سورة ق تفسير مجالس النور الآية 2

بَلۡ عَجِبُوۤاْ أَن جَاۤءَهُم مُّنذِرࣱ مِّنۡهُمۡ فَقَالَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا شَیۡءٌ عَجِیبٌ ﴿٢﴾

تفسير مجالس النور سورة ق

المجلس الخامس والثلاثون بعد المائتين: بل كذَّبوا بالحق لمَّا جاءهم


الآية (1- 18)


سورة ق سورةٌ مكِّيَّةٌ تتناول قضية الإيمان ومعركته الطويلة لإنقاذ البشريَّة من متاهات الشرك والوثنيَّة، والتصورات الجاهليَّة.
تبدأ السورةُ بتشخيص موقف المشركين من الدعوة الجديدة وتساؤلاتهم حول الرسول والرسالة، وعقيدة البعث والجزاء، ثم تأخذ بهم في رحاب هذا الكون لتُجيبهم بما يرونه ويلمسونه من واقع حياتهم، ثم تطوفُ بهم في صفحات التاريخ لعلَّهم يقفون على بعض دروسه ومواعظه، ثم تدخلُ في عُمق نفوسهم لتهزَّها من داخلها علَّها تفيقُ من هذه الغفلة:
أولًا: استهَلَّت السورة بقسَمٍ عظيمٍ يُقصد به بيان عظمة هذا القرآن، والتنبيه إلى خطورة الكلام الآتي بعد هذا القسَم: ﴿قۤۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِیدِ﴾.
ثانيًا: نقل القرآن تعجُّبَ المشركين من أمرين اثنين: أن يبعثَ الله إليهم رسولًا منهم، وأن يُبلِّغهم هذا الرسول بما ينتظرهم بعد موتهم من بعثٍ وحسابٍ وجزاءٍ ﴿بَلۡ عَجِبُوۤاْ أَن جَاۤءَهُم مُّنذِرࣱ مِّنۡهُمۡ فَقَالَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا شَیۡءٌ عَجِیبٌ ﴿٢﴾ أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابࣰاۖ ذَ ٰ⁠لِكَ رَجۡعُۢ بَعِیدࣱ﴾ ثم يتحوَّلُ هذا التعجُّب إلى تكذيبٍ صريحٍ ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِٱلۡحَقِّ لَمَّا جَاۤءَهُمۡ﴾ ثم يُبيِّن القرآن حالَهم بعد هذا التكذيب: ﴿فَهُمۡ فِیۤ أَمۡرࣲ مَّرِیجٍ﴾.
ثالثًا: ردَّ القرآنُ تعجُّبهم بتأكيد علم الله تعالى الشامل، فهو يعلم ما يذهب في الأرض من أجسادهم، وليس هناك شيءٌ منها يغيب عن عِلمِ الله ﴿قَدۡ عَلِمۡنَا مَا تَنقُصُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۡهُمۡۖ﴾ بمعنى أن هذا الذي تفتقدونه وتتعجَّبون من إعادته هو عند الله ليس بمفقود، فالتعجُّب وارد بالنسبة لعِلمِكم أنتم، أمّا بالنسبة لعِلمِ الله وقدرته المطلقة فليس بوارِد.
ثم أكَّدَ القرآن هذا المعنى: ﴿وَعِندَنَا كِتَـٰبٌ حَفِیظُۢ﴾، وفي هذا جوابٌ أيضًا لتعجُّبهم من بعثته ؛ إذ كلّ هذا إنّما يجري على علم الله وتقديره ـ.
رابعًا: بعد تأكيد علمه ـ الشامل، جاء ليؤكِّد قدرته تعالى الشاملة، والتي يرى المشركون وغيرهم آثارها في هذا الكون ونظامه المُحكم الدقيق ﴿أَفَلَمۡ یَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَاۤءِ فَوۡقَهُمۡ كَیۡفَ بَنَیۡنَـٰهَا وَزَیَّنَّـٰهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجࣲ ﴿٦﴾ وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَـٰهَا وَأَلۡقَیۡنَا فِیهَا رَوَ ٰ⁠سِیَ وَأَنۢبَتۡنَا فِیهَا مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِیجࣲ ﴿٧﴾ تَبۡصِرَةࣰ وَذِكۡرَىٰ لِكُلِّ عَبۡدࣲ مُّنِیبࣲ﴾.
