سورة التغابن وإن عدَّها الجمهور سورة مدنيَّة، إلَّا أنَّ موضوعها الأساس أشبَه بالموضوعات التي تتناولها السور المكيَّة، ليس الموضوع فقط، بل حتى الأسلوب وصِيَغ المُحاورة والمُحاججة، إنّها تُناقِش المشركين في مسألة البعث، وتذكِّرهم بما أصاب أسلافهم، وما ينتظرهم من حسابٍ وعقابٍ.
ثم تلتفت السورة إلى المجتمع المؤمن لتحذِّره من مزالق الفتنة، وهي التفاتةٌ ليست في الخطاب فقط، بل كأنَّها نقلةٌ من أجواء مكّة إلى أجواء المدينة، ومِن ثَمّ رجَّح بعض العلماء أنّ السورة مكِّيَّة كلّها إلَّا ما بعد هذه الالتِفاتة التي تبدأ بمخاطبة المؤمنين: ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ إِنَّ مِنۡ أَزۡوَ ٰجِكُمۡ وَأَوۡلَـٰدِكُمۡ عَدُوࣰّا لَّكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُمۡۚ﴾.
وهذه خُلاصةٌ للمسائل التي تناوَلَتْها السورة:
أولًا: تستهلُّ السورة بتسبيح الله تعالى، وأنَّه مالك الملك المستحقُّ للحمد، والذي هو على كلِّ شيءٍ قديرٍ ﴿یُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۖ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ﴾.
ثانيًا: تؤكِّد السورة ربوبيَّة الله وحده لهذا الكون، فهو سبحانه الذي خلَقَ الإنسان؛ المؤمن والكافر، وهو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي يعلم ما يكون في هذا الكون، وما يُعلِنه الإنسان وما يُخفيه: ﴿هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرࣱ وَمِنكُم مُّؤۡمِنࣱۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرٌ ﴿٢﴾ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡۖ وَإِلَیۡهِ ٱلۡمَصِیرُ ﴿٣﴾ یَعۡلَمُ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَیَعۡلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعۡلِنُونَۚ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾.
ثالثًا: تُذكِّر السورة المشركين المُكذِّبين بهذا الدين بما أصابَ أسلافهم ﴿أَلَمۡ یَأۡتِكُمۡ نَبَؤُاْ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمۡرِهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ ﴿٥﴾ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُۥ كَانَت تَّأۡتِیهِمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَقَالُوۤاْ أَبَشَرࣱ یَهۡدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْۖ وَّٱسۡتَغۡنَى ٱللَّهُۚ وَٱللَّهُ غَنِیٌّ حَمِیدࣱ﴾.
رابعًا: تردُّ السورة على المكذِّبين بالبعث، مؤكِّدةً أنّه آتٍ لا محالة، وأنّ الناس سيُجمَعون جمعًا أمام الله، وكلٌّ مجزيٌّ بعمله؛ إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ ﴿زَعَمَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن یُبۡعَثُواْۚ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّی لَتُبۡعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلۡتُمۡۚ وَذَ ٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ یَسِیرࣱ ﴿٧﴾ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلنُّورِ ٱلَّذِیۤ أَنزَلۡنَاۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣱ ﴿٨﴾ یَوۡمَ یَجۡمَعُكُمۡ لِیَوۡمِ ٱلۡجَمۡعِۖ ذَ ٰلِكَ یَوۡمُ ٱلتَّغَابُنِۗ وَمَن یُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ وَیَعۡمَلۡ صَـٰلِحࣰا یُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَیِّـَٔاتِهِۦ وَیُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۚ ذَ ٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ ﴿٩﴾ وَٱلَّذِینَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ أُوْلَــٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِیرُ﴾.
خامسًا: تُؤكِّد السورة أنّ طريق النجاة إنّما هو الإيمانُ بالله والتوكُّل عليه وحده، وطاعته سبحانه وطاعة رسوله المُبلِّغ عنه ﴿مَاۤ أَصَابَ مِن مُّصِیبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱلـلَّـهِۗ وَمَن یُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ یَهۡدِ قَلۡبَهُۥۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ ﴿١١﴾ وَأَطِیعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِیعُواْ ٱلرَّسُولَۚ فَإِن تَوَلَّیۡتُمۡ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَـٰغُ ٱلۡمُبِینُ ﴿١٢﴾ ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ﴾.
سادسًا: تتوجَّه السورة إلى المؤمنين تُحذِّرهم من عدوٍّ قريبٍ منهم، وما هو بالعدوِّ المقاتل المحارب، وإنّما العدو الذي يُغرِي بالنار وطريقها، ويُبعد عن الجنَّة ونعيمها، وهذا بالميزان الإيماني أشدُّ خطرًا وأكثر عداوة من حامل السلاح الذي غاية ما يملِكُه أن يدفع بالمؤمن شهيدًا إلى الجنَّة، إنّه العدو الذي يكون سببًا في الفتنة والردَّة عن طريق الحقِّ والخير ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ إِنَّ مِنۡ أَزۡوَ ٰجِكُمۡ وَأَوۡلَـٰدِكُمۡ عَدُوࣰّا لَّكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُمۡۚ وَإِن تَعۡفُواْ وَتَصۡفَحُواْ وَتَغۡفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ ﴿١٤﴾ إِنَّمَاۤ أَمۡوَ ٰلُكُمۡ وَأَوۡلَـٰدُكُمۡ فِتۡنَةࣱۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥۤ أَجۡرٌ عَظِیمࣱ﴾.
سابعًا: تحثُّ السورة هؤلاء المؤمنين على الثبات على التقوى وطاعة الله ورسوله, وأن يتصدَّقوا مِن مالهم ليُطهِّروا قلوبهم من داء الشحِّ والتعلُّق بالدنيا الفانية، وأنَّ الله سيجزيهم الثواب مُضاعفًا، والله هو الشكور الحليم ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِیعُواْ وَأَنفِقُواْ خَیۡرࣰا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن یُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ﴿١٦﴾ إِن تُقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنࣰا یُضَـٰعِفۡهُ لَكُمۡ وَیَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِیمٌ ﴿١٧﴾ عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾.