﴿۞ لَّقَدۡ رَضِیَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ إِذۡ یُبَایِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ﴾ وهم كل الصحابة الذين خرجوا معه
ﷺ في الحديبية وكانوا ألفًا وأربعمائة، وكانت البَيعة على القتال بعدما أُشِيع عن قتل المشركين لرسولِ رسولِ الله
ﷺ، وهو سيدنا عثمان بن عفان والذي بعثه
ﷺ إلى قريش للتفاوُض معهم، وقوله تعالى عن هؤلاء الصفوة:
﴿۞ لَّقَدۡ رَضِیَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ خبر لا يحتمل النسخ، وفيه ردٌّ قاطِعٌ على الذين يكرهون الصحابة ويُكفِّرونهم.
﴿فَعَلِمَ مَا فِی قُلُوبِهِمۡ﴾ من الصدق واليقين.
﴿وَكَفَّ أَیۡدِیَ ٱلنَّاسِ عَنكُمۡ﴾ بالصلح الذي سمَّاه القرآن فتحًا مبينًا.
﴿وَأُخۡرَىٰ لَمۡ تَقۡدِرُواْ عَلَیۡهَا قَدۡ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَاۚ﴾ أي: ووَعَدَكم مغانِمَ أخرى، لا تقدِرُون عليها بما معكم من عددٍ وعُدَّةٍ، والإشارةُ هنا - والله أعلم - إلى فارس و
الروم، لكن الله ناصِرُكم عليهم بقدرته التي تُحيطُ بهم.
﴿وَلَوۡ قَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلۡأَدۡبَـٰرَ﴾ مُتعلِّقٌ بقوله تعالى:
﴿وَكَفَّ أَیۡدِیَ ٱلنَّاسِ عَنكُمۡ﴾ بمعنى أن هؤلاء المشركين الذين كفَّ الله أيديَهم عنكم لو قاتَلُوكم لنَصَرَكم الله عليهم، وهذا تأكيدٌ أن كفَّهم إنما كان لحكمةٍ أعلى وأسمَى، وليس لضعفِ المؤمنين عن مُقاتَلَتهم.
﴿سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلُۖ﴾ في نصر النبيِّين على أعدائهم.
﴿وَهُوَ ٱلَّذِی كَفَّ أَیۡدِیَهُمۡ عَنكُمۡ وَأَیۡدِیَكُمۡ عَنۡهُم﴾ تأكيدٌ آخر لاستعداد المسلمين للقتال دفاعًا عن نبيِّهم وعن دينهم وأنفسهم، وإنما كفَّ الله الفريقَين عن الاصطِدام لحكمةٍ ظهرت آثارُها فيما بعد بفتح خيبر، ثم مكة نفسها، ثم بدخول الناس في دين الله أفواجًا.
﴿بِبَطۡنِ مَكَّةَ﴾ بأسفل مكة حيث كانت الحديبية.
﴿مِنۢ بَعۡدِ أَنۡ أَظۡفَرَكُمۡ عَلَیۡهِمۡۚ﴾ حيث تمكَّن المسلمون في الحديبية من أَسر بعض المتهوِّرين من شباب قريش الذين اتَّفَقُوا فيما بينهم على مُباغَتة المسلمين فأمكَنَ الله منهم، ثم أمر النبيّ
ﷺ بإطلاق سراحهم.
﴿وَٱلۡهَدۡیَ مَعۡكُوفًا أَن یَبۡلُغَ مَحِلَّهُۥۚ﴾ أي: أنهم مَنعوا الهَديَ من وصوله إلى محلِّه في مكة وبقِيَ معكوفًا، أي: محبوسًا، والمقصود بهذا التشنيع على قريش بمنعهم المسلمين من دخول مكة وقد جاءوها مُعتمرين لا مُقاتلين.
﴿وَلَوۡلَا رِجَالࣱ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَاۤءࣱ مُّؤۡمِنَـٰتࣱ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ﴾ لأنهم مُستضعَفُون لا يجهَرُون بإسلامهم؛ ولأن في المسلمين أيضًا من أهل المدينة، وهؤلاء لا يعرفون هؤلاء المستضعفين بأسمائهم ولو كانوا قد أعلَنوا إسلامهم.
﴿أَن تَطَـُٔوهُمۡ﴾ أن تُصيبُوهم بسوء.
﴿مَّعَرَّةُۢ﴾ التَّبِعَة الثقيلةُ من إثمٍ، ولَومٍ، ودِيَةٍ.
﴿لَوۡ تَزَیَّلُواْ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ﴾ أي: لو خرج المؤمنون المستضعفون لسَلَّطناكم على المشركين، وفي هذا بيانٌ لحكمةٍ وفائدةٍ أخرى لصُلح الحديبية، وهي: حماية المؤمنين المُستضعَفين، وبيان حُرمة المسلم البريء ولو كان يعيشُ مع العدو.
﴿حَمِیَّةَ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِ﴾ الأنَفَة والكبر والتناصُر على الباطل.
﴿لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡیَا﴾ إذ رؤيا الأنبياء وحي، وقد كان
ﷺ قد بشَّرَ المسلمين برؤيا رآها أنهم سيدخلون مكة آمنين معتمرين، ففرِحَ الصحابة بذلك وظنُّوه في عامهم هذا الذي وقَعَ فيه الصلح، فلما صدَّتْهم قريشٌ أصابَهم الحزن، وتساءَلُوا عن تلك الرؤيا ومعناها ووقت تحقُّقها، فجاءَت هذه الآية تُطمئِنُهم أن هذه الرؤيا حق، وأنها واقِعة لا محالة.
﴿فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَ ٰلِكَ فَتۡحࣰا قَرِیبًا﴾ أي: علِمَ الله ما فيه الخيرُ لكم، فجعَلَ قبل تحقُّق الرؤيا فتحًا قريبًا، وقد كان ذلك في الحديبية ثم في خيبر؛ حيث فتَحَها المسلمون قبل عُمرة القضاء، فعلى أيِّ الفتحَين حُمِلَت الآية كان حملًا صحيحًا، ولا يمنع أيضًا الجمع بينهما؛ لأن الثاني كان ثمرةً للأول، والله أعلم.
﴿لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦۚ﴾ ليكون له العلوّ والشرف على كل دين آخر.
﴿سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ۚ﴾ علاماتهم الظاهرة في وجوههم؛ من السكينة، والحياء، ونور الوجه، وحُسن السَّمْت، فالسجود له أثره في نفوس الساجدين وسلوكهم، وهذا الأثر ينعكس - دون ريبٍ - في ظاهرهم.
﴿ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ ۚ﴾ أي: ذلك الذي تقدَّم من صِفات محمدٍ
ﷺ وأصحابه قد جاء مُوافقًا لصِفاتهم في التوراة.
﴿وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلْإِنجِيلِ﴾ أي: ووصفهم في الإنجيل.
﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْـَٔهُۥ﴾ أي: نَمَا وتكاثَرَ وأخرَجَ له فروعًا.
﴿فَـَٔازَرَهُۥ﴾ أي: فقَوَّاه.
﴿فَٱسْتَغْلَظَ﴾ أي: غلُظَ، والحديث عن الزرع.
﴿فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ﴾ أي: قام الزرع وكمُل واعتدل، والسُّوْق: جمع سَاق، والمقصود به هنا: أصول الزرع وأعواده التي يقوم عليها.
﴿يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ﴾ الذين زرَعُوه وتعِبُوا فيه.
﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ﴾ أي: إنما قوَّاهم وكثَّرَهم ليقهَرَ بهم الكفَّار.
وقد ورَدَ عن السلف - ومنهم الإمام مالك -: أنَّ مَن أصبح وفي قلبه غَيظٌ على واحدٍ من أصحاب رسولِ الله
ﷺ أصابَتْه هذه الآية.