سورة المائدة تفسير مجالس النور الآية 87

یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَیِّبَـٰتِ مَاۤ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوۤاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِینَ ﴿٨٧﴾

تفسير مجالس النور سورة المائدة

المجلس الثاني والخمسون: بناء المجتمع المسلم


من الآية (87 - 108)


بعد إعلان الهويَّة الإسلاميَّة المتميِّزة عن غيرها، ثم الحوار المعمَّق مع الآخر المختلف في هويَّته وعقيدته، عاد القرآن إلى المجتمع المسلم ليضع أمامه قواعد البناء السليم بمنهجيّةٍ مترابطةٍ ومتكاملةٍ:

أولًا: مرجعيَّة التشريع ﴿وَأَطِیعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِیعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّیۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوۤاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَـٰغُ ٱلۡمُبِینُ﴾ فوحدة مصدر التلقي ضمانة لوحدة المجتمع نفسه، والاجتهاد لا يهدم الوحدة وإن تنوّع؛ لأنه يبحث فيما دون القطعيَّات، وكذلك فهو يبحث فيما يحتمله النصُّ من المعاني، وهذا جمعٌ بين ضمانةِ الوحدة ومرونةِ الفكر والاجتهاد.

ثانيًا: الهويَّة الجامعة ﴿جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلۡكَعۡبَةَ ٱلۡبَیۡتَ ٱلۡحَرَامَ قِیَـٰمࣰا لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَٱلۡهَدۡیَ وَٱلۡقَلَــٰۤـىِٕدَۚ﴾، ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّیۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمࣱۚ﴾ فالشعائر الظاهرة مع ما فيها من تعبُّدٍ ونسكٍ فإنها تحمل كذلك معاني الهويَّة الجامعة للأمَّة المسلمة، ومن ثَمَّ كان انتهاك هذه الشعائر إثمًا كبيرًا، ولو كان بصورة تعمُّد قتل الصيد في الحرم، أو عند الإحرام بالحج ﴿وَمَنۡ عَادَ فَیَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ وَٱللَّهُ عَزِیزࣱ ذُو ٱنتِقَامٍ﴾.

ثالثًا: التربية الإيمانيَّة في سلَّم الرقيِّ والتنافس الإيجابي ﴿إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّأَحۡسَنُواْۚ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ تطويعًا للنفس على معاني الإيمان والتقوى والعمل الصالح حتى بلوغ مرتبة الإحسان، التي هي غاية السائرين إلى الله، والمرتبة العليا في الرقابة الذاتيَّة والخشية الحاضرة من الذنب والخلل حتى يأتي العمل في غاية الدقَّة والإتقان ﴿لِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن یَخَافُهُۥ بِٱلۡغَیۡبِۚ﴾.

رابعًا: التربية العلميَّة وصيانة الفكر من الخرافة ﴿مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِیرَةࣲ وَلَا سَاۤىِٕبَةࣲ وَلَا وَصِیلَةࣲ وَلَا حَامࣲ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ یَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ﴾، ومن التقليد الأعمى بلا دليلٍ ولا بيِّنةٍ ﴿وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسۡبُنَا مَا وَجَدۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَاۤۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَاۤؤُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَهۡتَدُونَ﴾ وفي هذا السياق يأتي تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، فالأول يذهبُ بالعقل، والثاني قمارٌ ولعبٌ لا دخل للجهد الذهني في تحصيله، والثالث والرابع تقليد لخرافات الأجداد بلا حجة ولا تفكير.

خامسًا: التزوُّد بالطيبات، والتنزُّه عن الخبائث ﴿قُل لَّا یَسۡتَوِی ٱلۡخَبِیثُ وَٱلطَّیِّبُ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ كَثۡرَةُ ٱلۡخَبِیثِۚ﴾، ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَیِّبَـٰتِ مَاۤ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ﴾، ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَیۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَـٰمُ رِجۡسࣱ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّیۡطَـٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ﴾ فالطيبات كلُّ نافعٍ من طعامٍ وشرابٍ وملبسٍ ومسكنٍ وسلوكٍ عمليٍّ وعلاقةٍ اجتماعيَّةٍ ونحو ذلك، والخبيثُ كلُّ محرَّمٍ مما ليس فيه سوى الضرر المحض للفرد أو الجماعة.

