سورة الزخرف تفسير مجالس النور الآية 66

هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّا ٱلسَّاعَةَ أَن تَأۡتِیَهُم بَغۡتَةࣰ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ ﴿٦٦﴾

تفسير مجالس النور سورة الزخرف

المجلس التاسع عشر بعد المائتين: هل ينظرون إلا الساعة


الآية (66- 89)


في خواتيم هذه السورة جاء الحديث عن خاتمة هذه الحياة وما يعقبها من حساب وجزاء، وانقسام الناس هناك بحسب أعمالهم التي قدّموها هنا؛ فمنهم الشقيّ، ومنهم السعيد، وتأكيد القرآن لهذه العقيدة بعد كلّ حوارٍ مع المشركين إنّما يهدِف إلى تكوين الدافع الذاتي في نفوسهم، لحملهم على استشعار جدِّيَّة الأمر، لعلَّهم يتفكَّرون فيرجعون.
أولًا: حذَّر القرآن هؤلاء الغافلين من ذلك اليوم الذي سيبغَتُهم وهم لا يشعرون ﴿هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّا ٱلسَّاعَةَ أَن تَأۡتِیَهُم بَغۡتَةࣰ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ﴾، ﴿فَذَرۡهُمۡ یَخُوضُواْ وَیَلۡعَبُواْ حَتَّىٰ یُلَـٰقُواْ یَوۡمَهُمُ ٱلَّذِی یُوعَدُونَ﴾ مُؤكِّدًا أنَّ عِلم الساعة إنّما هو لله وحده، ربّ السماوات والأرض ومُنشِئهما من العدم، ومُقدِّر آجالهما ومالِك المُلك فيهما ـ ﴿وَهُوَ ٱلَّذِی فِی ٱلسَّمَاۤءِ إِلَـٰهࣱ وَفِی ٱلۡأَرۡضِ إِلَـٰهࣱۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِیمُ ٱلۡعَلِیمُ ﴿٨٤﴾ وَتَبَارَكَ ٱلَّذِی لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَا وَعِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾.
ثانيًا: عرض القرآن المصيرَ البائس الذي ينتظر هؤلاء المُكذّبين؛ حيث سيكفر بعضهم ببعض، ويخاصم بعضهم بعضًا، وينسَون ما كان بينهم من صلاتٍ وقراباتٍ ﴿ٱلۡأَخِلَّاۤءُ یَوۡمَىِٕذِۭ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلۡمُتَّقِینَ﴾ فالمُتَّقون هم المُستثنون من هذا العذاب، ثم يُرمى بأولئك المشركين المتخاصمين في نار جهنم؛ حيث لا يُفتَّرُ عنهم العذاب ولا هم يُرحمون ﴿إِنَّ ٱلۡمُجۡرِمِینَ فِی عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـٰلِدُونَ ﴿٧٤﴾ لَا یُفَتَّرُ عَنۡهُمۡ وَهُمۡ فِیهِ مُبۡلِسُونَ﴾ وهناك يستغيثون بخزنة النار فلا يردون عليهم إلَّا بما يُخزيهم ﴿وَنَادَوۡاْ یَـٰمَـٰلِكُ لِیَقۡضِ عَلَیۡنَا رَبُّكَۖ قَالَ إِنَّكُم مَّـٰكِثُونَ﴾.
