سورة الأنعام تفسير مجالس النور الآية 47

قُلۡ أَرَءَیۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ بَغۡتَةً أَوۡ جَهۡرَةً هَلۡ یُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ ﴿٤٧﴾

تفسير مجالس النور سورة الأنعام

المجلس الخامس والخمسون: حوار مع المشركين


من الآية (37- 51)


مع تأكيد القرآن أن هؤلاء المكذِّبين لن يؤمنوا حتى لو أنزل الله لهم ملكًا أو قرطاسًا يلمسونه بأيديهم جاءت هذه الآيات تحاورهم وتقيم الحجَّة عليهم، وفيه بلاغ لمن خلفهم من الضعفاء والمتردِّدين، والذين التبس عليهم الأمر لشدَّة اللغو بالباطل، ومكر الليل والنهار، ومحاصرة الكلمة الصادقة، والتضييق على أصحابها ومطاردتهم.
وقد جاء الحوار بمنهجيَّةٍ مختلفةٍ إلى حدٍّ كبيرٍ عن حوار القرآن مع الكتابِيِّين:
أولًا: إن رسالة الأنبياء بشارة بالحق، ونذارة عن الباطل ﴿وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِینَ إِلَّا مُبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَۖ﴾ وهذا الحصر نفيٌ لما كانت تُشيعُه قريشٌ عن أغراض شخصيَّة أو دنيويَّة، وتنزيه شخصيَّة الداعية عن هذه الشبهات مقدِّمة لقبول دعوته؛ ولذلك تكرَّر في القرآن نحو: ﴿لَّاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ أَجۡرًاۖ﴾.
وأهل الباطل في العادة حينما يعجزون عن ردِّ الحقِّ والتشويش عليه يلجَؤون إلى التشويش على حمَلَته والداعين إليه، والغايةُ عندهم واحدة.
ثانيًا: إن النبي لا يغري الناس بالجاه، ولا بالمال، ولا بالمتاع الزائل، كما يفعل الملوك والسلاطين والباحثون عن الصدارة والوجاهة، وهذا فيه تنزيهٌ لمقام النبوَّة من جانب، وفيه تنقية الأتباع وتزكيتهم من جانب آخر ﴿قُل لَّاۤ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِی خَزَاۤىِٕنُ ٱللَّهِ وَلَاۤ أَعۡلَمُ ٱلۡغَیۡبَ وَلَاۤ أَقُولُ لَكُمۡ إِنِّی مَلَكٌۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا یُوحَىٰۤ إِلَیَّۚ﴾.
ثالثًا: أخذُ المشركين إلى العالم الأوسع، وفتح أعينهم على الحقائق الكبرى المبثوثة في هذا الكون؛ علَّهم يتخلَّصُون من العقد الضيِّقة التي تتولَّد نتيجةَ الاحتكاكات اليوميَّة، والمنافسات المجتمعيَّة الصغيرة ﴿وَمَا مِن دَاۤبـَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَــٰۤىِٕرࣲ یَطِیرُ بِجَنَاحَیۡهِ إِلَّاۤ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ﴾.
فأنتم لا تسكنون في هذا العالم لوحدكم، ولن تستطيعوا أن تعيشوا لوحدكم، وهذا العالم كلُّه محكوم بناموسٍ واحد، وهو الشاهدُ على ربوبيَّة الخالق العظيم لهذا الخلق، وكل ما يحتاجه الإنسان لإدراك هذه الحقيقة أن يفتح مغاليق عقله وفكره ﴿وَٱلَّذِینَ كَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِنَا صُمࣱّ وَبُكۡمࣱ فِی ٱلظُّلُمَـٰتِۗ ﴾ وهي ظلمات الجهل والحسد والتكبُّر التي تُعمي وتُصِمُّ ﴿هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِیرُۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾.
رابعًا: أخذُهم إلى قرارة أنفسهم، وكوامِنِ فطرتهم بعيدًا عن الصخب وضوضاء المجتمع المرتبك، وتأثيرات الملأ وذوي الأغراض المتشابكة والمختلفة ﴿قُلۡ أَرَءَیۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَیۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ ﴿٤٠﴾ بَلۡ إِیَّاهُ تَدۡعُونَ فَیَكۡشِفُ مَا تَدۡعُونَ إِلَیۡهِ إِن شَاۤءَ وَتَنسَوۡنَ مَا تُشۡرِكُونَ﴾، ﴿قُلۡ أَرَءَیۡتُمۡ إِنۡ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمۡعَكُمۡ وَأَبۡصَـٰرَكُمۡ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنۡ إِلَـٰهٌ غَیۡرُ ٱللَّهِ یَأۡتِیكُم بِهِۗ ٱنظُرۡ كَیۡفَ نُصَرِّفُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ ثُمَّ هُمۡ یَصۡدِفُونَ﴾.
فالمشركون يعرفون أن آلهتهم لن تجلِب لهم خيرًا، ولن تدفع عنهم شرًّا، واستنطاق هذه الحقيقة من أقوى طرق الدعوة معهم ومُحاجَجتهم في ذات أنفسهم.
خامسًا: إن العذاب الذي هو دون الاستئصال من نحو جوعٍ أو مرضٍ مدعاةٌ للتضرُّع والخضوع للحقِّ، وهذا هو الشأن في سلوك المجتمعات البشريَّة، وهو حاصلٌ ومتكرِّرٌ كما في النقطة السابقة، لكن بعض الناس تقسُوا قلوبهم؛ لشدَّة تزيين الباطل في أنفسهم، ومحاولة إرضاء ضمائرهم به حتى يتمكَّن من نفوسهم كما يتمكَّن الحقُّ في نفوس أهله، وذلك أشد أنواع الضلال والغواية ﴿فَلَوۡلَاۤ إِذۡ جَاۤءَهُم بَأۡسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـٰكِن قَسَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَزَیَّنَ لَهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ مَا كَانُواْ یَعۡمَلُونَ﴾ وهذا شبيه بقوله في المقطع السابق: ﴿ثُمَّ لَمۡ تَكُن فِتۡنَتُهُمۡ إِلَّاۤ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشۡرِكِینَ﴾.
سادسًا: تنبيههم أن دوام الحال من المحال، وأن الجاه والنعيم الذي هم فيه لن يبقى، ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَیۡهِمۡ أَبۡوَ ٰ⁠بَ كُلِّ شَیۡءٍ حَتَّىٰۤ إِذَا فَرِحُواْ بِمَاۤ أُوتُوۤاْ أَخَذۡنَـٰهُم بَغۡتَةࣰ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ﴾ وفي الآية إشارة إلى سبب تكبُّرهم وتعاليهم على الحقِّ، وهو الفرح بما عندهم من الجاه والمتاع.
سابعًا: تحذيرهم من عذاب الله الذي ينتظرهم إن أصرُّوا على تكذيبهم وكفرهم ﴿قُلۡ أَرَءَیۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ بَغۡتَةً أَوۡ جَهۡرَةً هَلۡ یُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ﴾.
ثامنًا: ترغيبهم بنعيم الله الدائم وأمنه وطمأنينته ﴿فَمَنۡ ءَامَنَ وَأَصۡلَحَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ﴾.
يُلاحظ هنا أن منهجيَّة الحوار مع المعاندين المكذِّبِين تعتمد على تحريك الجوانب الإيجابيَّة في داخل النفوس، فالخطابُ خطاب للنفوس أكثر من كونه خطابًا للعقول؛ وذلك لأنَّ المشكلة التي تحُولُ بينهم وبين الحقِّ إنما هي مشكلة نفسيَّة، فلم يكن أهلُ مكة أهل علم وفلسفة ولا كتاب سابق، فاحتاجوا إلى هذا الخطاب، بخلاف الآخرين من أهل الكتاب ونحوهم.


