سورة الذاريات تفسير مجالس النور الآية 2

فَٱلۡحَـٰمِلَـٰتِ وِقۡرࣰا ﴿٢﴾

تفسير مجالس النور سورة الذاريات

المجلس السابع والثلاثون بعد المائتين: إنما توعدون لصادق


الآية (1- 23)


سورةُ الذاريات سورةٌ مكيَّةٌ تتناول أُسُس العقيدة؛ التوحيد والنبوَّة والمعاد، وقد ابتدَأَت بالمعاد؛ لتحفيز الأذهان وتحريكها باتجاه التفكير والنظر في دلائل الإيمان المبثوثة في هذا الكون، وكما يأتي:
أولًا: أقسَمَ الله ـ بالرياح؛ مُنبِّهًا إلى وظيفتها في هذه الحياة، والمُتَّصِلة بحاجة الناس إلى الغيث والزرع ﴿وَٱلذَّ ٰ⁠رِیَـٰتِ ذَرۡوࣰا ﴿١﴾ فَٱلۡحَـٰمِلَـٰتِ وِقۡرࣰا ﴿٢﴾ فَٱلۡجَـٰرِیَـٰتِ یُسۡرࣰا ﴿٣﴾ فَٱلۡمُقَسِّمَـٰتِ أَمۡرًا﴾ وأمّا المُقسَم عليه فكانت عقيدة المعاد وما فيها من حسابٍ وجزاءٍ ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقࣱ ﴿٥﴾ وَإِنَّ ٱلدِّینَ لَوَ ٰ⁠قِعࣱ﴾.
ثانيًا: ثم أقسَمَ الله بالسماء وما فيها من أفلاكٍ مُحكَمة، وطرائق مُتشابِكة ﴿وَٱلسَّمَاۤءِ ذَاتِ ٱلۡحُبُكِ﴾ أما المُقسَم عليه وهو جوابُ القَسَم، فكان ما عليه المشركون من اختلافٍ وتناقض؛ مثل: جمعهم بين الإيمان بالله خالقًا لهذا الكون مع عبادتهم للأصنام، وجمعهم بين بقايا التديُّن الإبراهيمي وإنكارهم للبعث والحساب، وقولهم في مُحمدٍ أنّه ساحر، وأنّه مجنون، وقد جعل القرآن تخبُّطَهم هذا دليلًا على أنّهم مصرُوفون عن الحقِّ زاهِدون به ﴿یُؤۡفَكُ عَنۡهُ مَنۡ أُفِكَ﴾.
ثالثًا: أكَّد القرآن أنّ مُنكري البعث لا يملِكون حجة، وإنّما هو القول بغير علمٍ مع سيطرة الهوى والغفلة ﴿قُتِلَ ٱلۡخَرَّ ٰ⁠صُونَ ﴿١٠﴾ ٱلَّذِینَ هُمۡ فِی غَمۡرَةࣲ سَاهُونَ ﴿١١﴾ یَسۡـَٔلُونَ أَیَّانَ یَوۡمُ ٱلدِّینِ﴾ وهو سؤالٌ على سبيل الإنكار والسُّخرية.
رابعًا: توعَّد القرآن هؤلاء المُكذِّبين بما يستحِقُّونه من العذاب ﴿یَوۡمَ هُمۡ عَلَى ٱلنَّارِ یُفۡتَنُونَ ﴿١٣﴾ ذُوقُواْ فِتۡنَتَكُمۡ هَـٰذَا ٱلَّذِی كُنتُم بِهِۦ تَسۡتَعۡجِلُونَ﴾.
خامسًا: في مُقابل هؤلاء الأشقِيَاء، يعرِض القرآن حالَ المُتّقين وهم ينعَمُون برضا الله والجنَّة ﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِینَ فِی جَنَّـٰتࣲ وَعُیُونٍ ﴿١٥﴾ ءَاخِذِینَ مَاۤ ءَاتَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَبۡلَ ذَ ٰ⁠لِكَ مُحۡسِنِینَ﴾، ثم يُفصِّل في تَقوَاهم وإحسانهم وما استَحقُّوا به كلَّ هذا الثواب ﴿كَانُواْ قَلِیلࣰا مِّنَ ٱلَّیۡلِ مَا یَهۡجَعُونَ ﴿١٧﴾ وَبِٱلۡأَسۡحَارِ هُمۡ یَسۡتَغۡفِرُونَ ﴿١٨﴾ وَفِیۤ أَمۡوَ ٰ⁠لِهِمۡ حَقࣱّ لِّلسَّاۤىِٕلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ﴾ فهم يتَّقُون الله في عبادتهم، ويرجِعُون إليه ويستغفرونه عن أخطائهم، ويُحسِنون إلى الخلق بأموالهم.
سادسًا: ثم يعود القرآن ليُنبِّه العقول إلى ما في هذا الكون من آياتٍ ودلائل ﴿وَفِی ٱلۡأَرۡضِ ءَایَـٰتࣱ لِّلۡمُوقِنِینَ ﴿٢٠﴾ وَفِیۤ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ ﴿٢١﴾ وَفِی ٱلسَّمَاۤءِ رِزۡقُكُمۡ وَمَا تُوعَدُونَ﴾.
سابعًا: يُقسِمُ الله تعالى بنفسه المُقدَّسة بعد أن أقسَم بمخلوقاته أنّ الذي جاء به مُحمدٌ هو الحقُّ الذي لا شكّ فيه ولا شائبة ﴿فَوَرَبِّ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِنَّهُۥ لَحَقࣱّ مِّثۡلَ مَاۤ أَنَّكُمۡ تَنطِقُونَ﴾.


