِیلُ عَلَى ٱلَّذِینَ یَظۡلِمُونَ ٱلنَّاسَ﴾ أي: إنّما الإثم على هؤلاء الظالمين، وليس على من ردَّ الظلم عن نفسه.
﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَ ٰلِكَ لَمِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ﴾ ترغيبٌ آخر في الصبر وكظم الغيظ، والقرآن يؤكِّد هذا؛ لما فيه من خُلُقٍ نبيلٍ، ولما فيه من مصلحةٍ أيضًا للمؤمنين وهم يعيشون تحت سَطوة المشركين في مكّة؛ لأنّ الردَّ على كلِّ إساءةٍ منهم قد يفتَحُ بابًا من الفتنة لا يتحمَّله المسلمون في ذلك الوقت؛ ولذلك وصف هذا الصبر والكظم أنّه من عزم الأمور؛ لأنّه صبٌر عن وعيٍّ وحكمةٍ وسداد رأيٍ.
﴿وَتَرَى ٱلظَّـٰلِمِینَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَ یَقُولُونَ هَلۡ إِلَىٰ مَرَدࣲّ مِّن سَبِیلࣲ﴾ أي: لما رأَوا عذابَ الآخرة صارُوا يتمنَّون الرجوعَ إلى الدنيا.
﴿وَتَرَىٰهُمۡ یُعۡرَضُونَ عَلَیۡهَا﴾ أي: على النار.
﴿یَنظُرُونَ مِن طَرۡفٍ خَفِیࣲّۗ﴾ أي: يُسارِقُون النظرَ إلى النار خوفًا منها وكراهيةً لها.
﴿أَلَاۤ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ فِی عَذَابࣲ مُّقِیمࣲ﴾ أي: عذاب دائم.
﴿وَمَن یُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن سَبِیلٍ﴾ إلى الهداية ولا إلى النجاة، وإضلال الله لهم إنَّما كان على سُنَنِهِ العادلة سبحانه، فهو لا يظلم أحدًا، ولا يُجبِرُ أحدًا على الضلال، وإنّما من طلب الضلالة ضلَّ، كما أنّه من طلب الهداية هُدي، فلو كانوا لا سبيل لهم إلى الهداية بإكراه الله لهم لما استحقُّوا الملامة، ولما بعث الله لهم الأنبياء مُبشِّرين ومُنذِرين.
﴿وَمَا لَكُم مِّن نَّكِیرࣲ﴾ أي: لا تقدِرُون أن تُنكِرُوا شيئًا مما اقتَرَفتُموه.
﴿فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ فَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ عَلَیۡهِمۡ حَفِیظًا ۖ إِنۡ عَلَیۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَـٰغُ ۗ﴾ فهذه وظيفةُ الرسل أن يُبلِّغوا وحيَ الله إلى عباد الله، وليسوا مُوكَّلِين بعد ذلك على إرادةِ الناس وهدايتهم.
﴿وَإِنَّـاۤ إِذَاۤ أَذَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنَّا رَحۡمَةࣰ فَرِحَ بِهَاۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَیِّئَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَیۡدِیهِمۡ فَإِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ كَفُورࣱ﴾ هذه طبيعةٌ بشريةٌ عامةٌ؛ فالإنسان يفرَحُ بالنعمة، ويقنَطُ عند المصيبة، وقد يُوصِلُه القنوط هذا إلى السخط والكفر، إلَّا مَن زكَّى نفسَه بنور الوحي، وهذَّبَها بأخلاق المتقين، وقد ورد قريبًا من هذا في سورة المعارج:
﴿۞ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿١٩﴾ إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعࣰا ﴿٢٠﴾ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلۡخَیۡرُ مَنُوعًا ﴿٢١﴾ إِلَّا ٱلۡمُصَلِّینَ﴾ [المعارج: 19- 22].
﴿یَهَبُ لِمَن یَشَاۤءُ إِنَـٰثࣰا﴾ أي: يَهَبُ له الإناثَ دون الذكور.
﴿وَیَهَبُ لِمَن یَشَاۤءُ ٱلذُّكُورَ﴾ أي: يَهَبُ له الذكورَ دون الإناث.
﴿أَوۡ یُزَوِّجُهُمۡ ذُكۡرَانࣰا وَإِنَـٰثࣰاۖ﴾ أي: يجمع له الذكورَ والإناثَ.
