سورة النجم تفسير مجالس النور الآية 33

أَفَرَءَیۡتَ ٱلَّذِی تَوَلَّىٰ ﴿٣٣﴾

تفسير مجالس النور سورة النجم

المجلس الثالث والأربعون بعد المائتين: وأن ليس للإنسان إلا ما سعَى


الآية (31- 62)


بعد تلك المقارنة بين نور الوحي وما عليه المشركون من ظلمة وضلال، شرَعَ القرآن في الشطر الثاني من هذه السورة المباركة بوضع ميزان العدل الذي تُوزن فيه أعمال الناس وما يقدِّمونه لأنفسهم في هذه الحياة، وكما يأتي:
أولًا: أكَّد القرآن الكريم أنَّ الله تعالى له ملك السماوات والأرض، وهو سبحانه الذي يتصرّف في مُلكه كيف شاء؛ بحكم أنّه هو الذي أبدع هذا الخلق، وأمدَّه بأسباب الرزق، وقدّر فيه الموت والحياة، فلا شيء إلَّا وهو خاضعٌ لربوبيّته وداخلٌ في مُلكه، حتى تلك الآلهة المزيّفة ومن يعبدها ﴿وَلِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾، ﴿وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلۡمُنتَهَىٰ ﴿٤٢﴾ وَأَنَّهُۥ هُوَ أَضۡحَكَ وَأَبۡكَىٰ ﴿٤٣﴾ وَأَنَّهُۥ هُوَ أَمَاتَ وَأَحۡیَا ﴿٤٤﴾ وَأَنَّهُۥ خَلَقَ ٱلزَّوۡجَیۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰ﴿٤٥﴾ مِن نُّطۡفَةٍ إِذَا تُمۡنَىٰ ﴿٤٦﴾ وَأَنَّ عَلَیۡهِ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأُخۡرَىٰ ﴿٤٧﴾ وَأَنَّهُۥ هُوَ أَغۡنَىٰ وَأَقۡنَىٰ ﴿٤٨﴾ وَأَنَّهُۥ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعۡرَىٰ﴾.
ثانيًا: أكَّد القرآن أنَّ كلَّ إنسانٍ مجزيٌّ بعمله خيرًا كان أو شرًّا ﴿لِیَجۡزِیَ ٱلَّذِینَ أَسَـٰۤــُٔواْ بِمَا عَمِلُواْ وَیَجۡزِیَ ٱلَّذِینَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى﴾، ﴿أَفَرَءَیۡتَ ٱلَّذِی تَوَلَّىٰ ﴿٣٣﴾ وَأَعۡطَىٰ قَلِیلࣰا وَأَكۡدَىٰۤ ﴿٣٤﴾ أَعِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡغَیۡبِ فَهُوَ یَرَىٰۤ ﴿٣٥﴾ أَمۡ لَمۡ یُنَبَّأۡ بِمَا فِی صُحُفِ مُوسَىٰ﴿٣٦﴾ وَإِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ ٱلَّذِی وَفَّىٰۤ ﴿٣٧﴾ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةࣱ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ﴿٣٨﴾ وَأَن لَّیۡسَ لِلۡإِنسَـٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴿٣٩﴾ وَأَنَّ سَعۡیَهُۥ سَوۡفَ یُرَىٰ ﴿٤٠﴾ ثُمَّ یُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَاۤءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ﴾.
ثالثًا: فتح القرآن بابًا واسعًا للتوبة والمغفرة، مُبيِّنًا طبيعةَ الإنسان واستِعدادَه الفِطريَّ للوقوع في الخطأ واقتِراف اللَّمَم ﴿ٱلَّذِینَ یَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰۤىِٕرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَ ٰ⁠حِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَ ٰ⁠سِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ﴾.
رابعًا: أكَّد القرآن علم الله الشامل بحال الناس وما يكتسبونه أو يقترفونه من أعمالٍ، فلا مجال للظلم أو الغَبْن ﴿هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةࣱ فِی بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰۤ﴾.
