سورة الأعراف تفسير مجالس النور الآية 147

وَٱلَّذِینَ كَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِنَا وَلِقَاۤءِ ٱلۡأَخِرَةِ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡۚ هَلۡ یُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كَانُواْ یَعۡمَلُونَ ﴿١٤٧﴾

تفسير مجالس النور سورة الأعراف

المجلس الحادي والسبعون: قيادة موسى عليه السلام لقومه بعد هلاك فرعون


من الآية (138- 156)


أهلك الله فرعون وجنده الذين خرجوا معه لملاحقة بني إسرائيل، أهلكهم الله غرقًا لينجو بنو إسرائيل بقيادة رسولهم الكريم موسى عليه السلام، لتبدأ مرحلة جديدة في تأريخهم، مرحلة يكون القرار فيها لهم وليس لفرعون، يصنعون فيها أهدافهم ويصوغون فيها حياتهم، ويتحملون فيها مسؤولياتهم، وهذا هو الاختبار الجديد الذي كلَّمَهم عنه نبيُّهم أيام كانوا تحت وطأة فرعون: ﴿عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن یُهۡلِكَ عَدُوَّكُمۡ وَیَسۡتَخۡلِفَكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرَ كَیۡفَ تَعۡمَلُونَ﴾.
وفي هذا الاختبار كُشِفَت معادن بني إسرائيل، ومستوياتهم المتفاوتة والمتباينة في الإيمان والعمل والأخلاق، كما برزت تجربة إصلاحيَّة وقياديَّة كبيرة شملت كلَّ نواحي الحياة في ضوء الوحي الإلهي الذي كان يُتابِع هذه الحركة، ويتنزَّل مع كلِّ حادثة أو مشكلة أو منعطف.
وقد ضمَّت هذه السورة عددًا من خصائص هذه المرحلة ومعالمها:
أولًا: الجنوح المبكِّر نحو الوثنية ﴿وَجَـٰوَزۡنَا بِبَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ ٱلۡبَحۡرَ فَأَتَوۡاْ عَلَىٰ قَوۡمࣲ یَعۡكُفُونَ عَلَىٰۤ أَصۡنَامࣲ لَّهُمۡۚ قَالُواْ یَـٰمُوسَى ٱجۡعَل لَّنَاۤ إِلَـٰهࣰا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةࣱۚ قَالَ إِنَّكُمۡ قَوۡمࣱ تَجۡهَلُونَ﴾، ثم تكرَّر هذا الجنوح باتخاذهم العجل ﴿وَٱتَّخَذَ قَوۡمُ مُوسَىٰ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِنۡ حُلِیِّهِمۡ عِجۡلࣰا جَسَدࣰا لَّهُۥ خُوَارٌۚ﴾.
إن تفكير بني إسرائيل بهذه الطريقة مع أنهم من أسباط يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وهم قد خرجوا للتوِّ بمعجزة إلهيَّة يُثيرُ تساؤلات كثيرة: فما الذي يدفع البشر إلى مثل هذا السلوك، مع علمهم أن هذه الأصنام مخلوقة ومجعولة: ﴿ٱجۡعَل لَّنَاۤ إِلَـٰهࣰا﴾؟!
الظاهر أن هناك غريزة داخل النفس البشرية تدفَعُها للبحث عن المعاني المجسَّمة في صور محسوسة وملموسة بعيدًا عن المعاني المطلقة، مع أن تلك المعاني هي الأصل، وهي القاسم المشترك لكلِّ هذه السلوكيات على اختلافها وتبايُنها؛ فعبادة الحجر والشجر والبقر لا يمكن أن تكون عن اقتناعٍ ذاتيٍّ بهذه الأشياء، لكنها الرغبة في تجسيدِ الإيمان بالله الذي لا تُحيطُ به المدارك.
من هنا تأتي أيضًا عبادة القبور عند الشيعة، والغلو في صورة الحسين، ورفعه إلى مقام الألوهيَّة كما يفعل النصارى مع السيد المسيح، فهو سلوك بشري متشابِه تتركَّب فيه فطرة الإيمان بالله مع غريزة التعلُّق بالمحسوس، لتنتج هذه الصور من الشرك، والخروج عن معنى الإيمان الصحيح.