خامسًا: لفَتَ القرآن أنظار هؤلاء المشركين المكذِّبين بالبعث إلى ظاهرةٍ متكررةٍ في حياتهم، تقرِّبُ لهم بشكلٍ حسِّيٍّ ملموسٍ إعادةَ الحياة بعد الموت ﴿وَنَزَّلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ مُّبَـٰرَكࣰا فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ جَنَّـٰتࣲ وَحَبَّ ٱلۡحَصِیدِ ﴿٩﴾ وَٱلنَّخۡلَ بَاسِقَـٰتࣲ لَّهَا طَلۡعࣱ نَّضِیدࣱ ﴿١٠﴾ رِّزۡقࣰا لِّلۡعِبَادِۖ وَأَحۡیَیۡنَا بِهِۦ بَلۡدَةࣰ مَّیۡتࣰاۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡخُرُوجُ﴾ فإعادةُ الشجرة الكبيرة من بذرةٍ صغيرةٍ مدفونةٍ في التراب يقرِّبُ صورةَ إعادة الحياة للإنسان بعد أن تُدفن خلاياه في التراب أيضًا.
سادسًا: ذكَّر القرآن هؤلاء المشركين بما أصابَ أسلافهم المشركين من الأُمم السابقة؛ لعلَّهم يتفكَّرون ويتَّعِظون ﴿كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحࣲ وَأَصۡحَـٰبُ ٱلرَّسِّ وَثَمُودُ ﴿١٢﴾ وَعَادࣱ وَفِرۡعَوۡنُ وَإِخۡوَ ٰ⁠نُ لُوطࣲ ﴿١٣﴾ وَأَصۡحَـٰبُ ٱلۡأَیۡكَةِ وَقَوۡمُ تُبَّعࣲۚ كُلࣱّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِیدِ﴾.
سابعًا: عاد القرآن ليناقشهم في تكذيبهم بالبعث، محتجًّا عليهم بدليل العقل بعد أن احتجَّ عليهم آنفًا بدليل الحسِّ ﴿أَفَعَیِینَا بِٱلۡخَلۡقِ ٱلۡأَوَّلِۚ﴾ وهذا سؤالٌ يصعق هذه العقول ويصدمها بالحقيقة الكبرى؛ فالله الذي خلق الإنسان الأوَّل لا من شيءٍ، كيف يُعجزه أن يُعيد خلقه من شيء؟
وهذا التعجُّبُ مِن تعجُّبهم هو الذي صاغه القرآن بقوله: ﴿بَلۡ هُمۡ فِی لَبۡسࣲ مِّنۡ خَلۡقࣲ جَدِیدࣲ﴾ بمعنى أنّه كيف يلتَبِس عليهم الخلق الجديد، وهم موجودون بالخلق الأول.
ثامنًا: بعد الدليل الحسِّي والدليل العقلي، دخل القرآن في أعماق نفوسهم ليُحذِّرهم من وساوسهم التي تدفعهم لهذا التكذيب؛ فالإنسان المُجادِل ليس شرطًا أن يكون مُقتنِعًا بما يقول، فالحسد مثلًا كافٍ لتكوين حالةٍ من العِناد والخصومة لا ينفع معها حوارٌ، ولا يردُّها دليلٌ.
من هنا جاءت هذه الآيات لتحذِّر هؤلاء مما يمكن أن يكوِّن الدوافع النفسيَّة الخفيَّة لهذا الإنكار والتكذيب ﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ وَنَعۡلَمُ مَا تُوَسۡوِسُ بِهِۦ نَفۡسُهُۥ ۖ وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَیۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِیدِ ﴿١٦﴾ إِذۡ یَتَلَقَّى ٱلۡمُتَلَقِّیَانِ عَنِ ٱلۡیَمِینِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِیدࣱ ﴿١٧﴾ مَّا یَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَیۡهِ رَقِیبٌ عَتِیدࣱ﴾ فالله سبحانه يعلم الوساوس الداخلية، ويعلم المُجادلات والمُماحكات اللفظيَّة، وكلّ ذلك في كتابٍ محفوظٍ.


