سورة الدخان تفسير مجالس النور الآية 21

وَإِن لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ لِی فَٱعۡتَزِلُونِ ﴿٢١﴾

تفسير مجالس النور سورة الدخان

المجلس الحادي والعشرون بعد المائتين: ولقد فتنَّا قبلهم قوم فرعون


الآية (17- 37)


في هذه الآيات يختار القرآن مثلًا لهؤلاء المشركين المُعاندين، مثل فرعون وقومه، وموقفهم من رسالة موسى عليه السلام ثم ما حصل لهم من عذاب وخراب:
أولًا: ذكَّرَ القرآن برسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه؛ حيث دعاهم إلى إطلاق القوم المُضطهدين - وهم بنو إسرائيل - وتحريرهم من نَيْر العبودية الفرعونيَّة، ثم دعا الفراعنة أنفسهم لطاعة الله، وترك التعالي والتكبُّر على الحقِّ، وإلا فليتركوه وشأنه ولا يتعرَّضوا له ولدعوته بالأذى ﴿۞ وَلَقَدۡ فَتَنَّا قَبۡلَهُمۡ قَوۡمَ فِرۡعَوۡنَ وَجَاۤءَهُمۡ رَسُولࣱ كَرِیمٌ ﴿١٧﴾ أَنۡ أَدُّوۤاْ إِلَیَّ عِبَادَ ٱلـلَّــهِۖ إِنِّی لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِینࣱ ﴿١٨﴾ وَأَن لَّا تَعۡلُواْ عَلَى ٱلـلَّــهِۖ إِنِّیۤ ءَاتِیكُم بِسُلۡطَـٰنࣲ مُّبِینࣲ ﴿١٩﴾ وَإِنِّی عُذۡتُ بِرَبِّی وَرَبِّكُمۡ أَن تَرۡجُمُونِ ﴿٢٠﴾ وَإِن لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ لِی فَٱعۡتَزِلُونِ﴾.
ثانيًا: أصرَّ الفراعنة على موقفهم الظالم الآثم، ولحِقُوا بموسى والمؤمنين معه بعد أن تركوا لهم أرضَهم وسلطانَهم ﴿فَدَعَا رَبَّهُۥۤ أَنَّ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ قَوۡمࣱ مُّجۡرِمُونَ ﴿٢٢﴾ فَأَسۡرِ بِعِبَادِی لَیۡلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ﴿٢٣﴾ وَٱتۡرُكِ ٱلۡبَحۡرَ رَهۡوًاۖ إِنَّهُمۡ جُندࣱ مُّغۡرَقُونَ ﴿٢٤﴾ كَمۡ تَرَكُواْ مِن جَنَّـٰتࣲ وَعُیُونࣲ ﴿٢٥﴾ وَزُرُوعࣲ وَمَقَامࣲ كَرِیمࣲ ﴿٢٦﴾ وَنَعۡمَةࣲ كَانُواْ فِیهَا فَـٰكِهِینَ ﴿٢٧﴾ كَذَ ٰ⁠لِكَۖ وَأَوۡرَثۡنَـٰهَا قَوۡمًا ءَاخَرِینَ ﴿٢٨﴾ فَمَا بَكَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلسَّمَاۤءُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِینَ﴾.
وهكذا انتهت قصّة الصراع بين الفئة المؤمنة على استضعافها وفقرها وقلة حيلتها، وبين الفئة الطاغية المُتجبِّرة؛ حيث أغرقهم الله جميعًا، فكانوا عبرة لكلِّ مُعتبِر.
ثالثًا: اصطفى الله تلك الثُّلَّة التي آمنت بموسى ورسالته واختارهم على علمٍ على العالمين، وفي هذا إشارةٌ مبشِّرةٌ للثُّلَّة التي آمنت بمحمدٍ أنَّ الله سيصطَفِيهم وسيُمكِّن لهم دينهم ﴿وَلَقَدۡ نَجَّیۡنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ مِنَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِینِ ﴿٣٠﴾ مِن فِرۡعَوۡنَۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَالِیࣰا مِّنَ ٱلۡمُسۡرِفِینَ ﴿٣١﴾ وَلَقَدِ ٱخۡتَرۡنَـٰهُمۡ عَلَىٰ عِلۡمٍ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿٣٢﴾ وَءَاتَیۡنَـٰهُم مِّنَ ٱلۡـَٔایَـٰتِ مَا فِیهِ بَلَـٰۤؤࣱاْ مُّبِینٌ﴾.
رابعًا: قارَنَ القرآن بين هؤلاء المشركين وما ينتظرهم جزاءَ ظُلمهم وتكذيبهم وبين أسلافهم من المشركين ﴿إِنَّ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ لَیَقُولُونَ ﴿٣٤﴾ إِنۡ هِیَ إِلَّا مَوۡتَتُنَا ٱلۡأُولَىٰ وَمَا نَحۡنُ بِمُنشَرِینَ ﴿٣٥﴾ فَأۡتُواْ بِـَٔابَاۤىِٕنَاۤ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ ﴿٣٦﴾ أَهُمۡ خَیۡرٌ أَمۡ قَوۡمُ تُبَّعࣲ وَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ أَهۡلَكۡنَـٰهُمۡۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ مُجۡرِمِینَ﴾ فهذه الأقوام التي أهلكها الله إنما أهلكَهم لأنَّهم كانوا يقولون بما يقوله هؤلاء المشركون اليوم من تشكيكهم بالوحي، وتكذيبهم بيوم الحساب.