سادسًا: مسؤوليَّة الكلمة والعهد والالتزام ﴿لَا یُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِیۤ أَیۡمَـٰنِكُمۡ وَلَـٰكِن یُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَیۡمَـٰنَۖ﴾، ﴿وَٱحۡفَظُوۤاْ أَیۡمَـٰنَكُمۡۚ﴾ فالمؤمن لا يُعطِي عهدًا وهو يعلم أنه غير قادر على الوفاء به، وفي هذا السياق يأتي تقدير مآل الكلمة ونتائجها ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَسۡـَٔلُواْ عَنۡ أَشۡیَاۤءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ وَإِن تَسۡـَٔلُواْ عَنۡهَا حِینَ یُنَزَّلُ ٱلۡقُرۡءَانُ تُبۡدَ لَكُمۡ﴾ والسؤال في أصله مطلوبٌ ومشروعٌ ﴿فَسۡـَٔلُوۤاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [الأنبياء: 7].
وقد تكرَّر في القرآن: ﴿یَسۡـَٔلُونَكَ﴾ لكن هناك أسئلة غير عمليَّة وغير مناسبة في زمانها أو مكانها، وهذه هي محل النهي، والتفريق بين النوعَين مسؤولية السائل، فهو الذي عليه تقدير موقع سؤاله ومآلاته على المسؤول أو السامع، أو على المجتمع بشكل عام.
ومثال ذلك: أن يسأل عن حادثة تثير فتنة بين المستمعين، أو يسألُ سُؤالًا فيه جنوح للغيب المحض الذي لا ينبني عليه عمل، أو فيه التشدُّد والتعمُّق بقصد استنزال التحريم فيما لم يحرِّمه الله، فكلُّ هذا وارد، ولكن الذي يظهر من السياق أنه طلب المعجزات، وهو الموضوع الذي ركَّزت عليه خواتيم السورة في قصة عيسى عليه السلام، وعلى المسؤول أيضًا إرشاد السائل وعدم الانسياق وراء كلِّ سؤالٍ يعرض له.

سابعًا: التراحم والتكافل ﴿فَكَفَّـٰرَتُهُۥۤ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَـٰكِینَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِیكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِیرُ رَقَبَةࣲۖ﴾،﴿هَدۡیَۢا بَـٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّـٰرَةࣱ طَعَامُ مَسَـٰكِینَ﴾، ﴿إِنَّمَا یُرِیدُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَن یُوقِعَ بَیۡنَكُمُ ٱلۡعَدَ ٰ⁠وَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ﴾.

ثامنًا: العدل وأداء الشهادة على وجهها ﴿یَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلࣲ مِّنكُمۡ﴾، ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ شَهَـٰدَةُ بَیۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِینَ ٱلۡوَصِیَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلࣲ مِّنكُمۡ﴾، ﴿فَیُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِی بِهِۦ ثَمَنࣰا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَـٰدَةَ ٱللَّهِ﴾، ﴿ذَ ٰ⁠لِكَ أَدۡنَىٰۤ أَن یَأۡتُواْ بِٱلشَّهَـٰدَةِ عَلَىٰ وَجۡهِهَاۤ﴾.

تاسعًا: إن المجتمع الذي يهتدي لهذه الموجِّهات الربَّانيَّة ويعتمدها في حياته العامة وفي سلوكه العملي مجتمعٌ محصَّنٌ من الاختراق، ومُستَعْلٍ بإيمانه وقِيَمِه عن مكائد الآخرين وشُبهاتهم وشهواتهم ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ عَلَیۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا یَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَیۡتُمۡۚ﴾ وليس في هذه الآية أيَّة دعوة إلى السلبيَّة والتقاعُس عن الدعوة والإصلاح، والمجادلة بالحقِّ والعلم، وحُسن الخلق، فهذه واجبات منصوص عليها وهي - لا شكَّ - من شروط الهداية ولوازمها.


﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَیِّبَـٰتِ مَاۤ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ﴾ لأن تحريم ما أحل الله تشريع، والتشريع لله وحده؛ ولأن الحياة لا تستقيم بغير هذه الطيِّبات، ومن مقاصد الشريعة إعمار الأرض وليس خرابها، وإسعاد الناس وليس إشقاءَهم؛ ولذلك قال: ﴿وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلࣰا طَیِّبࣰاۚ﴾.

﴿وَلَا تَعۡتَدُوۤاْۚ﴾ بتجاوُز الطيبات إلى الخبائث، أو بالإسراف المُضِرِّ منها، أو بتشريع ما لم يأذَن الله به.

﴿لَا یُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِیۤ أَیۡمَـٰنِكُمۡ﴾ هو الحَلِفُ بالله الذي يجرِي على اللسان من غير قصدٍ، بخلاف ما عقَّدتم أي: قصَدتم وجزَمتم.