ثالثًا: أكَّدَ القرآن مبدأ العدل الإلهي؛ فهؤلاء المُجرِمون إنّما أَودَى بهم جُرمُهم وظُلمُهم ﴿وَمَا ظَلَمۡنَـٰهُمۡ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ فقد كانت أعمالهم تُدوَّن عليهم، حتى وهم يتناجَون في السرِّ، ويمكُرُون في الخفاء ﴿لَقَدۡ جِئۡنَـٰكُم بِٱلۡحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَكُمۡ لِلۡحَقِّ كَـٰرِهُونَ ﴿٧٨﴾ أَمۡ أَبۡرَمُوۤاْ أَمۡرࣰا فَإِنَّا مُبۡرِمُونَ ﴿٧٩﴾ أَمۡ یَحۡسَبُونَ أَنَّا لَا نَسۡمَعُ سِرَّهُمۡ وَنَجۡوَىٰهُمۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَیۡهِمۡ یَكۡتُبُونَ﴾
رابعًا: وقد كشَفَ القرآن جانِبًا من تناقُضاتهم ليبيِّن أنّ ما ذهبوا إليه من الشرك والوثنية لم يكن عن اجتهادٍ ونظرٍ عقليٍّ، بل هو الهوى والعناد والمُكابرة ﴿وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَهُمۡ لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ یُؤۡفَكُونَ ﴿٨٧﴾ وَقِیلِهِۦ یَـٰرَبِّ إِنَّ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ قَوۡمࣱ لَّا یُؤۡمِنُونَ ﴿٨٨﴾ فَٱصۡفَحۡ عَنۡهُمۡ وَقُلۡ سَلَـٰمࣱۚ فَسَوۡفَ یَعۡلَمُونَ﴾.
خامسًا: قطع القرآن عليهم طريق الشفاعة تلك التي كانوا يرجونها من أصنامهم جهلًا وغرورًا ومكابرةً ﴿وَلَا یَمۡلِكُ ٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَـٰعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ﴾.
سادسًا: في مُقابل تلك الصورة المُظلِمة القاتِمة، يعرِض القرآن صورةَ المؤمنين المُتَّقين وهم ينعمون برضا الله تعالى والجَنَّة التي كانوا يسعَون لها، ويعملون مِن أجلها ﴿یَـٰعِبَادِ لَا خَوۡفٌ عَلَیۡكُمُ ٱلۡیَوۡمَ وَلَاۤ أَنتُمۡ تَحۡزَنُونَ ﴿٦٨﴾ یَـٰعِبَادِ لَا خَوۡفٌ عَلَیۡكُمُ ٱلۡیَوۡمَ وَلَاۤ أَنتُمۡ تَحۡزَنُونَ ﴿٦٩﴾ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ أَنتُمۡ وَأَزۡوَ ٰ⁠جُكُمۡ تُحۡبَرُونَ ﴿٧٠﴾ یُطَافُ عَلَیۡهِم بِصِحَافࣲ مِّن ذَهَبࣲ وَأَكۡوَابࣲۖ وَفِیهَا مَا تَشۡتَهِیهِ ٱلۡأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلۡأَعۡیُنُۖ وَأَنتُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ ﴿٧١﴾ وَتِلۡكَ ٱلۡجَنَّةُ ٱلَّتِیۤ أُورِثۡتُمُوهَا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ﴿٧٢﴾ لَكُمۡ فِیهَا فَـٰكِهَةࣱ كَثِیرَةࣱ مِّنۡهَا تَأۡكُلُونَ﴾.


﴿هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّا ٱلسَّاعَةَ﴾ أي: هل ينتظرون إلَّا وقوع الساعة، والتعبير بـ ﴿یَنظُرُونَ﴾ مُشعِرٌ بقُربها وخطرها أكثر.
﴿أَن تَأۡتِیَهُم بَغۡتَةࣰ﴾ أي: فجأة وهم غافلون عنها.
﴿ٱلۡأَخِلَّاۤءُ یَوۡمَىِٕذِۭ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلۡمُتَّقِینَ﴾ أولئك الأخلَّاء الذين اجتمعوا على الباطل، سينقَلِبون يوم القيامة أعداء، وسيتبرَّأ بعضهم من بعض، أما المُتَّقون فيزدادون أُلفةً ومحبّةً.
﴿تُحۡبَرُونَ﴾ تُسَرُّون.
﴿یُطَافُ عَلَیۡهِم بِصِحَافࣲ مِّن ذَهَبࣲ وَأَكۡوَابࣲۖ﴾ فالصِّحاف للطعام، والأكواب للشراب، فأهل الجنّة لا يُعِدُّون لأنفسهم طعامًا ولا شرابًا، وإنّما يُطاف عليهم به.