﴿۞ وَلَقَدۡ فَتَنَّا قَبۡلَهُمۡ قَوۡمَ فِرۡعَوۡنَ﴾ أي: اختَبَرنا قوم فرعون قبل هؤلاء المشركين، والتذكير بفرعون في هذا السياق تنبيهٌ إلى التشابُه بينهم في العِناد والمُكابَرة والمُراوَغة.
﴿أَنۡ أَدُّوۤاْ إِلَیَّ عِبَادَ ٱلـلَّــهِۖ﴾ هذا قولُ موسى عليه السلام يطلُبُ فيه مِن فرعون أن يُسلِّمَه بني إسرائيل ويسمح لهم بمغادرة مصر.
﴿بِسُلۡطَـٰنࣲ مُّبِینࣲ﴾ بحجّة ظاهرة.
﴿فَأَسۡرِ بِعِبَادِی لَیۡلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾ هذا توجيهُ الله تعالى لموسى عليه السلام أن يخرج بقومه ليلًا حتى لا يعلم بهم فرعون؛ لأنّهم خارجون عنه بغير إذنٍ منه، وقوله: ﴿إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾ أي: سيتبَعكم فرعون وجُنده.
﴿وَٱتۡرُكِ ٱلۡبَحۡرَ رَهۡوًاۖ﴾ أي: مفتوحًا؛ حيث الفجوَة التي أحدَثَها الله وسط البحر بضربة موسى عليه السلام والتي عبَرَ منها موسى وقومه.
﴿إِنَّهُمۡ جُندࣱ مُّغۡرَقُونَ﴾ حيث سيلتَئِم البحر عليهم، وقد كان ذلك كما أخبر ربُّنا سبحانه، فغرق في هذه الفجوة فرعون وجنده.
﴿كَمۡ تَرَكُواْ مِن جَنَّـٰتࣲ وَعُیُونࣲ﴾ أي: كمْ ترَكَ فرعون وقومه في أرض مصر من بساتين وعيون كثيرة، إشارة إلى النعيم الذي كانوا يتمتَّعون به.
﴿كَذَ ٰ⁠لِكَۖ وَأَوۡرَثۡنَـٰهَا قَوۡمًا ءَاخَرِینَ﴾ أي: أورَثنا مصرَ لملوك آخرين بعد غرق فرعون، وهؤلاء الملوك هم مِن مصر أيضًا وليسوا من بني إسرائيل؛ لأنّ بني إسرائيل لم يعودُوا ثانيةً إلى مصر بعد أن خرَجُوا منها، والله أعلم.
﴿فَمَا بَكَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلسَّمَاۤءُ وَٱلۡأَرۡضُ﴾ هذا على سبيل التحقير لهم، بمعنى أنّهم هلَكُوا كما هلَكَ من قبلهم، فلم تَحزَن عليهم السماء، ولم تَحزَن عليهم الأرض، بل استمرّت الحياة كما كانت ولم تتغيَّر.
﴿وَمَا كَانُواْ مُنظَرِینَ﴾ أي: وما كانوا مؤخَّرين عن هذا الهلاك الذي جاءهم بالأجل الذي قدَّره الله لهم.
﴿وَلَقَدۡ نَجَّیۡنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ مِنَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِینِ﴾ بخروجهم من مصر، وبهلاك فرعون الذي كان يسومهم سوء العذاب.
﴿وَلَقَدِ ٱخۡتَرۡنَـٰهُمۡ عَلَىٰ عِلۡمٍ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ أي: اصطَفَيناهم وفضَّلنَاهم على العالمين بعلمٍ منَّا، فالله أعلم حيث يجعلُ رسالته، ومن أين يختار لها حمَلَتها، والمقصود بالعالمين هنا: الذين كانوا في زمانهم، أمَّا بعد البعثة المُحمديَّة فإن الله اختارَ هذه الأمة، واختارَ مِن هذه الأمة أولئك الصحابة الأبرار رضي الله عنهم وأرضاهم.
﴿وَءَاتَیۡنَـٰهُم مِّنَ ٱلۡـَٔایَـٰتِ مَا فِیهِ بَلَـٰۤؤࣱاْ مُّبِینٌ﴾ البلاء هنا معناه: التمحيص والتطهير والتزكية؛ إذ البلاء يكون في الخير كما يكون في الشر ﴿وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَیۡرِ فِتۡنَةࣰۖ﴾ [الأنبياء: 35].
﴿وَمَا نَحۡنُ بِمُنشَرِینَ﴾ أي: وما نحن بمبعُوثين للحساب.
﴿فَأۡتُواْ بِـَٔابَاۤىِٕنَاۤ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾ هذه حجّة المشركين في إنكارهم للبعث، بمعنى أنّهم لا يريدون أن يؤمنوا بالبعث إلَّا بعد أن يرَوه عيانًا، وهذا من سقيم الرأي؛ فالعقول السليمة تبني المقدِّمات، وتستخرج النتائج الصادقة، ولا تتوقف عن القياس والاستنتاج إذا غاب الشيء عن الحواس، فالذي يرى بناءً أثريًّا يجزمُ بوجود بَنَّاء بنَاه وإن كان لا يراه.
﴿أَهُمۡ خَیۡرٌ أَمۡ قَوۡمُ تُبَّعࣲ وَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ أَهۡلَكۡنَـٰهُمۡۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ مُجۡرِمِینَ﴾ هذا تخويفٌ آخر لمُشرِكِي العرب أنّ مصيرهم لن يكون بأفضل من مصير الأمم المكذِّبة السابقة إن هم استمرُّوا في عنادهم وتكذيبهم، وتُبَّع هو مَلِكُ اليمن، كما أنّ فرعون هو مَلِكُ مصر، وقد عُرِفَ قومُ تُبَّع بالقوّة، وهذا معنى خيريَّتهم، فـ ﴿خَیۡرٌ﴾ هنا لمقارنة قوة قريش بقوة تُبَّع، كأنّه يقول: أهُم أقوى أم قوم تُبَّع؟