﴿وَٱلذَّ ٰ⁠رِیَـٰتِ ذَرۡوࣰا﴾ يُقسِمُ الله تعالى بالرياح، مُنبِّهًا إلى دورها في إثارة السحاب ما بين السماء والأرض، كما قال تعالى: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی یُرۡسِلُ ٱلرِّیَـٰحَ فَتُثِیرُ سَحَابࣰا﴾ [الروم: 48].
فمِن معاني الذَّرْو: الإثارة والنشر.
﴿فَٱلۡحَـٰمِلَـٰتِ وِقۡرࣰا﴾ الرياح التي تحمِل الوِقْر؛ والوِقْرُ هنا: السحاب المُثقَل بالماء.
﴿فَٱلۡجَـٰرِیَـٰتِ یُسۡرࣰا﴾ الرياح التي تجري بيُسرٍ وهي مُحمَّلةٌ بالسحاب الثقيل.
﴿فَٱلۡمُقَسِّمَـٰتِ أَمۡرًا﴾ الرياح التي تُوزِّعُ ماء المطر هذا على بقاعٍ مختلفةٍ، وهو من تقسيم الرزق الذي هو بيد الله سبحانه، والرياح أداةٌ وسببٌ لا غير.
وتلخّص لنا من هذا القَسَم: تكوين صورة بنسقٍ واحدٍ من إثارة الرياح للسحاب إلى حمله بعد أن يتجمَّع إلى الجريان به، ثم تقسيمه على الأرض، وهذه ظاهرةٌ كونيَّةٌ بديعةٌ تدلُّ على وحدة النظام في هذا الكون الذي أبدَعَه الله ـ.
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقࣱ﴾ أي: البعث والمعاد.
﴿وَإِنَّ ٱلدِّینَ لَوَ ٰ⁠قِعࣱ﴾ الدِّين هنا: الحساب، وواقعٌ أي: حاصلٌ لا محالة.
﴿وَٱلسَّمَاۤءِ ذَاتِ ٱلۡحُبُكِ﴾ أصلُ الحُبُك: النَّسجُ المُتقَن، والسماء منسوجة بأفلاكها ونجومها وكواكبها ومساراتها الدقيقة التي لا يصطدم بعضها ببعض.
﴿إِنَّكُمۡ لَفِی قَوۡلࣲ مُّخۡتَلِفࣲ﴾ متناقض ومضطرب.
﴿یُؤۡفَكُ عَنۡهُ مَنۡ أُفِكَ﴾ يُصرف عن الإيمان من صُرف بعناده وتكبّره.
﴿قُتِلَ ٱلۡخَرَّ ٰ⁠صُونَ﴾ دعاء بالهلاك على أصحاب القول المختلف، وهم الخرّاصون، أي: الكذّابون الذين يقولون في الله ورسوله وكتابه ما ليس لهم به عِلم.
﴿ٱلَّذِینَ هُمۡ فِی غَمۡرَةࣲ سَاهُونَ﴾ الغارقون في الضلال والغفلة.
﴿یَسۡـَٔلُونَ أَیَّانَ یَوۡمُ ٱلدِّینِ﴾ يَسألون ازدِراءً وتهكُّمًا عن يوم الحساب والجزاء.
﴿یَوۡمَ هُمۡ عَلَى ٱلنَّارِ یُفۡتَنُونَ﴾ أي: يُصْلَون في النار.
﴿ذُوقُواْ فِتۡنَتَكُمۡ هَـٰذَا ٱلَّذِی كُنتُم بِهِۦ تَسۡتَعۡجِلُونَ﴾ يقال لهم وهم في النار: ذوقوا عذابَكم الذي كنتم تسألون عنه استهزاءً، وتستعجِلونه تحدِّيًا.
﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِینَ فِی جَنَّـٰتࣲ وَعُیُونٍ ﴿١٥﴾ ءَاخِذِینَ مَاۤ ءَاتَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡۚ﴾ من النعيم، وراضُون به تمام الرضا، فهذا الذي كانوا ينتظرونه ويعملون مِن أجله.
﴿كَانُواْ قَلِیلࣰا مِّنَ ٱلَّیۡلِ مَا یَهۡجَعُونَ﴾ أي: كان نومهم وهجوعهم في الليل قليلًا.
﴿وَبِٱلۡأَسۡحَارِ هُمۡ یَسۡتَغۡفِرُونَ﴾ بمعنى أنّهم كانوا مشغُولين في الليل ووقت السحر تحديدًا بالعبادة والاستِغفار.
﴿وَفِیۤ أَمۡوَ ٰ⁠لِهِمۡ حَقࣱّ لِّلسَّاۤىِٕلِ﴾ الذي يطلُبُ العَون.
﴿وَٱلۡمَحۡرُومِ﴾ الفقير الذي يتعفَّف عن السؤال.
﴿وَفِی ٱلۡأَرۡضِ ءَایَـٰتࣱ﴾ دلائِل على الإيمان.
﴿وَفِیۤ أَنفُسِكُمۡۚ﴾ دلائِل أيضًا.
﴿وَفِی ٱلسَّمَاۤءِ رِزۡقُكُمۡ﴾ أي: تقدير رزقكم.
﴿وَمَا تُوعَدُونَ﴾ من ثوابٍ وعقابٍ، فكل ذلك مُقدَّرٌ ومحفوظٌ عنده سبحانه.
﴿فَوَرَبِّ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِنَّهُۥ لَحَقࣱّ مِّثۡلَ مَاۤ أَنَّكُمۡ تَنطِقُونَ﴾ أي: إنّ ما جاءكم به الوحي إنّما هو الحقُّ الذي لا شكَّ فيه كما لا تشُكُّون بنُطقكم، وهذا جَارٍ على عادة العرب في التأكيد، كقولك: إنِّي على يقينٍ كما أنِّي أراك وأسمعك.