والمنهج الإسلامي لا يلغي هذه الغريزة بالكامل، بل يُوجِّهها الوجهة الصحيحة من خلال الشعائر؛ كتعظيم الكعبة، والصفا والمروة، ومقام إبراهيم، مع الفصل التام بينها وبين عقيدة التوحيد، فهذه ليست آلهة ولا وسائط بيننا وبين الله، بل هي علامات وأماكن لعبادة الله وحده.
ثانيًا: إصلاح النفس يأتي في المقام الأول، فالذي يتصدَّى للشأن العام محاولًا الإصلاح والتغيير الأفضل لا بدَّ أن يتجه أولًا إلى تزكية نفسه، وإعدادها الإعداد المناسب لهذه المهمة.
وهذا هو الدرس الذي تقدمه لنا سورة الأعراف ﴿۞ وَوَ ٰ⁠عَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَـٰثِینَ لَیۡلَةࣰ وَأَتۡمَمۡنَـٰهَا بِعَشۡرࣲ﴾، فهذه أربعون ليلة اعتزل فيها موسى قومه؛ ليكون مع الله في صلةٍ روحيَّةٍ إيمانيةٍ، لا نعلم نحن البشر عن أحوالها وتفاصيلها شيئًا غير تلك الإيحاءات السريعة ﴿۞ وَوَ ٰ⁠عَدۡنَا مُوسَىٰ﴾، ﴿وَلَمَّا جَاۤءَ مُوسَىٰ لِمِیقَـٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ﴾ وهي كافيةٌ لاستشعار عظمة الموقف، وفضل الله الكبير على هذا النبيِّ الكريم.
ثالثًا: الرسالة الموسويَّة، وهي الرسالة الشاملة من بين كلِّ الرسالات السماويَّة السابقة ﴿قَالَ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنِّی ٱصۡطَفَیۡتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَـٰلَـٰتِی وَبِكَلَـٰمِی فَخُذۡ مَاۤ ءَاتَیۡتُكَ وَكُن مِّنَ ٱلشَّـٰكِرِینَ ﴿١٤٤﴾ وَكَتَبۡنَا لَهُۥ فِی ٱلۡأَلۡوَاحِ مِن كُلِّ شَیۡءࣲ مَّوۡعِظَةࣰ وَتَفۡصِیلࣰا لِّكُلِّ شَیۡءࣲ﴾، وهذه إحدى أهم وجوه الشبه القويَّة بين الرسالتين المحمديَّة والموسويَّة، فهما الرسالتان الوحيدتان اللتان ينص القرآن على شموليتهما وسعتهما؛ ولذلك جاءت قصة موسى الأكثر تكرارًا وتفصيلًا في القرآن الكريم، والله أعلم.
رابعًا: التكبُّر هو العقبة الأكبر في طريق العلم والهداية ﴿سَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَایَـٰتِیَ ٱلَّذِینَ یَتَكَبَّرُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ وَإِن یَرَوۡاْ كُلَّ ءَایَةࣲ لَّا یُؤۡمِنُواْ بِهَا وَإِن یَرَوۡاْ سَبِیلَ ٱلرُّشۡدِ لَا یَتَّخِذُوهُ سَبِیلࣰا وَإِن یَرَوۡاْ سَبِیلَ ٱلۡغَیِّ یَتَّخِذُوهُ سَبِیلࣰاۚ﴾ فالمتكبِّر أعمى وأصم لا يرى إلا ما يريد هو أن يراه، ولا يسمع إلا ما يريد هو أن يسمعه ﴿ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَـٰفِلِینَ﴾ فهي غفلةٌ على سبيل الإعراض المتعمَّد، والغرور الزائف، وليست غفلةَ الجاهل البسيط المشغول بهمومه ومتطلَّبات عيشه.
خامسًا: إدارة المجتمع، وهي مهمةٌ مُقترنةٌ بالدعوة والإصلاح، فالمجتمع الفوضوي لا يمكن إصلاحه، وفي هذه التجربة نرى كيف أن موسى عليه السلام لما ذهب إلى ميقات ربِّه لم يترك قومه في فراغٍ، بل أوكل مهمة القيادة إلى أخيه هارون ﴿وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِیهِ هَـٰرُونَ ٱخۡلُفۡنِی فِی قَوۡمِی وَأَصۡلِحۡ وَلَا تَـتَّـبِعۡ سَبِیلَ ٱلۡمُفۡسِدِینَ﴾.
