سورة الجاثية تفسير مجالس النور الآية 25

وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتُنَا بَیِّنَـٰتࣲ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمۡ إِلَّاۤ أَن قَالُواْ ٱئۡتُواْ بِـَٔابَاۤىِٕنَاۤ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ ﴿٢٥﴾

تفسير مجالس النور سورة الجاثية

المجلس الرابع والعشرون بعد المائتين: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق


الآية (22- 37)


بعد بيان هذه البصائر للناس وكيف اختلفوا فيها كما اختلف الذين من قبلهم، جاء الشطرُ الثاني من هذه السورة ليبيِّن عاقبة الفريقَين: المؤمنين والمكذِّبين؛ فكلٌّ سيجِدُ ما قدَّم لنفسه في كتابٍ لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرةً، إنّه الكتاب الذي يملَؤُه المرءُ بنفسه إن خيرًا، وإن شرًّا:
أولًا: بيان القانون العدل الذي يُقضَى به بين الناس ﴿أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِینَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّیِّـَٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَوَاۤءࣰ مَّحۡیَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَاۤءَ مَا یَحۡكُمُونَ ﴾.
فالميزان إنّما هو ميزان العمل، وليس هناك شيءٌ آخر، والعمل ميدان مفتوح للتنافس، ويتمايَزُ فيه الناس بحسب جهدهم وما يُقدِّمونه لأنفسهم، بخلاف الموازين الأخرى؛ كالجنس، واللون، والقوميَّة، والقبيلة؛ والتي لا يقدِرُ الناس على تغييرها ولا تعديلها.
ثانيًا: بيان أنّ هذا القانون متَّسقٌ مع سنن الله الكونيَّة القائمة على العلم والحكمة والنظام الدقيق ﴿وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّ وَلِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ ﴾.
ثالثًا: بيان حال الكافرين المُكذِّبين وهم يعبدون أهواءهم، ويُغلقون أسماعهم وأبصارهم عن كلمة الحقِّ ﴿أَفَرَءَیۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمࣲ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَـٰوَةࣰ فَمَن یَهۡدِیهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾.
ثم يعرض شُبهةً من الشبهات التي يتمسَّكون بها وهم ينأَون عن الوحي ويصدُّون عنه ﴿وَقَالُواْ مَا هِیَ إِلَّا حَیَاتُنَا ٱلدُّنۡیَا نَمُوتُ وَنَحۡیَا وَمَا یُهۡلِكُنَاۤ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ وَمَا لَهُم بِذَ ٰ⁠لِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا یَظُنُّونَ ﴿٢٤﴾ وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتُنَا بَیِّنَـٰتࣲ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمۡ إِلَّاۤ أَن قَالُواْ ٱئۡتُواْ بِـَٔابَاۤىِٕنَاۤ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾.
رابعًا: تأكيد الوعد الحق بقيام الساعة واستعداد الخلائق كلّها ليوم الحساب ﴿قُلِ ٱللَّهُ یُحۡیِیكُمۡ ثُمَّ یُمِیتُكُمۡ ثُمَّ یَجۡمَعُكُمۡ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ لَا رَیۡبَ فِیهِ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ ﴿٢٦﴾ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَیَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ یَوۡمَىِٕذࣲ یَخۡسَرُ ٱلۡمُبۡطِلُونَ﴾ وفي هذا ردٌّ على تلك الشبهة البائِسة، فالله الذي خلق الحياة من العدم أقدَر على إعادتها مرة ثانية، هذا هو منطق العقل لو كانوا يعلمون.
خامسًا: تأكيد أنّ عمل الناس كلّه محفوظٌ وموثَّقٌ، وعليه يكون الحساب، وبه تقوم الحجّة ﴿وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةࣲ جَاثِیَةࣰۚ كُلُّ أُمَّةࣲ تُدۡعَىٰۤ إِلَىٰ كِتَـٰبِهَا ٱلۡیَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ﴿٢٨﴾ هَـٰذَا كِتَـٰبُنَا یَنطِقُ عَلَیۡكُم بِٱلۡحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسۡتَنسِخُ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ﴾.
سادسًا: تأكيد أنّ الفائزين هناك إنّما هم أولئك الذين استعدُّوا لذلك اليوم، وأخذوا له أُهبَتَه ﴿فَأَمَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَیُدۡخِلُهُمۡ رَبُّهُمۡ فِی رَحۡمَتِهِۦۚ ذَ ٰ⁠لِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡمُبِینُ ﴾.
سابعًا: أما الخاسرون فإنّما هم أولئك المستكبرون المستهزئون الذين أعماهم تكبُّرهم عن سماع كلمة الحقِّ، وغرَّهم المتاع الزائل في هذه الحياة الدنيا عن مصيرهم الذي ينتظرهم في حياتهم الأخرى، هناك تتجلَّى لهم الحقيقة كاملة، وتظهر لهم سيئات أعمالهم، ويندمون حيث لا ينفع الندم ﴿وَأَمَّا ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤاْ أَفَلَمۡ تَكُنۡ ءَایَـٰتِی تُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡ فَٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ وَكُنتُمۡ قَوۡمࣰا مُّجۡرِمِینَ ﴿٣١﴾ وَأَمَّا ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤاْ أَفَلَمۡ تَكُنۡ ءَایَـٰتِی تُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡ فَٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ وَكُنتُمۡ قَوۡمࣰا مُّجۡرِمِینَ ﴿٣٢﴾ وَبَدَا لَهُمۡ سَیِّـَٔاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ ﴿٣٣﴾ وَقِیلَ ٱلۡیَوۡمَ نَنسَىٰكُمۡ كَمَا نَسِیتُمۡ لِقَاۤءَ یَوۡمِكُمۡ هَـٰذَا وَمَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّـٰصِرِینَ ﴿٣٤﴾ ذَ ٰ⁠لِكُم بِأَنَّكُمُ ٱتَّخَذۡتُمۡ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ هُزُوࣰا وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۚ فَٱلۡیَوۡمَ لَا یُخۡرَجُونَ مِنۡهَا وَلَا هُمۡ یُسۡتَعۡتَبُونَ ﴾.
ثامنًا: وفي ختام السورة يُمجِّدُ الله نفسه، فهو سبحانه المستحقُّ للحمد في السماوات والأرض وله الكبرياء فيهما، وهو العزيز الحكيم ﴿فَلِلَّهِ ٱلۡحَمۡدُ رَبِّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَرَبِّ ٱلۡأَرۡضِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿٣٦﴾ وَلَهُ ٱلۡكِبۡرِیَاۤءُ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ ﴾.


﴿ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّیِّـَٔاتِ ﴾ اكتَسَبُوا السيئات بفعلِهم وإرادتهم.
﴿سَوَاۤءࣰ مَّحۡیَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ ﴾ سؤالٌ استنكاريٌّ، يقصد به إنكار أن تكون حياة المؤمنين كحياة الكافرين؛ فحياةُ المؤمنين هادفةٌ ثابتةٌ مُطمئنَّةٌ، وحياةُ الكافرين آثِمةٌ عابِثةٌ ظالمةٌ مُضطربةٌ، وإذا كان هذا في الحياة فما بعد الممات أشد افتراقًا وتفاوُتًا.
﴿ وَلِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ﴾ تأكيدٌ لعقيدة العدل الإلهي وأنّه سبحانه ليس بظلَّامٍ للعبيد.
﴿أَفَرَءَیۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُۥ هَوَىٰهُ﴾ هذا هو الصنَم الخفيُّ الذي يعبُدُه هؤلاء المشركون، إنّه الهوى الذي يصُدُّهم عن الحقِّ ولو نزَلَت به الآيات، وقامَت عليه البيِّنات، والهوى درجات أو دركات، ولا تكاد تخلُو منه نفس، وإنّما العبرة بغلبة الحال، والقدرة على الأَوبَة بعد الحَوبَة من عَدَمِها، والمؤمنُ إلى خيرٍ ما نازَعَ في الحقِّ هواه ولو زلَّ وأخطأ، والله أعلم وأرحم.
﴿وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمࣲ﴾ أي: أضَلَّه الله مع ما هو عليه من العلم، والله سبحانه لا يُضِلُّ إلَّا من طلَبَ الضلالةَ وسعَى لها، والعلمُ سبيلٌ للهداية، لكنّه مع غلَبَة الهوى واشتعال نار الحسد لا ينفع صاحبه بشيءٍ.
﴿ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَـٰوَةࣰ﴾ هذا من لوازم التكبُّر والمُكابَرة، ونسبة الختم إلى الله إنّما كان بحكم إرادة الله المطلقة التي لا تنفصل عن عدله وحكمته، والله لا يظلم أحدًا، لكنها الأسباب والسُّنن التي وضعها الله في هذا الكون، فمن طلب الهدى هداه الله، ومن تكبَّرَ أضلَّه الله، تمامًا كالذي يأخذ الدواء فيشفى، ويأخذ السمّ فيردى، وقد ذكر السمع والقلب والبصر؛ تأكيدًا أنَّ هؤلاء قد عطَّلوا كلَّ منافذ المعرفة لديهم.
﴿وَقَالُواْ مَا هِیَ إِلَّا حَیَاتُنَا ٱلدُّنۡیَا ﴾ أي: ليست الحياة إلَّا هذه الحياة الدنيا، أي: أنّهم يُنكِرون الآخرة.
﴿وَمَا یُهۡلِكُنَاۤ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ ﴾ أي: ليس الموت سوى انقضاء الأيّام والليالي، والأيام لا تعود، وهذا كلّه تنوُّع في عباراتهم التي تدلُّ على كفرهم بالحياة الآخرة.