﴿وَمَا مِن دَاۤبـَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ كلُّ كائنٍ حيٍّ متحرِّكٍ على هذه الأرض.
﴿إِلَّاۤ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ ﴾ أي: مجاميع، لكلِّ مجموعة نظامها الخاص بها، تتكاثر وتتحرك وتعيش ضمن ناموسها الذي وضعه الله لها، فالتشابه مع البشر إنما هو من حيث التحرُّك ضمن الناموس الكوني، وليس في شكل الخلقة وخصوصيتها؛ لأن كلَّ أمة في هذا الخلق لا تشبه أمة أخرى، فالسباع نفسها لا تتشابه، وكذا الطيور، والأسماك، فعدم مشابهتها للبشر من باب أَولَى.
﴿مَّا فَرَّطۡنَا فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مِن شَیۡءࣲۚ ﴾ ما تركنا ولا أهملنا شيئًا، فكلُّ هذه الأمم من الإنس والجن وسائر الحيوان قد أحاط الله بها علمًا، ووضع لها نظامها وطريقة عيشها، وقدَّر لها أرزاقها وآجالها.
﴿حَتَّىٰۤ إِذَا فَرِحُواْ﴾ هو فرح البطر والغرور، أما الفرح بفضل الله ونعمته فهو مشروع، وهو الفرح المستوجب للتواضع والشكر.
﴿بَغۡتَةࣰ﴾ فجأة من غير ترقُّب منهم ولا مقدِّمات.
﴿مُّبۡلِسُونَ ﴾ يائِسُون.
﴿فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْۚ ﴾ الدابر هو آخر القوم، وقطع دابر القوم استئصالهم أولهم وآخرهم.
﴿وَٱلَّذِینَ كَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِنَا یَمَسُّهُمُ ٱلۡعَذَابُ بِمَا كَانُواْ یَفۡسُقُونَ﴾ الفسق الخروج عن الجادَّة، ويطلق على الكفر؛ لأنه خروج عن الإيمان، ويطلق على المعصية؛ لأنه خروج عن الطاعة.
﴿وَأَنذِرۡ بِهِ ٱلَّذِینَ یَخَافُونَ أَن یُحۡشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ ﴾ إشارة إلى أن دعوة الصادقين والجادِّين في البحث، والذين ينتابهم القلق على مصيرهم لئلَّا يقعوا في الباطل أَولَى من الانشغال بمجادلة المعاندين والمتكبرين، مع أن أصل الدعوة للعالمين كلِّ العالمين.