ثم لما عاد موسى من ميقات ربِّه، راح يختار صفَّ القيادة الأول ﴿وَٱخۡتَارَ مُوسَىٰ قَوۡمَهُۥ سَبۡعِینَ رَجُلࣰا لِّمِیقَـٰتِنَاۖ﴾ وهو الميقات الثاني، في إشارةٍ لحاجة هذا الصف إلى تلك التزكية وذلك الإعداد تهيئةً لهم ليكونوا حلقة الوصل بين القائد الأعلى وبين عامة الناس، فمهما كانت عبقرية القائد وقوته، فإنه لا يمكنه أن يدير المجتمع لوحده.
سادسًا: الطبيعة البشرية للأنبياء ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰۤ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَـٰنَ أَسِفࣰا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِی مِنۢ بَعۡدِیۤۖ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ وَأَلۡقَى ٱلۡأَلۡوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأۡسِ أَخِیهِ یَجُرُّهُۥۤ إِلَیۡهِۚ﴾ إنها صورة الإنسان ولو كان نبيًّا ومصطفًى من الله، وهذا من كمال النبوَّة، فلو كان النبي جنسًا آخر مختلفًا عن طبيعة البشر لَمَا قامت به الحجة، ولَمَا صلح لاقتداء الناس به، فالنبي إنما هو بشرٌ يُوحَى إليه، فبالوحي يكون الخلاص واليقين بسلامة المنهج، وبالبشرية يصح الاقتداء والتأسِّي، ومحاولة تكرار التجربة على مرِّ الأجيال.
سابعًا: الانقسام المتوقع لكل المجتمعات البشريَّة تجاه دعوات الخير والإصلاح ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِیۤ أَیۡدِیهِمۡ وَرَأَوۡاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ ضَلُّواْ قَالُواْ لَىِٕن لَّمۡ یَرۡحَمۡنَا رَبُّنَا وَیَغۡفِرۡ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ﴾، ﴿وَٱلَّذِینَ عَمِلُواْ ٱلسَّیِّـَٔاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِهَا وَءَامَنُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾، ﴿أَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاۤءُ مِنَّاۤۖ إِنۡ هِیَ إِلَّا فِتۡنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاۤءُ وَتَهۡدِی مَن تَشَاۤءُۖ﴾، ﴿قَالَ عَذَابِیۤ أُصِیبُ بِهِۦ مَنۡ أَشَاۤءُۖ وَرَحۡمَتِی وَسِعَتۡ كُلَّ شَیۡءࣲۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِینَ هُم بِـَٔایَـٰتِنَا یُؤۡمِنُونَ﴾، وإذا كان كلُّ هذا يحصل مع وجود النبيِّ والآيات والمعجزات، فحصوله مع مَن هم دون ذلك أَولَى.


﴿قَالُواْ یَـٰمُوسَى ٱجۡعَل لَّنَاۤ إِلَـٰهࣰا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةࣱۚ﴾ تقليدٌ أعمى لما عليه الآخرون وإن كان لا يستَنِد إلى منطق أو حُجَّة، وهو عادةُ الشعوب والمجتمعات الضائِعة التي لا تجمعها هويَّة، ولا تَحمِيها عقيدة.
﴿مُتَبَّرࣱ مَّا هُمۡ فِیهِ﴾ أي: هالك ومسبب لهلاكهم.
﴿فَضَّلَكُمۡ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ بحمل الرسالة، وليس تفضيلًا بالخلقة، ولا تمييزًا لجنسهم دون الأجناس.
﴿یَسُومُونَكُمۡ سُوۤءَ ٱلۡعَذَابِ﴾ يذيقونكم.