﴿مَّا كَانَ حُجَّتَهُمۡ إِلَّاۤ أَن قَالُواْ ٱئۡتُواْ بِـَٔابَاۤىِٕنَاۤ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ ﴾ تقدَّم مثل قولهم هذا في سورة الدخان، وقلنا هناك: إنّ هذه حُجَّة المشركين في إنكارهم للبعث، بمعنى أنّهم لا يريدون أن يؤمنوا بالبعث إلا بعد أن يرَوه عيانًا، وهذا من سَقِيم الرأي، فالعقول السليمة تبني المُقدِّمات، وتستخرج النتائج الصادقة، ولا تتوقف عن القياس والاستنتاج إذا غابَ الشيء عن الحواس، فالذي يرى بِنَاءً أثريا يجزم بوجود بَنّاء بَناه وإن كان لا يراه.
﴿وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةࣲ جَاثِیَةࣰۚ﴾ كلّ مجموعة من الناس بارِكة على الرُّكَب تنتظر حكم الله فيها.
﴿ كُلُّ أُمَّةࣲ تُدۡعَىٰۤ إِلَىٰ كِتَـٰبِهَا﴾ أي: إلى أعمالها المحفوظة في كتاب كلِّ فردٍ من أفرادها، والذي يظهر من هذه الآية أنّ الحساب وإن كان فرديًّا أي: لكلِّ فردٍ كتابه، وعلى كلِّ فردٍ حسابه، إلَّا أنَّهم يُجمعون جمعًا على حسب الملَّة التي ينتسبون إليها، والله أعلم.
﴿هَـٰذَا كِتَـٰبُنَا یَنطِقُ عَلَیۡكُم بِٱلۡحَقِّ ۚ﴾ والكتاب هنا جنس الكتاب، أي: بمعنى الكتب؛ إذ لكلِّ فردٍ كتابه، و﴿یَنطِقُ ﴾ مجاز قصد به تشبيه الكتاب بالكلام المنطوق؛ لشدَّة ظهوره، وقوَّة حُجّته.
﴿إِنَّا كُنَّا نَسۡتَنسِخُ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ﴾ أي: نحفظ لكم أعمالكم في كتابٍ ظاهرٍ بيِّنٍ، ولم يذكر القرآن طريقة الحفظ هذه، ولا مانع من حفظ صورة الأعمال خاصَّة بعد أن تمكَّن البشر من حفظ الأعمال والحركات كما هي، ولا شكّ أنّ حفظ صورة العمل كما هي أقوى في الحُجَّة من تدوينها كتابةً، ولا مانع أيضًا من إطلاق اسم الكتاب على هذه المدوَّنة من الوثائق والمُستَنسَخَات، والله أعلم.
﴿وَأَمَّا ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤاْ ﴾ فيقال لهم: ﴿أَفَلَمۡ تَكُنۡ ءَایَـٰتِی تُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡ فَٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ ﴾ فجملةُ (يُقال لهم) مقدَّرة بمُقتضى السياق.
﴿وَقِیلَ ٱلۡیَوۡمَ نَنسَىٰكُمۡ كَمَا نَسِیتُمۡ لِقَاۤءَ یَوۡمِكُمۡ هَـٰذَا﴾ النسيان صفة نقص منفيَّة عن الله جَزمًا، وإنّما هذا على سبيل المشاكلة، بمعنى أنّ الله يترُكهم في العذاب، وسمَّى الترك نسيانًا؛ لأنّه يُناسِب جريمتهم في نسيان الآخرة وعدم الإيمان بها، أو الاستعداد لها.
﴿وَلَا هُمۡ یُسۡتَعۡتَبُونَ ﴾ ولا يُطلب منهم الاعتذار في مقابل الرضا والعفو عنهم.