﴿وَفِیهَا مَا تَشۡتَهِیهِ ٱلۡأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلۡأَعۡیُنُۖ﴾ فهذه نعمةٌ متكاملةٌ تجتمع فيها اللذة الباطنة باللذة الظاهرة، وطِيب المخبر بحسن المظهر.
﴿أُورِثۡتُمُوهَا﴾ بمعنى: أُعطِيتُمُوها خالصةً لكم، كما يُعطَى الورثة ما يستحِقُّونه من الإرث.
﴿بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ أي: جزاء أعمالكم الصالحة، وفيه تأكيدٌ للعدل الإلهي؛ فهؤلاء المُتَّقُون إنّما ورِثُوا الجنَّة بتَقوَاهم وبعَمَلِهم الصالح، وليس بأنسابِهم وأحسابِهم، ولا بجَاهِهِم وأموالِهِم.
﴿وَهُمۡ فِیهِ مُبۡلِسُونَ﴾ آيِسُون، والحديثُ هنا عن أهل النار، فلا أمَلَ لهم بانتِهائه ولا بالخروجِ منه.
﴿وَمَا ظَلَمۡنَـٰهُمۡ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ تأكيدٌ للعدل الإلهي، فالله سبحانه لا يظلم أحدًا، وإنَّما هو حصادُ ما زرَعُوه لأنفسهم.
﴿وَنَادَوۡاْ یَـٰمَـٰلِكُ﴾ يستشفعون بمالِك، وهو خازن النار.
﴿لِیَقۡضِ عَلَیۡنَا رَبُّكَۖ﴾ والقضاء هنا معناه: الإماتة، كما قال في قصة موسى عليه السلام: ﴿فَوَكَزَهُۥ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَیۡهِۖ﴾ [القصص: 15]، فهؤلاء الأشقياء يستشفعون بمالِكٍ إلى مولاه لعلَّه يُمِيتُهم ويُخلِّصُهم من هذا العذاب.
﴿قَالَ إِنَّكُم مَّـٰكِثُونَ﴾ أي: باقون ومُخَلَّدون، فيزيدهم هذا عذابًا أكبر مما هم فيه من العذاب.
﴿وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَكُمۡ لِلۡحَقِّ كَـٰرِهُونَ﴾ مع أنَّ الفِطرة تقتضي قبولَ الحق، إلَّا أنَّ هؤلاء لا يَرَون في الحقِّ إلا سَلبًا لمكاسِبِهم، ومنعًا لشهَوَاتهم، وتكديرًا لِلَهوِهم وعَبَثِهم، ومِن ثَمَّ فهم يكرَهُونه كلَّ هذا الكُرْه.
﴿أَمۡ أَبۡرَمُوۤاْ أَمۡرࣰا﴾ أي: هل أحكَموا خطةً للنَّيل من محمدٍ ودعوته وصحابته؟
﴿فَإِنَّا مُبۡرِمُونَ﴾ أي: فإنَّا سنُقابِل كيدَهم هذا بما يُناسِبُه، وفي هذا تهديدٌ لا يَخفَى.
﴿بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَیۡهِمۡ یَكۡتُبُونَ﴾ أي: بلى نحن نسمَعُ سِرَّهم ونَجوَاهم، ولدينا الملائكة المُوكَّلُون بحفظ كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من أجل إقامة الحُجَّة عليهم.
﴿قُلۡ إِن كَانَ لِلرَّحۡمَـٰنِ وَلَدࣱ فَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡعَـٰبِدِینَ﴾ هذا على سبيل المُحاجَجَة، بمعنى أنّه لو جازَ على قولكم أن يكون لله ولد ثم أثبتم ذلك بالبرهان، لكنت أوّل المطيعين له، ولما ترفَّعت عن عبادته كما تترفَّعون أنتم عن عبادة الله مع إيمانكم بوجوده، وأنّه هو الذي خلقكم وخلق السماوات والأرض، واستدراج النصارى ومن يقول ببنوّة الملائكة لله إلى هذه المحاججة إنّما قُصِد به تعريتهم وإبطال حُجّتهم.
﴿سُبۡحَـٰنَ رَبِّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبِّ ٱلۡعَرۡشِ عَمَّا یَصِفُونَ﴾ هذا التأكيد لتوحيد الله وتنزيهه بعد تلك المُحاجَجَة قصد به دفع توهُّم أنّ ذلك الافتراض الوارِد في المُحاجَجَة قد يكون مُحتملًا أو له حظٌّ من النظر، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
﴿فَذَرۡهُمۡ یَخُوضُواْ وَیَلۡعَبُواْ﴾ أي: ليخوضوا ويلعبوا، على سبيل التهديد، كقوله تعالى: ﴿ٱعۡمَلُواْ مَا شِئۡتُمۡ﴾ [فصلت: 40]، وفيه أنّ ما هم فيه ليس دينًا، ولا اجتهادًا أو نظرًا محترمًا، بل هو الخوض في الباطل واللعب، لا غير.
﴿وَهُوَ ٱلَّذِی فِی ٱلسَّمَاۤءِ إِلَـٰهࣱ وَفِی ٱلۡأَرۡضِ إِلَـٰهࣱۚ﴾ أي: هو النافِذُ أمره في السماء والأرض، والمُستحِقُّ للعبادة وحدَه من أهل السماء وأهل الأرض، ولا يمكن أن تكون السماء والأرض ظَرفًا لله - تعالى الله عن ذلك -، فالله أجَلُّ من ذلك وأعظم.
وما السماءُ بما فيها والأرض بما فيها إلَّا خلقٌ من خلقه، وكلّ خلقه محتاجٌ إليه، وليس هو سبحانه بحاجةٍ إلى أحدٍ من خلقه، والمقصود بالآية: نفي الشريك عن الله في الأرض كما يزعم المشركون بأصنامهم، ونفي الشريك عن الله في السماء كما يزعمون بالملائكة.
﴿وَعِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ﴾ فلا يعلم وقت وقوعها غيره ـ.
﴿وَلَا یَمۡلِكُ ٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَـٰعَةَ﴾ نفيٌ للشفاعة التي يتوَهَّمُها المشركون في أصنامهم، والتي هي مبعَثُ عبادتهم لها.
﴿إِلَّا مَن شَهِدَ بِٱلۡحَقِّ﴾ استِثناء للملائكة وبعض النبيين الذين عُبِدُوا من دون الله جهلًا وظلمًا، فهؤلاء يشهدون لله بالحقِّ، ويشفعون، لكنّهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى.
﴿فَأَنَّىٰ یُؤۡفَكُونَ﴾ فأنّى يُصرَفون عن هذا الحقّ.
﴿وَقِیلِهِۦ یَـٰرَبِّ إِنَّ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ قَوۡمࣱ لَّا یُؤۡمِنُونَ﴾ هو قولُ محمدٍ مُفوِّضًا أمرَ هؤلاء المُعانِدين إلى ربِّه، شاكِيًا له صدودهم وإعراضهم، ويجوز في (قِيلِهِ) أن يكون مصدرًا لفعلٍ مُقدَّرٍ، أي: وقال قِيلَهُ، أو يكون مفعولًا به بمعنى أنّ الله يسمَعُ سرَّهم ونَجوَاهم، ويسمَعُ قِيلَهُ، والمعنى بِكِلَا التقديرَين واحدٌ، والله أعلم.
﴿فَٱصۡفَحۡ عَنۡهُمۡ﴾ أي: فأعرِض عنهم ولا تنشَغِل بهم، والكلام عن النَّفَر المُعانِدين الذين علِمَ الله أنّهم لن يؤمنوا، وليس عن كلِّ الكافرين، ففي الأرض مُتَّسعٌ كبيرٌ لهذه الدعوة المباركة.
﴿وَقُلۡ سَلَـٰمࣱۚ﴾ أي: نُسالِمُكم فلا نُجادِلُكم، ولا نُخاصِمُكم، وهي كلمةٌ جميلةٌ حتى مع أولئك المُعاندين؛ تليينًا لقلوبِهم، واتِّقاءً لشرِّهم.
﴿فَسَوۡفَ یَعۡلَمُونَ﴾ ما ينتظرهم نتيجة تكذيبهم وظُلمهم وعنادهم.