﴿قۤۚ﴾ من الحروف المُقطّعة، وقد تقدَّم الكلام فيها وبيان الراجح من الأقوال في سورة البقرة.
﴿وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِیدِ﴾ يُقْسِمُ الله تعالى بكتابه المجيد، والمجيدُ مِن المجدِ، وهو: الشرف الكامل.
﴿بَلۡ عَجِبُوۤاْ أَن جَاۤءَهُم مُّنذِرࣱ﴾ والعَجَبُ: إنكارٌ لشيءٍ غير مألوفٍ في العادة، وهؤلاء المشركون عجِبُوا من أن يُرسِل الله إليهم رسولًا منهم، كأنّهم يُريدون مَلَكًا من السماء، وعجِبُوا أيضًا مما يُنذرهم به، وهو البعث والحساب بعد البعث.
﴿ذَ ٰ⁠لِكَ رَجۡعُۢ بَعِیدࣱ﴾ أي: رجوعهم إلى الحياة بعد موتهم بعيدٌ عن تصوّر عقولهم.
﴿قَدۡ عَلِمۡنَا مَا تَنقُصُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۡهُمۡۖ﴾ أي: نعلم ما يَنقُصُ منهم بسبب الموت، ثم يُدفن فتأكله الأرض، فكانت الأرض كأنّها هي التي تنقصُ منهم، أي: تأخذ منهم.
﴿فَهُمۡ فِیۤ أَمۡرࣲ مَّرِیجٍ﴾ أمرٌ مضطربٌ.
﴿كَیۡفَ بَنَیۡنَـٰهَا وَزَیَّنَّـٰهَا﴾ إشارةٌ إلى قيمتَين مُتكاملَتَين من قِيَم الإسلام: الإتقان، والجمال.
﴿وَمَا لَهَا مِن فُرُوجࣲ﴾ ليس فيها من شُقوق، بمعنى أنّها مُحكمة البناء ومُتقَنة.
﴿وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَـٰهَا﴾ بسَطنَاها لتكون صالحةً للسُّكنى والزراعة والسير ونحو ذلك، والبَسطُ هذا لا يُنافي كرويّتها؛ لأنّ بَسطَها بقدر حاجة الناس، وهذا ظاهرٌ، أمّا الشكل الكلّي للأرض فهو أكبر من أن يُحيط به نظرُ الإنسان المُجرَّد.
﴿وَأَلۡقَیۡنَا فِیهَا رَوَ ٰ⁠سِیَ﴾ وجعلنا فيها جبالًا شامخات، وقد شبَّه وجود الجبال على الأرض بالأشياء التي تُلقى من فوق من حيث تناثرها؛ حيث يراها الناظر بلا نسقٍ، بخلاف ما لو قال مثلًا: بنيناها.
﴿وَأَنۢبَتۡنَا فِیهَا مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِیجࣲ﴾ أي: من كلِّ صنفٍ مُبهِجٍ، أي: يُدخِل البهجة في نفس الناظر، وهنا إشارةٌ إلى قيمة الابتهاج، وانشراح الصدر، وحسن المنظر.
﴿تَبۡصِرَةࣰ وَذِكۡرَىٰ﴾ بمعنى أنّ هذه الآيات المبثوثة في هذا الكون مِن شأنها أن تُبصِّرَ الناس بالحقائق والمعارف، وتُذكِّرهم بها فتجعلها حاضرةً أمامهم.
﴿لِكُلِّ عَبۡدࣲ مُّنِیبࣲ﴾ أي: لكلِّ عبدٍ باحثٍ عن الحقِّ وعائدٍ إليه.
