سورة محمد تفسير مجالس النور الآية 32

إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَشَاۤقُّواْ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ لَن یَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَیۡـࣰٔا وَسَیُحۡبِطُ أَعۡمَـٰلَهُمۡ ﴿٣٢﴾

تفسير مجالس النور سورة محمد

المجلس الحادي والثلاثون بعد المائتين: ولنبلونَّكم حتى نعلمَ المجاهدين منكم والصابرين


الآية (31- 38)


يختتم القرآن هذه السورة العزيزة ببيان معنى الابتلاء وأنواعه وغاياته، وافتراق الناس فيه وما ينتظر كلّ فريقٍ، ويمكن تلخيص كلّ ذلك بما يأتي:
أولًا: بيان الحكمة والغاية من الابتلاء بشكلٍ عام ﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَـٰهِدِینَ مِنكُمۡ وَٱلصَّـٰبِرِینَ وَنَبۡلُوَاْ أَخۡبَارَكُمۡ﴾ فالتمايز بين الناس لا يكون من دون اختبارٍ، هذه سُنَّةٌ من سُنن الله في هذه الحياة لا تتخلَّف.
ثانيًا: بيانُ الحكمة من الابتِلاء في مجال الإنفاق خاصَّةً ﴿إِنَّمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا لَعِبࣱ وَلَهۡوࣱۚ وَإِن تُؤۡمِنُواْ وَتَـتَّـقُواْ یُؤۡتِكُمۡ أُجُورَكُمۡ وَلَا یَسۡـَٔلۡكُمۡ أَمۡوَ ٰ⁠لَكُمۡ ﴿٣٦﴾ إِن یَسۡـَٔلۡكُمُوهَا فَیُحۡفِكُمۡ تَبۡخَلُواْ وَیُخۡرِجۡ أَضۡغَـٰنَكُمۡ ﴿٣٧﴾ هَـٰۤأَنتُمۡ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ تُدۡعَوۡنَ لِتُنفِقُواْ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن یَبۡخَلُۖ وَمَن یَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا یَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِیُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَاۤءُۚ وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ یَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَیۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا یَكُونُوۤاْ أَمۡثَـٰلَكُم﴾.
فالله سبحانه إنّما يأمر الناس بالنفقة اختبارًا لهم أيضًا، وتمييزًا لمَن يطلب الآخرة بصدقٍ عن ذلك الذي يبخَلُ على نفسه، فيصُدّه بُخلُه عن مُنافسة الأخيار الكُرُماء، فالله سبحانه ليس مُحتاجًا لأحدٍ؛ فالسماءُ سماؤُه، والأرضُ أرضُه، والخلقُ خلقُه، والرزقُ رِزقُه، كما أنّه لا يطلب من الناس جميعَ أموالهم ولو على سبيل الاختبار، فهذا يشُقُّ عليهم ويُنافِي فِطرَتَهم، بل ويُنافِي وظيفةَ المال الذي أودَعَه الله عندهم.
ثالثًا: بيان المعيار الذي يُقاس فيه الفائز مِن الخاسر في كلِّ مجالات الابتلاء ﴿۞ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ أَطِیعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِیعُواْ ٱلرَّسُولَ وَلَا تُبۡطِلُوۤاْ أَعۡمَـٰلَكُمۡ﴾.
فالمُبتلى الناجح هو الذي يسأل عن حكم الله فينفّذه بحسب موقعه وقدرته، فإذا كان مطلوبًا من الغني الجود والإنفاق، فالمطلوب من الفقير القناعة والتعفُّف، وإذا كان مطلوبًا من العامة احترام العلماء وتبجيلهم، فالمطلوب من العلماء الصدق في الفتوى، وبذل الجهد في تحريرها، وإذا كان مطلوبًا من الآحاد السمع والطاعة لولي الأمر، فالمطلوب من وليِّ الأمر العدل والرحمة، وهكذا يكون الناس كلّهم في ابتلاءٍ، وبعضهم مُبتلى ببعض، ولكلِّ واحدٍ منهم حكمه، ومعيار نجاحه من فشله.
رابعًا: تحذير المؤمنين من التولِّي عن ميدان الاختبار هذا بالتولِّي عن طاعة الله وطاعة رسوله، والتخلِّي عن الأمانة وتحمُّل المسؤوليَّة ﴿وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ یَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَیۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا یَكُونُوۤاْ أَمۡثَـٰلَكُم﴾، كما تولَّى بنُو إسرائيل عن حمل الأمانة، فاستبدَلَ الله بهم هذه الأمَّة.
خامسًا: في مُقابِل هذه التوجيهات المُفصَّلَة للذين آمنوا، يأتي بيان حال الكافرين والمنافقين، أولئك الذين شاقُّوا اللهَ ورسولَه، ووقَفُوا الموقفَ المُعادِي لهذا الدين بالسِّرِّ أو بالعَلَن ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَشَاۤقُّواْ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ لَن یَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَیۡـࣰٔا وَسَیُحۡبِطُ أَعۡمَـٰلَهُمۡ﴾، ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارࣱ فَلَن یَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡ﴾.
ويلحظ هنا تأكيد القرآن ربط الكفر بالله بجريمة الصدِّ عن سبيل الله، في إشارةٍ أنّ المواجهة إنّما تكون مع هؤلاء فقط، أمَّا الآخرون الذين لا يصُدُّون عن سبيل الله، فمسلَكُنا معهم مسلَك الدعوة والحوار، والعمل بالمشتركات الحياتيَّة؛ كالصناعة، والزراعة، والتجارة، والمصالِح العامة.


﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَـٰهِدِینَ مِنكُمۡ وَٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ ولنختبرنَّكم بأنواع الاختبارات والابتلاءات، ونبلُو بعضكم ببعض حتى يظهر ما في علم الله عن أخباركم ومواقفكم، فعِلم الله أزليٌّ ثابتٌ لا يتجدَّد؛ لأنّه ليس علمًا كسبيًّا، وإنَّما هو ظهور هذا العلم في واقع الناس وحياتهم لإقامة الحُجَّة عليهم، ولا يظلم ربُّك أحدًا، وفي هذه الآية إعلاء لمقام المُجاهدين والصابرين.
﴿وَشَاۤقُّواْ ٱلرَّسُولَ﴾ خالَفوه وكذَّبوه، وأظهَروا عداوَتَه.
﴿وَسَیُحۡبِطُ أَعۡمَـٰلَهُمۡ﴾ أي: يُحبِط ما يُخطِّطُون له من مَكرٍ وكَيدٍ برسولِ الله ، ويُحبِط أيضًا ما كان لهم من عملٍ قد يُرجَى ثوابُه؛ كالصدقة، وإكرام الضيف؛ إذ الشرك مُبطِلٌ لثواب العمل ولو كان العمل بنفسه صالحًا.
﴿۞ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ أَطِیعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِیعُواْ ٱلرَّسُولَ﴾ فَصَلَ بينهما للتأكيد والتنبيه، وإلا فطاعة الرسول هي من طاعة الله؛ إذ هو المبلِّغ عن الله، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، إنْ هو إلَّا وحيٌ يُوحى، وفي هذا كفايةٌ للاحتجاج بسُنَّته ؛ فهي المكمِّلة للقرآن، والمبيِّنة له، والمفصِّلة لأحكامه وطريقة تطبيقها وتنزيلها في الواقع.
﴿وَلَا تُبۡطِلُوۤاْ أَعۡمَـٰلَكُمۡ﴾ بالارتِداد وطاعة الكافرين وموالاتهم.
﴿فَلَا تَهِنُواْ وَتَدۡعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلۡمِ﴾ هذا توجيهٌ للجُند المقاتلين وقيادتهم ألّا يطلبوا السَّلْمَ من عدوِّهم بناء على الوهن والشعور بالضعف، وعدم الرغبة بالمقاومة.
﴿وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ﴾ بإيمانكم واستعدادكم ووحدة صفِّكم.
﴿وَٱللَّهُ مَعَكُمۡ﴾ بتسديده وتأييده ونصره.
﴿وَلَن یَتِرَكُمۡ أَعۡمَـٰلَكُمۡ﴾ ولن ينقصكم مِن جهدِكم شيئًا، ولا مِن جزائِكم وثوابِكم.
﴿إِنَّمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا لَعِبࣱ وَلَهۡوࣱۚ﴾ أي: إذا تجرَّدت من معاني الإيمان بالغيب وعمل الآخرة، فإنّها تبدو حياة لاهية عابثة لا هدف لها ولا غاية، وهذه كأنّها مُقدِّمة للحديث عن الإنفاق، وطريقة تعامُل المسلم مع ما عنده من مالٍ.