﴿وَیَجۡعَلُ مَن یَشَاۤءُ عَقِیمًاۚ﴾ فلا يولد له، فهذه قسمةٌ رباعيةٌ، وقد عقَّب القرآن عليها بقوله:
﴿إِنَّهُۥ عَلِیمࣱ قَدِیرࣱ﴾ بمعنى أنّ هذا كلّه كائنٌ بعِلم الله وقدرته، كما أنّه يُقسِّم الأرزاق بعلمه وقدرته، وكلّ ذلك لحكمةٍ يعلمها هو سبحانه.
﴿۞ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن یُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡیًا أَوۡ مِن وَرَاۤىِٕ حِجَابٍ أَوۡ یُرۡسِلَ رَسُولࣰا﴾ هذه ثلاثُ طرائقٍ لبلوغ وحي الله إلى أنبياء الله:
أولاها: الإلهام، بأن يقذف الله في قلب النبيِّ الوحيَ على سبيل اليقين والجزم، فذلك قوله:
﴿إِلَّا وَحۡیًا﴾.
وثانيتها: أن يسمع النبيُّ كلامَ الله من وراء حجاب، كما حصل لموسى
عليه السلام، وذلك قوله:
﴿أَوۡ مِن وَرَاۤىِٕ حِجَابٍ﴾.
وثالثتها: أن يأتي مَلَك الوحي - وهو جبريل
عليه السلام - فيُبلِّغ النبيَّ ما أمره الله به، والقرآن كلّه نزل بهذه الطريقة بدلالة قوله تعالى:
﴿نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِینُ ﴿١٩٣﴾ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِینَ ﴿١٩٤﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِیࣲّ مُّبِینࣲ﴾ [الشعراء: 193- 195]. وقد بقِيَت طريقة الرؤيا، وهي طريقةٌ ثابتةٌ من طرق الوحي بالنسبة للأنبياء، بدلالة قول إبراهيم لابنه إسماعيل
عليهما السلام:
﴿یَـٰبُنَیَّ إِنِّیۤ أَرَىٰ فِی ٱلۡمَنَامِ أَنِّیۤ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ﴾ [الصافات: 102]، فأجابَهُ الابن:
﴿یَـٰۤأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُ ۖ﴾، والأظهر أنّ هذا من جنس الطريقة الأولى وهي الإلهام، والله أعلم.
﴿وَكَذَ ٰلِكَ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ رُوحࣰا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ﴾ أي: كما أوحَينا إلى الأنبياء السابقين، أوحَينا إليك هذه الرسالة الخاتمة، وقد سمَّاها روحًا؛ تشبيهًا لها بالروح التي لا تكون الحياة إلَّا بها.
﴿مَا كُنتَ تَدۡرِی مَا ٱلۡكِتَـٰبُ﴾ أي: ما كنت تدري عن القرآن شيئًا قبل أن نُوحِيه إليك، ومع ما في هذا من المنَّة، إلا أنّ المقصود الأكبر به: تأكيد أنّ هذا القرآن إنّما هو من عند الله، فلم يكن النبيُّ
ﷺ عالمًا به، ولا مُتشوِّفًا له.
﴿وَلَا ٱلۡإِیمَـٰنُ﴾ وما كنت تعلَم عن العقائد الغيبيَّة؛ كأسماء الله وصفاته، وأحوال الآخرة وأهوالها، وكذلك أسماء النبيين وقصصهم، فهذا كلُّه إنّما علِمَه النبيُّ
ﷺ عن طريق الوحي، أمّا معرفة الخالق فهي فطرةٌ مغروسةٌ في الإنسان، ولقد كان
ﷺ يتعبَّدُ في حراء قبل البعثة، وكان مُوحِّدًا لله مُبرَّءًا من الشرك، لكن معنى الإيمان أوسع من كلِّ ذلك، والله أعلم.
﴿وَلَـٰكِن جَعَلۡنَـٰهُ﴾ أي: الوحي.
﴿نُورࣰا نَّهۡدِی بِهِۦ مَن نَّشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ﴾ وهي المشيئة المتصلة ب
أسماء الله الحسنى، والتي تؤكِّد أنّ الله مُنزَّهٌ سبحانه عن الظلم، فهو يهدي من يطلب الهداية، ويُضِلُّ من يطلب الضلال، تمامًا كمَن يشرب الدواء فيبرأ، أو يشرب السمّ فيموت.
﴿وَإِنَّكَ لَتَهۡدِیۤ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ﴾ والهداية من الرسول إنّما هي الدعوة والإرشاد.
﴿أَلَاۤ إِلَى ٱللَّهِ تَصِیرُ ٱلۡأُمُورُ﴾ فكلّ أمور الخلائق إنّما ترجع إليه سبحانه وحده في الدنيا والآخرة.