﴿مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِیكُمۡ﴾ أي: أطعموا الفقراء والمساكين من طعامكم المعتاد، كلٌّ بحسب وضعه وعادته.

﴿ٱلۡخَمۡرُ﴾ المُسْكِر، وكلُّ ما يُذهب العقل؛ كالحشيشة ونحوها.

﴿وَٱلۡمَیۡسِرُ﴾ القمار، وفيه الربح بلا جهد، أو الخسارة بلا نفع.

﴿وَٱلۡأَنصَابُ﴾ حجارة تُنصَب وتُقدَّم عليها القرابين والنذور.

﴿وَٱلۡأَزۡلَـٰمُ﴾ قِداحٌ وعِيدانٌ مُخبَّأة، فيها توجيه غيبيٌّ للعمل أو تركه، وهي من عادات الجاهليَّة.

﴿رِجۡسࣱ﴾ خبث.

﴿فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ تهديدٌ شديدٌ لا يخفى على متدبِّرٍ عارفٍ بأساليب العرب.

﴿فَجَزَاۤءࣱ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ﴾ أي: يتصدَّق من الأنعام بشاةٍ، أو بقرةٍ، أو بعيرٍ ونحوها بمثل ما قتله من الصيد في الحرم كفارة لذنبه، وليس هو الذي يُقدِّر مستوى الكفارة، بل يقدِّرها حَكَمان عَدْلان بخبرتهما وأمانتهما.

﴿جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلۡكَعۡبَةَ ٱلۡبَیۡتَ ٱلۡحَرَامَ قِیَـٰمࣰا لِّلنَّاسِ﴾ القيام يُطلق على النشاط المستمر كما يطلق على الثبات، فالبيت الحرام يشهده الناس للعبادة والنسك وعمل الخير، وهو الذي تلتقي عليه أفئدتهم حبًّا وإجلالًا وتعظيمًا، وهو ثابتٌ من ثوابت دينهم وهويّتهم.

﴿مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِیرَةࣲ وَلَا سَاۤىِٕبَةࣲ وَلَا وَصِیلَةࣲ وَلَا حَامࣲ﴾ أوصافٌ لأنعام يُحرِّمها المشركون على أنفسهم، أو يُحرِّمون الانتفاع بها بوجهٍ من الوجوه، فالبَحِيرةُ ناقةٌ يُعلِّمونها بشَقِّ الأُذُن فلا يركبها أحد.
والسائبةُ: التي تُترك بعد بلوغها سنًّا معيَّنةً، فلا تُؤكَل ولا تُركَب، ولا يُستفاد منها بشيء، وقد ينذرها صاحبها لذلك قبل هذا السنِّ.
والوصيلةُ: هي التي تَلِدُ ناقةً ثم تتبعها بأخرى دون أن يفصل بينهما ذكر، فهذه تُسيَّب كذلك.
والحامِي: هو الجمل الذين يَحمُون ظهرَه من الركوب، أي: يُحرِّمُون ركوبه، وهذه العادات قد انتهت والحمد لله، لكن الناس يبتَدِعُون مثِيلاتٍ لها بأسماء أخرى، فينبغي التنبُّه والتنبيه.

﴿لَا یَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَیۡتُمۡۚ﴾ أي: اهتَدَيتُم إلى الحقِّ كلِّه، وأدَّيتُم ما عليكم، ومنه الإصلاح والدعوة والتعليم وتبليغ الحقِّ للناس.

﴿أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَیۡرِكُمۡ﴾ أي: من غير المسلمين، وهذا في الإشهاد على وصيَّة المسافر، للحاجة إليه إن لم يكن معه في سفره أحدٌ من المسلمين، والله أعلم.

﴿فَإِنۡ عُثِرَ عَلَىٰۤ أَنَّهُمَا ٱسۡتَحَقَّاۤ إِثۡمࣰا﴾ أي: تبيَّن كذب الشاهدين.

﴿فَـَٔاخَرَانِ یَقُومَانِ مَقَامَهُمَا﴾ أي: لما بطلت شهادة الشاهدين فنرجع إلى الورثة ومن لهم الحقّ في مال المتوفَّى من دائِنِين وغيرهم، فإن قدَّمُوا البيِّنة على خيانة الشاهدين، يُرجع القول إليهم في إثبات الدَّين بالنسبة للدائِنِين، وتقدير مال المتوفَّى بالنسبة لوَرَثَته، فيأخذ كلُّ ذي حقٍّ حقَّه، والمسألة لها أكثر من صورةٍ وأكثر من وجهٍ، ومحلُّها كتب الفقه، والله أعلم.