سورة الأنعام تفسير مجالس النور الآية 87

وَمِنۡ ءَابَاۤىِٕهِمۡ وَذُرِّیَّـٰتِهِمۡ وَإِخۡوَ ٰ⁠نِهِمۡۖ وَٱجۡتَبَیۡنَـٰهُمۡ وَهَدَیۡنَـٰهُمۡ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ ﴿٨٧﴾

تفسير مجالس النور سورة الأنعام

المجلس السابع والخمسون: الهَديُ الإبراهيميُّ


من الآية (74- 90)


في هذه الآيات تقصُّ علينا سورة الأنعام نموذجًا للمناظرة العلميَّة بصيغة الناظر لا المناظر، وبأسلوب الباحث لا المجادل، وهذا - لا شكَّ - أقرب للقلوب وأدعى للقبول، وقد جاءت هذه المناظرة في سياقٍ متَّصلٍ وإطارٍ متكاملٍ في معركة القرآن الكبرى مع الآلهة المزيَّفة التي صنعها الإنسان بنفسه لينازع بها سلطان الله في خلقه وملكه:
أولًا: دعوة الأقربين قبل الأبعَدين ﴿۞ وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمُ لِأَبِیهِ ﴾ وهذا نهج النبيين عامة ﴿وَأَنذِرۡ عَشِیرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِینَ﴾ [الشعراء: 214]، وهذا يلقي في نفوس الآخرين طمأنينة وثقة أن هؤلاء الأنبياء لا يعملون لمطمح شخصي، ولا لمطمع دنيوي، بل هم يدعون إلى الحقِّ والخير، ويبدؤون بأنفسهم ثم بأقرب الناس إليهم؛ ليتحمَّلوا أعباء الطريق من بدايته، وأتعاب الحرث والغرس قبل وفرة الظل، ونضج الثمر، ولولا البعد الأخروي في هذا لما بدأ الأنبياء بآبائهم وأبنائهم وأزواجهم، مع التأكيد المتكرر ﴿قُل لَّاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ أَجۡرًاۖ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡعَـٰلَمِینَ﴾.
ثانيًا: الدعوة بالعلم ﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ نُرِیۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِیَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِینَ﴾ فما كشفه الله لإبراهيم من ملكوته أورث عنده علمًا يقينيًّا بتلك الحقائق الإيمانيَّة التي يدعو لها، وهذه إشارة أن العلم شرط الدعوة، وأن اليقين أساس العمل.
ثالثًا: إن النظر العلمي الذي يبدأ بملاحظة الظواهر وافتراض الفرضيات، ثم تصنيف المقدمات وتركيبها، ثم استظهار النتائج هذا هو طريق المعرفة الأول، فإبراهيم عليه السلام رأى كوكبًا ثم افترض فرضًا؛ أن يكون هذا الكوكب ربًّا لأنه أكبر من الأصنام وأعلى وأكثر فائدة، فمن جوَّز عبادة الحجر المظلم الصغير لماذا لا يجوِّز عبادة الكوكب الكبير المنير؟ فلما أفل الكوكب بطلت الفرضية؛ لأن الربَّ لا ينبغي أن يزول، ولا ينبغي أن يترك مربوبيه.
فلما رأى القمر افترض فرضيَّة أخرى؛ أن هذا أكبر من ذلك الكوكب، وأظهر بزوغًا وإشراقًا، فلعلَّه يثبت ولا يعتَرِيه ما اعترى الكوكب، فلما أفل بطلت الفرضية أيضًا، وهكذا افترض في الشمس بعد أن رآها أكبر الأجرام المرئيَّة، وأكثرها نفعًا وضياءً، فلما أفَلَت أفَلَت فرضيتها كذلك.
وهذا كلُّه على سبيل تنزيل المناظر منزلة الناظر، وإلا فإن إبراهيم يعلَمُ أن هذه الأجرام تأفل وتغيب قبل ذلك اليوم؛ لأنها من الظواهر المتكررة التي يراها الصغير والكبير، ولا يدور في خلد عاقل أن إبراهيم كان ينتظرها في ذلك اليوم ليراها تأفل أم لا؟
كما أن السياق لا يقتضي أنه كان يناقش عبَدَة الكواكب، بل السياق متصل في مناقشة أهل الأصنام أبيه وقومه.
وإنَّما عرَّجَ على هذه الكواكب لحثِّ هؤلاء على النظر خارج الدائرة الضيقة المحكومة بموروثات الآباء والأجداد، كأنه يقول لهم: مَن أَولَى بالعبادة: هذه الأحجار الصماء، أو تلك الكواكب والنجوم الباهرة بكبرها وعلوِّها وإشراقها؟! فإذا جاء بهم إلى هذه الدائرة فقد نجح في تخليصهم من الموروث، وفتح أذهانهم لمستوى آخر من البحث والحوار.
رابعًا: إن الإيمان بالله عن ثقة ويقين يقود إلى الطمأنينة والشعور بالأمن، وذلك بخلاف المتخبِّط في ظلمات الجهل، والمكبَّل بحبال التقليد ﴿أَنَّكُمۡ أَشۡرَكۡتُم بِٱللَّهِ مَا لَمۡ یُنَزِّلۡ بِهِۦ عَلَیۡكُمۡ سُلۡطَـٰنࣰاۚ فَأَیُّ ٱلۡفَرِیقَیۡنِ أَحَقُّ بِٱلۡأَمۡنِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾.
فانظر كيف قَرَنَ الأمنَ بالسلطان وهو هنا الحُجَّة والبُرهان، وبالعلم وهو نتيجة النظر والاستدلال، وهذا قانون كلِّيٌّ في حياة الإنسان؛ أنه يخاف مما يجهله، ويستأنس بما يعلمه، وما غاصَ في أعماق المحيطات ولا ركب في طبقات الفضاء إلا بعد أن تيسَّرت له من المعلومات ما تبدد عنه شكوكه ومخاوفه، فعابد الحجارة الصغيرة كيف سيتعامل مع هذا الكون؟
ومثله ذلك الذي تهرَّب عن الاعتراف بالجهل تحت مظلَّة (الصدفة) وهي ترسيخٌ للجهل لا أكثر، فأيُّ أمنٍ يشعر به وهو لا يرى في كلِّ ما يراه إلا الفوضى والعشوائيَّة الخالية عن كلِّ قصدٍ، وعن كلِّ نظام؟
خامسًا: إن هذا الإيمان هو أساس العمل، وهو شرط القبول ﴿وَلَوۡ أَشۡرَكُواْ لَحَبِطَ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ یَعۡمَلُونَ ﴾ وهذا قانون إنساني عام، فمن لا يعترف بربِّ العمل كيف يطلب منه فيما بعد المكافأة على عمله؟
وفي هذا جواب لمن يسأل عن أولئك الذين يقدِّمون أعمالًا دنيويَّة جليلة مع كفرهم بالله، فهؤلاء لهم كلُّ ما يستحقونه في الدنيا من مكافآت قانونيَّة، ويستحقون كذلك الشكر من كلِّ شخصٍ مُنتفعٍ بما قدَّمُوه، أما الآخرة فلا يفوزُ بها إلا من آمَنَ بها، واستعدَّ لها، وسعَى لها سعيَها.
سادسًا: إن قافلة الإيمان واحدة، من قبل إبراهيم ومن بعده ﴿وَوَهَبۡنَا لَهُۥۤ إِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَیۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَیۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّیَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَیۡمَـٰنَ وَأَیُّوبَ وَیُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَـٰرُونَۚ﴾.
سابعًا: إن هذا النموذج والنماذج الأخرى في هذه المسيرة الإيمانية من الخبرة المتراكمة والحركة الميدانية المنبثقة من نور الوحي كلها تكوِّن المثال والقدوة الحسنة لكلِّ السائرين على هذا الطريق ﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ هَدَى ٱللَّهُۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡۗ﴾.


