المجلس الحادي والستون: الشريعةُ السَّمحة
من الآية (141- 150)
في مُقابِل الخرافة التي تلُفُّ المجتمع الجاهلي في التصور والسلوك والمعتقد يُقدِّم القرآن الصورة الثانية، صورة المجتمع المؤمن الذي تحكمه شريعة الوحي، وفيها مُقارنة ومحاججة للتصوُّرات والمفاهيم الجاهلية:
أولًا: إن الذي خلق الحَرثَ والنَّعَم هو الله وحده
﴿۞ وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَنشَأَ جَنَّـٰتࣲ مَّعۡرُوشَـٰتࣲ وَغَیۡرَ مَعۡرُوشَـٰتࣲ﴾،
﴿وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ حَمُولَةࣰ وَفَرۡشࣰاۚ﴾.
ثانيًا: إن الله خلق هذا كله للإنسان قُوتًا ومتعةً وزينةً
﴿كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦۤ إِذَاۤ أَثۡمَرَ ﴾،
﴿وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ حَمُولَةࣰ وَفَرۡشࣰاۚ كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ﴾.
ثالثًا: إن الأصلَ في كل هذا الإباحة المطلقة، وأن
التحريم مخصوصٌ بأدلةٍ ظاهرةٍ
﴿قُل لَّاۤ أَجِدُ فِی مَاۤ أُوحِیَ إِلَیَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمࣲ یَطۡعَمُهُۥۤ إِلَّاۤ أَن یَكُونَ مَیۡتَةً أَوۡ دَمࣰا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِیرࣲ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَیۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ﴾ وهذا التخصيص على قلَّتِه مخصوص بقواعد الضرورة
﴿فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَیۡرَ بَاغࣲ وَلَا عَادࣲ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾.
رابعًا: إن الذي حرَّمه الله على يهود إنما كان على سبيل العقوبة المحدودة زمانًا ومكانًا وحالًا، وليست تشريعًا خالدًا
﴿وَعَلَى ٱلَّذِینَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا كُلَّ ذِی ظُفُـرࣲۖ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ وَٱلۡغَنَمِ حَرَّمۡنَا عَلَیۡهِمۡ شُحُومَهُمَاۤ﴾،
﴿ذَ ٰلِكَ جَزَیۡنَـٰهُم بِبَغۡیِهِمۡۖ﴾ فهذه عقوبات لا تصلح للتأسِّي ولا للقياس.
خامسًا: إن الذي يحرِّم على الناس غير ما حرَّمَه الله مُطالَب بالدليل، وإلا كان كاذبًا مفتريًا على الله
﴿قُلۡ ءَاۤلذَّكَرَیۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَیَیۡنِ أَمَّا ٱشۡتَمَلَتۡ عَلَیۡهِ أَرۡحَامُ ٱلۡأُنثَیَیۡنِۖ نَبِّـُٔونِی بِعِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾،
﴿ أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَاۤءَ إِذۡ وَصَّىٰكُمُ ٱللَّهُ بِهَـٰذَاۚ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبࣰا لِّیُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَیۡرِ عِلۡمٍۚ﴾،
﴿قُلۡ هَلُمَّ شُهَدَاۤءَكُمُ ٱلَّذِینَ یَشۡهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَـٰذَاۖ فَإِن شَهِدُواْ فَلَا تَشۡهَدۡ مَعَهُمۡۚ ﴾ وهذه التأكيدات تبيِّن خطورةَ
التحريم والتضييق على الناس بغير وجه حق، وهذا من تمامِ سماحة هذه الشريعة ومنهجها المنبثق من رحمة الله العامة الشاملة.
سادسًا: إن مقابل هذه النعم هناك حقٌّ يؤدِّيه المُوسِرُون للمُعسِرين، والمتنعِّمون للمحرُومِين محبةً ورحمةً وتكافلًا يتقرَّبُ به العبدُ من معبُوده، ثم من قلب أخيه
﴿ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ یَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوۤاْۚ﴾ لأن الإسراف مُضِرٌّ بالنفس، ومُضِرٌّ بالثروة العامة، ومُضِرٌّ بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، فالإسراف المبالَغ به رياءً وكبرًا وتميُّزًا مع وجود الجَوعَى والمحرومين يضرُّ بالبنية التركيبيَّة للمجتمع، ويُثِيرُ الحسدَ والنفرةَ والأعمال السيئة؛ كالسرقة والرشوة ونحوهما.
يلاحظ هنا أن القرآن لم يعرِض للعلاقة بين
الجن والإنس مع أنه أثارها في المشهد السابق حينما تكلَّم عن عمَهِ المجتمع الجاهلي وضلاله، أما في المجتمع الإسلامي فالأصلُ أن لا علاقة، فالجنُّ عالمٌ غيبيٌّ نؤمِنُ بخبر الوحي فيه، ولسنا مُكلَّفين تجاههم بأيِّ تكليفٍ، أما مسألة الوأد وقتل الأولاد فقد ردَّها القرآن في موضعها، وبيَّن زيفها وبطلانها.