أهلك الله فرعون وجنده الذين خرجوا معه لملاحقة بني إسرائيل، أهلكهم الله غرقًا لينجو بنو إسرائيل بقيادة رسولهم الكريم موسى
عليه السلام، لتبدأ مرحلة جديدة في تأريخهم، مرحلة يكون القرار فيها لهم وليس لفرعون، يصنعون فيها أهدافهم ويصوغون فيها حياتهم، ويتحملون فيها مسؤولياتهم، وهذا هو الاختبار الجديد الذي كلَّمَهم عنه نبيُّهم أيام كانوا تحت وطأة فرعون:
﴿عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن یُهۡلِكَ عَدُوَّكُمۡ وَیَسۡتَخۡلِفَكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرَ كَیۡفَ تَعۡمَلُونَ﴾.
وفي هذا الاختبار كُشِفَت معادن بني إسرائيل، ومستوياتهم المتفاوتة والمتباينة في الإيمان والعمل والأخلاق، كما برزت تجربة إصلاحيَّة وقياديَّة كبيرة شملت كلَّ نواحي الحياة في ضوء الوحي الإلهي الذي كان يُتابِع هذه الحركة، ويتنزَّل مع كلِّ حادثة أو مشكلة أو منعطف.
وقد ضمَّت هذه السورة عددًا من خصائص هذه المرحلة ومعالمها:
أولًا: الج
نوح المبكِّر نحو الوثنية
﴿وَجَـٰوَزۡنَا بِبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ٱلۡبَحۡرَ فَأَتَوۡاْ عَلَىٰ قَوۡمࣲ یَعۡكُفُونَ عَلَىٰۤ أَصۡنَامࣲ لَّهُمۡۚ قَالُواْ یَـٰمُوسَى ٱجۡعَل لَّنَاۤ إِلَـٰهࣰا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةࣱۚ قَالَ إِنَّكُمۡ قَوۡمࣱ تَجۡهَلُونَ﴾، ثم تكرَّر هذا الج
نوح باتخاذهم العجل
﴿وَٱتَّخَذَ قَوۡمُ مُوسَىٰ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِنۡ حُلِیِّهِمۡ عِجۡلࣰا جَسَدࣰا لَّهُۥ خُوَارٌۚ﴾.
إن تفكير بني إسرائيل بهذه الطريقة مع أنهم من أسباط يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم
عليهم السلام، وهم قد خرجوا للتوِّ بمعجزة إلهيَّة يُثيرُ تساؤلات كثيرة: فما الذي يدفع البشر إلى مثل هذا السلوك، مع علمهم أن هذه الأصنام مخلوقة ومجعولة:
﴿ٱجۡعَل لَّنَاۤ إِلَـٰهࣰا﴾؟!
الظاهر أن هناك غريزة داخل النفس البشرية تدفَعُها للبحث عن المعاني المجسَّمة في صور محسوسة وملموسة بعيدًا عن المعاني المطلقة، مع أن تلك المعاني هي الأصل، وهي القاسم المشترك لكلِّ هذه السلوكيات على اختلافها وتبايُنها؛ فعبادة الحجر والشجر والبقر لا يمكن أن تكون عن اقتناعٍ ذاتيٍّ بهذه الأشياء، لكنها الرغبة في تجسيدِ الإيمان بالله الذي لا تُحيطُ به المدارك.
من هنا تأتي أيضًا عبادة القبور عند الشيعة، والغلو في صورة الحسين، ورفعه إلى مقام الألوهيَّة كما يفعل النصارى مع السيد المسيح، فهو سلوك بشري متشابِه تتركَّب فيه فطرة الإيمان بالله مع غريزة التعلُّق بالمحسوس، لتنتج هذه الصور من الشرك، والخروج عن معنى الإيمان الصحيح.
والمنهج الإسلامي لا يلغي هذه الغريزة بالكامل، بل يُوجِّهها الوجهة الصحيحة من خلال الشعائر؛ كتعظيم الكعبة، والصفا والمروة، ومقام إبراهيم، مع الفصل التام بينها وبين عقيدة التوحيد، فهذه ليست آلهة ولا وسائط بيننا وبين الله، بل هي علامات وأماكن لعبادة الله وحده.