﴿مَاۤءࣰ مُّبَـٰرَكࣰا﴾ هو ماء المطر، وسمَّاه مباركًا؛ لما يحمله من خيرٍ ونعمةٍ.
﴿فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ جَنَّـٰتࣲ وَحَبَّ ٱلۡحَصِیدِ﴾ نبَّه إلى نوعَين من الزرع: الأشجار وما فيها من ظلالٍ وثمرٍ، والحَبِّ الذي يُحصَد؛ كالبُرِّ، والشعير، والأُرز.
﴿وَٱلنَّخۡلَ بَاسِقَـٰتࣲ﴾ أي: عالِيات مُرتفعات، وخصَّ النخل بالذِّكر؛ تنبيهًا لفضلها على باقي الشجر.
﴿لَّهَا طَلۡعࣱ نَّضِیدࣱ﴾ والطَّلعُ: أوَّل ظهور العذوق من أكمامها، والنضيد أي: منضودٌ بعضه مع بعض.
﴿وَأَحۡیَیۡنَا بِهِۦ بَلۡدَةࣰ مَّیۡتࣰاۚ﴾ أي: أحيَينا بماء المطر أرضًا كانت قاحِلَة ليس فيها زرع ولا ثمر.
﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡخُرُوجُ﴾ تشبيه لخروج الناس يوم البعث بإعادة الحياة للأرض بعد المطر.
﴿وَأَصۡحَـٰبُ ٱلرَّسِّ﴾ قومٌ من الأقوام الكافرة والمكذِّبة بدعوة الرسل، ولم يَرِد في القرآن ولا في السنّة الصحيحة ما يُبيِّن حالَهم، فالأَولَى أخذ العبرة العامة دون الجزم بهويتهم، ومعنى الرسّ في اللغة: البئر المطويَّة بالحجارة.
﴿وَأَصۡحَـٰبُ ٱلۡأَیۡكَةِ﴾ هم قومُ شُعيب عليه السلام، وأصلُ الأَيكة الشجرة.
﴿فَحَقَّ وَعِیدِ﴾ أي: استَحقُّوا العذابَ الذي توعَّدَهم الله به.
﴿أَفَعَیِینَا بِٱلۡخَلۡقِ ٱلۡأَوَّلِۚ﴾ استفهامٌ بمعنى اللوم والتقريع، أي: أعَجَزْنا عن خَلقهم أوَّل مرة؟
﴿بَلۡ هُمۡ فِی لَبۡسࣲ مِّنۡ خَلۡقࣲ جَدِیدࣲ﴾ بل اضطرب هؤلاء المشركون واختلط عليهم أمر الخلق الثاني، ولو فكَّروا في وجودهم وكيف خلقهم الله أوَّل مرة لزالَ عنهم خَلطهم واضطرابهم.
﴿وَنَعۡلَمُ مَا تُوَسۡوِسُ بِهِۦ نَفۡسُهُۥ ۖ﴾ فالله يعلمُ كلّ شيءٍ؛ يعلمُ أقوالهم المُعلَنة، ووساوسهم الخفيَّة التي يُحدِّثون أنفسهم بها.
﴿وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَیۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِیدِ﴾ والوريد هو: الشريان الغليظ المُمتد مع الرقبة، وقد شبَّهه بالحبل لغِلَظه، والمقصود بهذا الإخبار أنّه تعالى أعلم بنا من أنفسنا، وأقدر علينا منها.
﴿إِذۡ یَتَلَقَّى ٱلۡمُتَلَقِّیَانِ﴾ وهما المَلَكَان المُوكَّلان بكلِّ إنسانٍ، فيتلقَّيان عنه أعمالَه وأقوالَه ويُدوِّنانها.
﴿مَّا یَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَیۡهِ رَقِیبٌ عَتِیدࣱ﴾ والرقيبُ: الذي يُراقِبُ، والعَتِيدُ: المُتهيِّئُ، وهما صِفتان للمَلَكَين، تُشعِران بدقَّة الحفظ والتدوين فلا يفوتهما شيءٌ.