﴿رَبِّ أَرِنِیۤ أَنظُرۡ إِلَیۡكَۚ﴾ أي: أرِنِي أنت نفسك، لأنُظر أنا إليك؛ لأنه يعلم أنه لن يتمكَّن من النظر إلى ربِّه، إلا أن يكون ربُّه في صورة المرئي، قال: ﴿لَن تَرَىٰنِی﴾ نفَى القدرةَ عن موسى، ولم يَنفِ قابلية الذات الإلهية للرؤية، ولو قصد هذا لقال: لا أُرَى، بمعنى: أن موسى ليس عنده القابليَّة للرؤية؛ لأنه بشرٌ محكومٌ بنواميس الكون، وقد أعطاه الله درسًا حينما تجلَّى للجبل فجعله دكًّا، وخرَّ موسى صَعِقًا.
فهذه كلها تأكيدات لضعف الخلق وقصورهم أمام عظمة الخالق ـ، والموضوع بعيدٌ عن أحوال الآخرة التي ستتغيَّر فيها النواميس، والله أعلم.
﴿فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِیۚ﴾ علَّقه بممكن أصلًا مستبعد حالًا، وهو تأكيدٌ أن النفي حاصلٌ بسبب ضعف القدرات وليس لاستحالة أصل الرؤية، والمفاجأة كانت بدكِّ الجبل، وهي حالة غير متوقَّعة وغير لازمة في الذهن، كأن الله أراد أن يقول لموسى: إذا كان الجبل لم يتحمَّل ذلك التجلِّي الإلهي، فكيف بك يا موسى؟ ولذلك خرَّ موسى صَعِقًا.
﴿فَلَمَّاۤ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَـٰنَكَ تُبۡتُ إِلَیۡكَ﴾ أفاق من صعقته بعد أن أدرك ضعفَه البشري أمام العظمة الإلهيَّة، فلاذَ بالتسبيح والتوبة مع أنه لم يقترف ذنبًا، لكنه مقام العبودية، واستشعار ضعف النفس وذلَّتها وتقصيرها أمام خالقها العليِّ الكبيرِ.
ومن ظنَّ أن التوبة كانت عن السؤال فقد وَهِمَ؛ لأن الله في كلِّ هذه القصة وفي كلِّ مواردها لم يُنكِر عليه سؤاله، ولو كان إثمًا لما تأخَّر بيانُه بحال.
﴿وَكَتَبۡنَا لَهُۥ فِی ٱلۡأَلۡوَاحِ مِن كُلِّ شَیۡءࣲ مَّوۡعِظَةࣰ وَتَفۡصِیلࣰا لِّكُلِّ شَیۡءࣲ﴾ الظاهر أنها الألواح التي كتبت عليها التوراة بدلالة قوله: ﴿وَتَفۡصِیلࣰا لِّكُلِّ شَیۡءࣲ﴾ وهو وصفٌ للتوراة، ولو كانت التوراة غير الألواح فما مضمونها إذًا بعد أن تكفَّلَت الألواح بتفصيل كلِّ شيء؟
أما المادة التي صُنِعَت منها الألواح فلا تعنينا بشيء، والخلاف فيها ترفٌ فكريٌّ لا قيمة له، ولا ينبني عليه عمل، وحسبنا التصديق المجمل بالخبر كما ورد في الوحي.
﴿سَأُوْرِیكُمۡ دَارَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ﴾ وعيدٌ لمن فسق عن أمر الله ونكث عهده، وهو تفريعٌ مناسبٌ لقوله في الألواح: ﴿فَخُذۡهَا بِقُوَّةࣲ وَأۡمُرۡ قَوۡمَكَ یَأۡخُذُواْ بِأَحۡسَنِهَاۚ﴾ فمن حاد عن ذلك فقد فسق، ومن فسق استوجب العقوبة، وهي خراب بيوتهم، ونهاية أمرهم.
﴿سَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَایَـٰتِیَ ٱلَّذِینَ یَتَكَبَّرُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ صَرفًا على سنن الله وأسبابه المعروفة، وليس صَرفَ إجبارٍ وإكراهٍ، فمن تكبَّر فقد أغلق باب الهداية عن نفسه، وصرفها عن الحقِّ.
