﴿ٱسۡتَكۡثَرۡتُم مِّنَ ٱلۡإِنسِۖ ﴾ جعلتم كثيرًا منهم أعوانًا لكم في الضلالة والسحر والشعوذة.
﴿ٱسۡتَمۡتَعَ بَعۡضُنَا بِبَعۡضࣲ﴾ تبادل الخدمات والمصالح الآنيَّة والمتاع الزائل.
﴿یَـٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ أَلَمۡ یَأۡتِكُمۡ رُسُلࣱ مِّنكُمۡ ﴾ ظاهرٌ في بعثة الرسل من
الجن ومن الإنس، والاكتفاء بهذا الظاهر أَولَى من الدخول في المجادلات والتأويلات؛ لأنها مسألة غيبيَّة بَحتة لا ينبَنِي عليها عمل، كما أن معنى الرسل في
الجن ليس بالضرورة أن يكون كمعناه في الإنس، كما أن هذا الخبر لا يُؤخَذ بمعزلٍ عن الأخبار الأخرى، ومنها: أن نفَرًا من الجنِّ قد استمعوا للقرآن فقادهم هذا الاستماع إلى الإيمان، وهذه قرينةٌ أنّهم مُخاطَبُون بهذه الرسالة، والله أعلم.
﴿ذَ ٰلِكَ أَن لَّمۡ یَكُن رَّبُّكَ مُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ بِظُلۡمࣲ وَأَهۡلُهَا غَـٰفِلُونَ ﴾ أصلٌ في أن الله لا يعاقب غافلًا لم تبلغه الدعوة الصحيحة، فلا عقوبة قبل إرسال الرسل وتبيين الشرائع؛ لأن هذه العقوبة ستكون عقوبة ظالمة، والله منزَّه عن الظلم، وعليه فلا معنى للجدل حول مصير الشعوب التي لا ندري أبَلَغَتها الدعوة أم لا، ولو بَلَغَتها فلا ندري هل الذي بلَّغَهم كان عالمًا بها وناصِحًا أمينًا أو لا؟ فالأَولَى الاهتمام بواجب الدعوة، وترك الأحكام الأخرويَّة التي لا يعلمها إلا الله.
﴿وَرَبُّكَ ٱلۡغَنِیُّ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۚ﴾ لأنه غنيٌّ، فهو ليس بحاجة إلى الظلم كحال المتنافسين على متاع الدنيا وزينتها، ولأنه ذو الرحمة فهو لا يحبُّ الظلم، ولا يرى فيه ما يراه الجبابرة من لذَّة السطوة والاستعلاء على الضعفاء والفقراء، وهاتان الصفتان الإلهيَّتان اقترنتا في هذا الموضع لتنفِيَا عن الله الظلم بكل أشكاله ودوافعه.
﴿قُلۡ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّی عَامِلࣱۖ﴾ فيه وعيدٌ وتهديدٌ شديدٌ، كأنه يقول: اعمَلوا ما شئتم، وابقوا على ضلالكم وعنادكم وسوف تعلمون، وفيه أيضًا مقابلة العمل بالعمل، فأعمال الشرِّ والكيد للإسلام لا بدَّ أن يقابلها عملٌ يكافئها قوةً، ويخالفها منهجًا
﴿ إِنِّی عَامِلࣱۖ﴾ ولم يقل: إني داعٍ أو منتظرٍ لقدر الله وعقابه لكم، فالعمل مسؤوليَّة، ومن قَصَّر في العمل لم يُسعِفه القدر.
﴿وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلۡحَرۡثِ وَٱلۡأَنۡعَـٰمِ نَصِیبࣰا فَقَالُواْ هَـٰذَا لِلَّهِ بِزَعۡمِهِمۡ وَهَـٰذَا لِشُرَكَاۤىِٕنَاۖ ﴾ وهذا من جهلهم وظلمهم، فكيف يُعطَى للأوثان نصيبٌ من القرابين أنعامًا وثمارًا وهذه الأوثان ليس لها نصيبٌ في خلق هذه
الأنعام، ولا هذه الزروع والأشجار؟! فالله وحده هو الذي ذرَأَها وخلقها وسخَّرَها لهذا الإنسان.
﴿فَمَا كَانَ لِشُرَكَاۤىِٕهِمۡ فَلَا یَصِلُ إِلَى ٱلـلَّــهِۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ یَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَاۤىِٕهِمۡۗ﴾ فهم لم يكتفوا بالقسمة الظالمة الكافرة؛ بل كانوا يمِيلُون على نصيب الله فيأخذون منه، ويتساهلون فيه ما لا يأخذونه، أو يتساهلون فيه من نصيب الأوثان، وإذا اختلط هذا بهذا احتاطوا للأوثان أكثر، وهذا السلوك يذكره القرآن نموذجًا لحالة الجهل وانعدام الموازين في المجتمعات البشريَّة التي تتخلَّى عن الوحي.
﴿وَلِیَلۡبِسُواْ عَلَیۡهِمۡ دِینَهُمۡۖ﴾ وهو هدفٌ كبيرٌ من أهداف الباطل؛ إذ التديُّن فطرة مغروزة في النفوس لا يمكن اقتلاعه أو محوه؛ ولذلك كان التحريفُ والتلبيسُ أيسَر وأقرَب، وهذه معضلة بشريَّة عامَّة في مجال التصورات والسلوكيات الدينية.
﴿وَقَالُواْ هَـٰذِهِۦۤ أَنۡعَـٰمࣱ وَحَرۡثٌ حِجۡرࣱ لَّا یَطۡعَمُهَاۤ إِلَّا مَن نَّشَاۤءُ ﴾ هو نوعٌ من الظلم مُلتبِسٌ باسم الدين، كما هو دَيدَن الكهنة والسدنة الذين يتحكَّمُون بالموارد الدينيَّة وببعض أموال الناس من حرثٍ ونَعَمٍ بلا حقٍّ ولا حُجَّة.
﴿وَأَنۡعَـٰمٌ حُرِّمَتۡ ظُهُورُهَا﴾ أي: حرَّمُوا على الناس ركوبها كجزءٍ من شهوة التحكم في أموال الناس وتصرفاتهم.
﴿وَقَالُواْ مَا فِی بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ خَالِصَةࣱ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰۤ أَزۡوَ ٰجِنَاۖ وَإِن یَكُن مَّیۡتَةࣰ فَهُمۡ فِیهِ شُرَكَاۤءُۚ﴾ الظاهر أنه الجَنين الذي يُخرج من بطن أمه بعد ذكاتها، فإن خرج حيًّا فهو للرجال خاصة، وإن خرج ميتًا فالرجال شركاء مع النساء! وهذا نموذجٌ للظلم الاجتماعي، الذي يتجاوَز في بعض الأحيان هذا التمييز الغذائي إلى التصفية الجسديَّة كما في الآية التالية.
﴿قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِینَ قَتَلُوۤاْ أَوۡلَـٰدَهُمۡ سَفَهَۢا بِغَیۡرِ عِلۡمࣲ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفۡتِرَاۤءً عَلَى ٱللَّهِۚ﴾ المعروف في الجاهلية أنهم كانوا يئِدُون البنات خشيةَ الإملاق، أو خوفَ العار، لكن الآية تُشيرُ إلى قتلٍ آخر مُلتبِسٍ بالدين
﴿ٱفۡتِرَاۤءً عَلَى ٱللَّهِۚ﴾ وكأنهم يتقرَّبُون بهذا القتل إلى الله، وربما كان هذا في بعض النذور الآثمة، وفي حالات مخصوصة، كما في قصة عبد الله والد النبيِّ ج، والله أعلم.