﴿وَلَا یَسۡـَٔلۡكُمۡ أَمۡوَ ٰ⁠لَكُمۡ﴾ أي: لا يطلُبها منكم جميعها؛ إذ للمال وظيفة أخرى في حياة المسلم غير القتال، والزكاة، والصدقة.
﴿إِن یَسۡـَٔلۡكُمُوهَا فَیُحۡفِكُمۡ تَبۡخَلُواْ﴾ فيه مراعاةٌ لواقع الناس وتعلُّقهم بأموالهم، بمعنى أنّ الله لو طلَبَ منهم جميعَ أموالهم وألحَّ عليهم في ذلك، فإنّهم سيبخَلون ويقَعون في الحرج؛ ولذلك قال بعدها: ﴿وَیُخۡرِجۡ أَضۡغَـٰنَكُمۡ﴾ أي: تظهر منكم كراهيتكم لهذا السؤال، وتضجُّركم منه.
والخطاب بكلِّ تأكيد ليس عامًّا لكلِّ المؤمنين في ذلك الوقت؛ فالصدِّيق  تصدَّقَ بكلِّ ماله عن رضًا وطِيبِ نفسٍ، وكان الصحابة يتنافسون في تقديم أموالهم، لكن هذا في عامة الناس ممن دخلوا في دين الله بعد الهجرة ثم بعد الفتح، والله أعلم.
﴿هَـٰۤأَنتُمۡ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ تُدۡعَوۡنَ لِتُنفِقُواْ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن یَبۡخَلُۖ﴾ هذا تفريعٌ عمّا تقدّم، بمعنى أنّ الله لم يسألكم جميع أموالكم، بل سألكم بعضًا منها وهو الزكاة والنفقة على مُستلزمات القتال، ومع هذا ظهر فيكم من يبخل، فكيف لو كان قد سألها جميعًا.
﴿وَمَن یَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا یَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ﴾ لأنّه يحرمها من ثواب الله.
﴿وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِیُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَاۤءُۚ﴾ هذه حقيقةٌ إيمانيَّةٌ وواقعيَّةٌ بحكم أنَّه سبحانه هو خالق السماوات والأرض وما فيهما من ثرواتٍ ظاهرةٍ وباطنةٍ، والناس إنّما يأكلون من رزقه، ولو شاء لمنَعَه عنهم، أو لمنَعَهم منه، وعليه فالتكليفُ بالإنفاق ليس سِوَى اختبارٍ، كما هو الشأن في كلِّ التكليفات الدينيَّة.
﴿وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ﴾ عن أمْرِهِ، وتخرجوا عن طاعته.
﴿یَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَیۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا یَكُونُوۤاْ أَمۡثَـٰلَكُم﴾ أي: يَنزِعُ الله عنكم شرَفَ حمل هذه الدعوة، ويمنَحه لغيركم.