﴿حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡۚ﴾ أي: بطلت وخاب سعيُهم ومكرهم وتكبُّرُهم، هذا هو مُقتضَى السياق، أما البحث عن بطلان الأعمال الحسنة التي تقع من غير المؤمنين فهذه مسألة أخرى لا يقتضيها السياق، وإقحامها فيه لا يخلو من التكلُّف.
﴿لَّهُۥ خُوَارٌۚ﴾ صوتٌ كصوت البقر، والأمر لا يعدو كونه حيلة وخديعة انطَلَت على بني إسرائيل، خاصة أنهم مُهيَّئون لمثل هذا من يوم خروجهم الأول لما قالوا: ﴿ٱجۡعَل لَّنَاۤ إِلَـٰهࣰا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةࣱۚ﴾.
﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِیۤ أَیۡدِیهِمۡ﴾ أي: وقعوا في الندامة.
﴿غَضۡبَـٰنَ أَسِفࣰا﴾ معناهما متقارب، وجيء بهما معًا للتأكيد المعنوي، والله أعلم.
﴿إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِی وَكَادُواْ یَقۡتُلُونَنِی﴾ تأكيدٌ لعادة بني إسرائيل في احتقار أنبيائهم واستضعافهم وقتلهم.
﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾ بابٌ واسعٌ من الرجاء؛ إذ جاء هذا تعقيبًا على عبدة العجل الذين ندموا على فعلتهم، فالرجاء بعفو الله فيما هو دون هذا أوسع وأكبر.
﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلۡغَضَبُ﴾ أي: هدأ الغضب بطول الوقت، ونسبة السكوت إلى الغضب دليلٌ على صحة المجاز فيه وإن لم تصح نسبته على الحقيقة بحال، وهو اشتراط بعض أهل العلم في استعمال المجاز، وهو اشتراطٌ تحكُّميٌّ لا دليل عليه، والآية هذه تكفي لردِّه، والله أعلم.
﴿هُدࣰى وَرَحۡمَةࣱ لِّلَّذِینَ هُمۡ لِرَبِّهِمۡ یَرۡهَبُونَ﴾ إشارةٌ أن الخوف من الله أصلٌ في تحقيق الرحمة وسلوك طريق الهداية، بخلاف صفة التكبُّر التي هي أصلٌ في القسوة والغفلة والضلال.
﴿سَبۡعِینَ رَجُلࣰا﴾ عددٌ تُملِيه الحاجة الإداريَّة زمانًا ومكانًا وحالًا، وليس هو تشريعًا، ولا مثالًا ثابتًا للاقتداء.
﴿لِّمِیقَـٰتِنَاۖ﴾ ميقاتٌ آخرُ مع الله، فالأول كان مع موسى خاصَّة، والثاني كان معه السبعون الذين اختارهم من صفوة قومه، وقد أخذَتْهم الرجفة كما أخذه الصعق في لقائه الأول، وهذه مسائلُ غيبيَّةٌ نقِف فيها مع الوحي دون زيادةٍ ولا نقصانٍ، والعبرة فيها ظاهرة، والله أعلم.
﴿أَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاۤءُ مِنَّاۤۖ﴾ نفي بصيغة السؤال، فالله لا يأخذ أحدًا بجريرة أحدٍ، وفيه استعطافٌ لرحمة الله، وبراءةٌ من السفاهة والشرك وعبادة العجل.
﴿إِنۡ هِیَ إِلَّا فِتۡنَتُكَ﴾ اختبارك للناس وامتحانك لهم تمييزًا لصادقهم عن كاذبهم، ومؤمنهم عن منافقهم.
﴿هُدۡنَاۤ إِلَیۡكَۚ﴾ تُبنا إليك، ونسبة اليهود إلى هذا الفعل واردة، فاليهود معناهم: العائِدُون والتائبون إلى الله، كما أن المسلمين معناهم: المُستسلِمون لله، والخاضعون لشريعته، والله أعلم.
﴿قَالَ عَذَابِیۤ أُصِیبُ بِهِۦ مَنۡ أَشَاۤءُۖ وَرَحۡمَتِی وَسِعَتۡ كُلَّ شَیۡءࣲۚ﴾ دليلٌ أن الرحمة أصلٌ، والعذاب استثناء، ورحمة الله سبقت غضبه، وعفوه غلب عقوبته.