خامسًا: حذَّر القرآن أولئك المكذِّبين المعاندين من مصيرٍ كمصير الأمم السابقة الذين كذَّبوا أنبياءهم ﴿وَأَنَّهُۥۤ أَهۡلَكَ عَادًا ٱلۡأُولَىٰ ﴿٥٠﴾ وَثَمُودَاْ فَمَاۤ أَبۡقَىٰ ﴿٥١﴾ وَقَوۡمَ نُوحࣲ مِّن قَبۡلُۖ إِنَّهُمۡ كَانُواْ هُمۡ أَظۡلَمَ وَأَطۡغَىٰ ﴿٥٢﴾ وَٱلۡمُؤۡتَفِكَةَ أَهۡوَىٰ ﴿٥٣﴾ فَغَشَّىٰهَا مَا غَشَّىٰ ﴿٥٤﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ ﴿٥٥﴾ هَـٰذَا نَذِیرࣱ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلۡأُولَىٰۤ ﴿٥٦﴾ أَزِفَتِ ٱلۡـَٔازِفَةُ ﴿٥٧﴾ لَیۡسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾.
سادسًا: ثم دعاهم في خِتام السورة إلى النهوض من غفلتهم ولهوهم ولعبهم، مبيّنًا لهم طريق خلاصهم ونجاتهم، وما فيه خيرهم وعِزُّهم ﴿أَفَمِنۡ هَـٰذَا ٱلۡحَدِیثِ تَعۡجَبُونَ ﴿٥٩﴾ وَتَضۡحَكُونَ وَلَا تَبۡكُونَ ﴿٦٠﴾ وَأَنتُمۡ سَـٰمِدُونَ ﴿٦١﴾ فَٱسۡجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعۡبُدُواْ ۩﴾.


﴿وَیَجۡزِیَ ٱلَّذِینَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى﴾ أي: يجزي الذين يعملون الحسنات بأحسن مما عملوا.
﴿ٱلَّذِینَ یَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰۤىِٕرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَ ٰ⁠حِشَ﴾ هذا وصفٌ للذين أحسنوا؛ فهم يعملون الحسنات، ويجتنبون المنهيات، وهذه هي حقيقة التقوى؛ فعل الحسنات، وترك السيئات.
وكبائر الإثم: كلّ ذنبٍ استوجب عقوبةً محددةً، كموجِبات الحدود والقصاص، أو موجِبات اللعن والفسق، ودخول النار، ونحو ذلك، وأما الفواحش: فهي الكبائر المُغلّظة؛ كالزنا والقتل والسحر، وقد شاع استعمال الفاحشة في انتِهاك الأعراض خاصَّة، والله أعلم.
﴿إِلَّا ٱللَّمَمَۚ﴾ واللَّمَم: صغائر الذنوب ما بقِيَت في إطار الزلَّة والغفلة، أما المتهاوِنُ فيها والمُكثِرُ منها والمُصرُِّ عليها فمُعرَّضٌ للتهلكة؛ لأنّه لا صغيرة مع الإصرار والتكرار والإكثار، فالصغائر إذا اجتمَعن صِرنَ من جملة الكبائر، والله أعلم.
﴿وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةࣱ﴾ جمع جَنِين.
﴿فَلَا تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمۡۖ ﯜ﴾ لا تمدحوا أنفسكم، وقد تُطلق النفس على الجماعة التي ينتمي إليها الفرد؛ كالحزب والقبيلة ونحوهما، فهذا داخل في النهي أيضًا.
﴿أَفَرَءَیۡتَ ٱلَّذِی تَوَلَّىٰ﴾ عن الحق.
﴿وَأَعۡطَىٰ قَلِیلࣰا وَأَكۡدَىٰۤ﴾ أي: تصدّق بالقليل ثم قطع.
﴿أَعِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡغَیۡبِ فَهُوَ یَرَىٰۤ﴾ أي: هذا الذي تولَّى عن الحقِّ بعد أن أنفَقَ ما يظنُّ أنّه يُبرِئ الذمَّة، أعنده شيء من الغيب يستَنِدُ إليه؟ وهذا سلوكٌ مُتكررٌ؛ فكثيرًا ما ترى ظالمًا لا يكفُّ عن الظلم ومُناصَرة الظالمين، فإذا تذكَّر شيئًا من حديث الآخرة ذهَبَ ليبني مسجدًا، أو ليكفل يتيمًا، أو يأتي لشيخٍ يطلب منه الدعاء، ثم يُصِرُّ على نهجه الباطل مُواليًا للكافرين مُعاديًا للمؤمنين، ولا شكّ أنّ هذه الظاهرة تجمع بين فطرةٍ مشوشةٍ مضطربةٍ وبين هوًى غالبٍ وشهوةٍ طاغيةٍ.
﴿وَإِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ ٱلَّذِی وَفَّىٰۤ﴾ أتم ما أمره الله به وأدّى كلّ ما عليه.
﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةࣱ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ﴾ أي: لا تحمِلُ حاملةٌ حِمْلَ غيرها، وفي هذا تأكيدٌ لعقيدة العدل الإلهي، وحضٌّ على تحمُّل المسؤوليّة، ودحضٌ لمقولة الشفعاء والوسطاء الذين يتحمَّلون عن المُذنِب ذنوبه، وعن المُجرِم جرائمه.
﴿وَأَن لَّیۡسَ لِلۡإِنسَـٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾ تأكيدٌ متكررٌ لعقيدة العدل الإلهي.
﴿وَأَنَّ سَعۡیَهُۥ سَوۡفَ یُرَىٰ﴾ وهذا من تمام العدل، فلا يعاقب الله الظالِمَ والمجرمَ بناءً على عِلمه سبحانه، بل بعد أن يعرِضَ له سجِلَّ أعماله حتى يراها كاملةً ويُقِرَّ بها.
﴿ثُمَّ یُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَاۤءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ﴾ أي: يُكافَأ على عمله بأتم الجزاء وأكمله.
﴿وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلۡمُنتَهَىٰ﴾ فكلّ الأمور راجعة إليه سبحانه، وكلّ الخلائق عائدة إليه كذلك.
﴿وَأَنَّهُۥ هُوَ أَضۡحَكَ وَأَبۡكَىٰ﴾ أي: خلق قوة الضحك في الإنسان كما خلق قوّة البكاء، وخلق أسبابهما أيضًا من السرور والحزن ونحوهما، وهاتان آيتان من آيات الله في خلق الإنسان.
﴿وَأَنَّهُۥ هُوَ أَمَاتَ وَأَحۡیَا﴾ أي: خلق الموت والحياة.
﴿وَأَنَّهُۥ خَلَقَ ٱلزَّوۡجَیۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰ﴾ وهذا من دلائل قُدرته وحكمته وعنايته بخلقه؛ إذ لا يمكن تصوُّر استمرار الحياة إلّا بهذه الثنائيَّة: ثنائيّة الذَّكر والأنثى في كلّ الكائنات الحيَّة، ومعلوم أنّ الذَّكر لم يصنَع لنفسه الأنثى ليكمِّل بها وجوده، ولا الأنثى كذلك، بل هناك من خلَقَهما لبعضهما، وهما غافلان لا يَدرِيان.
﴿مِن نُّطۡفَةٍ إِذَا تُمۡنَىٰ﴾ أي: إذا تُقذَف في الرحم.
﴿وَأَنَّ عَلَیۡهِ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأُخۡرَىٰ﴾ أي: كما أنشأكم أوَّل مرة سيُنشئكم النشأة الأخرى.
﴿وَأَنَّهُۥ هُوَ أَغۡنَىٰ وَأَقۡنَىٰ﴾ أي: هو الذي أمدَّ الناسَ بأسباب الرزق، فأغناهم بالمال المتداول بينهم؛ كالذهب، والفضة، والنقود، وأقناهم بالبيوت والمزارع الثابتة، فأقنَى من القُنْية والاقتناء، وهو: تملُّك الأصول الثابتة ، والله أعلم.
﴿وَأَنَّهُۥ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعۡرَىٰ﴾ والشِّعرَى: كوكب عبَدَه بعض العرب في الجاهليّة واتخذوه إلهًا.
﴿وَأَنَّهُۥۤ أَهۡلَكَ عَادًا ٱلۡأُولَىٰ ﴿٥٠﴾ وَثَمُودَاْ فَمَاۤ أَبۡقَىٰ﴾ يُذكِّر مُشركِي العرب بأسلافهم الذين أهلَكَهم الله؛ كعادٍ وثمود فلم يُبقِ منهم أحدًا.
﴿وَٱلۡمُؤۡتَفِكَةَ أَهۡوَىٰ﴾ أي: القُرى المُؤتفِكة، والمُؤتفِكة المُنقلِبة بما أصابَها من العذاب، وهي قُرى قوم لوطٍ، و﴿أَهۡوَىٰ﴾ أي: أشدّ سقوطًا في العذاب من غيرها.
﴿فَغَشَّىٰهَا مَا غَشَّىٰ﴾ أي: فغطَّاها من العذاب ما غطَّاها.
﴿فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ﴾ الخطابُ لرسولِ الله يمُنُّ عليه الله بنِعمِهِ الجليلة، وعنايته التامَّة، وتتمارَى أي: تشُكُّ، وحاشَا رسول الله من الشكِّ، وإنّما هو نفيٌ بصيغة السؤال، أي: قد تحصَّلَ لك اليقين التامُّ بهذه الآلاء وما فيها من الدلائل.
وصيغةُ السؤال أفادَت التعريضَ بأولئك الذين يُنكِرُون حقائِقَ الأشياء، ويتنكَّرُون لنِعمةِ الله عليهم.
﴿هَـٰذَا نَذِیرࣱ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلۡأُولَىٰۤ﴾ كلامٌ مستأنفٌ، قُصِدَ به التذكير بما استهلَّت به السورة؛ فمحمدٌ إنّما هو نذيرٌ ورسولٌ من جِنس الرسل السابقين، جاء برسالة الله وهو المؤتمن عليها؛ إذ لا ينطقُ عن الهوى، إنْ هو إلا وحيٌ يوحى.
﴿أَزِفَتِ ٱلۡـَٔازِفَةُ﴾ أي: اقتربت الساعة.
﴿لَیۡسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾ بمعنى أنّها واقعةٌ لا محالة، ولا يقدر على دفعها أحدٌ من الخلق.
﴿أَفَمِنۡ هَـٰذَا ٱلۡحَدِیثِ تَعۡجَبُونَ﴾ أي: أتعجَبون من هذا الوعيد والتحذير الشديد.
﴿وَتَضۡحَكُونَ وَلَا تَبۡكُونَ﴾ وهذا دليل غفلتهم وسكرتهم.
﴿وَأَنتُمۡ سَـٰمِدُونَ﴾ لاهُون غافلون.
﴿فَٱسۡجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعۡبُدُواْ ۩﴾ هذا أمرٌ صريحٌ للمشركين بالسجود والدخول في طاعة الله تعالى، وقد جاء بصيغة الحسم والجزم بعد سلسلة من المؤثِّرات العقليَّة والروحيَّة التي اختصَّت بها هذه السورة.
وقد ورد في «الصحيحين»: أنَّ النبيَّ سجَدَ بالنَّجم، وسجَدَ معه المسلمون والمشركون، ولا شكَّ أنّ هذا دليلٌ على قوَّة القرآن الروحيَّة القادرة على تحريك الفِطرة السليمة مهما غشِيَتْها ظُلمةُ الشركِ والجهلِ.