﴿۞ وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمُ لِأَبِیهِ ءَازَرَ ﴾ الأظهر أن آزر هو أبو إبراهيم، وهذا هو الأصلُ في استعمال اللغة، وليس من مسوِّغ ظاهر للخروج عنه، وورود اسمه في التوراة (تارح) ليس بحجَّةٍ كافية، ولو صحَّ ذلك فلا مانع من وجود اسمَين لشخصٍ واحد، كما في يعقوب وإسرائيل.
والقول بإيمان جميع آباء الأنبياء وأمهاتهم يحتاج إلى نصٍّ، وليس بين أيدينا مثل هذا النص.
ومن احتجَّ بإطلاق العرب الأب على العم، فهو يصلح احتجاجًا على الإمكان لا على الوقوع، وإلا لكان اسمُ الأب أينما ورد فإنه ينصرف إلى المعنيَين على سبيل الاشتراك، ولا قائِلَ به.
﴿إِنِّیۤ أَرَىٰكَ وَقَوۡمَكَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ﴾ هذا الخطاب فيه قوة وشدَّة، والظاهر أنه جاء في مرحلة تالية لخطابه الوارد في سورة مريم: ﴿یَـٰۤأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا یَسۡمَعُ وَلَا یُبۡصِرُ وَلَا یُغۡنِی عَنكَ شَیۡـࣰٔا﴾ [مريم:42]، وما بعدها من الآيات، فهو انتقال بحسب تغيُّر الحال، والله أعلم.
﴿فَلَمَّاۤ أَفَلَ﴾ وهو متيقِّن أنه سيأفل، فهذا هو المعتاد والمشاهد في كلِّ يومٍ وليلةٍ.
﴿ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ یَلۡبِسُوۤاْ إِیمَـٰنَهُم بِظُلۡمٍ أُوْلَــٰۤىِٕكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ﴾ دليلٌ على ارتباط الإيمان بالعمل الصالح لتحقيق النجاة، على خلاف قول المرجئة: (لا يضر مع الإيمان معصية) بل المعصيةُ تضُرُّ:﴿ فَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَیۡرࣰا یَرَهُۥ ﴿٧﴾ وَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲ شَرࣰّا یَرَهُۥ﴾ [الزلزلة: 7، 8].