ثانيًا: إصلاح النفس يأتي في المقام الأول، فالذي يتصدَّى للشأن العام محاولًا الإصلاح والتغيير الأفضل لا بدَّ أن يتجه أولًا إلى تزكية نفسه، وإعدادها الإعداد المناسب لهذه المهمة.
وهذا هو الدرس الذي تقدمه لنا سورة
الأعراف ﴿۞ وَوَ ٰعَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَـٰثِینَ لَیۡلَةࣰ وَأَتۡمَمۡنَـٰهَا بِعَشۡرࣲ﴾، فهذه أربعون ليلة اعتزل فيها موسى قومه؛ ليكون مع الله في صلةٍ روحيَّةٍ إيمانيةٍ، لا نعلم نحن البشر عن أحوالها وتفاصيلها شيئًا غير تلك الإيحاءات السريعة
﴿۞ وَوَ ٰعَدۡنَا مُوسَىٰ﴾،
﴿وَلَمَّا جَاۤءَ مُوسَىٰ لِمِیقَـٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ﴾ وهي كافيةٌ لاستشعار عظمة الموقف، وفضل الله الكبير على هذا النبيِّ الكريم.
ثالثًا: الرسالة الموسويَّة، وهي الرسالة الشاملة من بين كلِّ الرسالات السماويَّة السابقة
﴿قَالَ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنِّی ٱصۡطَفَیۡتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَـٰلَـٰتِی وَبِكَلَـٰمِی فَخُذۡ مَاۤ ءَاتَیۡتُكَ وَكُن مِّنَ ٱلشَّـٰكِرِینَ ﴿١٤٤﴾ وَكَتَبۡنَا لَهُۥ فِی ٱلۡأَلۡوَاحِ مِن كُلِّ شَیۡءࣲ مَّوۡعِظَةࣰ وَتَفۡصِیلࣰا لِّكُلِّ شَیۡءࣲ﴾، وهذه إحدى أهم وجوه الشبه القويَّة بين الرس
التين المحمديَّة والموسويَّة، فهما الرسالتان الوحيدتان اللتان ينص القرآن على شموليتهما وسعتهما؛ ولذلك جاءت قصة موسى الأكثر تكرارًا وتفصيلًا في القرآن الكريم، والله أعلم.
رابعًا: التكبُّر هو العقبة الأكبر في طريق العلم والهداية
﴿سَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَایَـٰتِیَ ٱلَّذِینَ یَتَكَبَّرُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ وَإِن یَرَوۡاْ كُلَّ ءَایَةࣲ لَّا یُؤۡمِنُواْ بِهَا وَإِن یَرَوۡاْ سَبِیلَ ٱلرُّشۡدِ لَا یَتَّخِذُوهُ سَبِیلࣰا وَإِن یَرَوۡاْ سَبِیلَ ٱلۡغَیِّ یَتَّخِذُوهُ سَبِیلࣰاۚ﴾ فالمتكبِّر أعمى وأصم لا يرى إلا ما يريد هو أن يراه، ولا يسمع إلا ما يريد هو أن يسمعه
﴿ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَـٰفِلِینَ﴾ فهي غفلةٌ على سبيل الإعراض المتعمَّد، والغرور الزائف، وليست غفلةَ الجاهل البسيط المشغول بهمومه ومتطلَّبات عيشه.
خامسًا: إدارة المجتمع، وهي مهمةٌ مُقترنةٌ بالدعوة والإصلاح، فالمجتمع الفوضوي لا يمكن إصلاحه، وفي هذه التجربة نرى كيف أن موسى
عليه السلام لما ذهب إلى ميقات ربِّه لم يترك قومه في فراغٍ، بل أوكل مهمة القيادة إلى أخيه هارون
﴿وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِیهِ هَـٰرُونَ ٱخۡلُفۡنِی فِی قَوۡمِی وَأَصۡلِحۡ وَلَا تَـتَّـبِعۡ سَبِیلَ ٱلۡمُفۡسِدِینَ﴾.
ثم لما عاد موسى من ميقات ربِّه، راح يختار صفَّ القيادة الأول
﴿وَٱخۡتَارَ مُوسَىٰ قَوۡمَهُۥ سَبۡعِینَ رَجُلࣰا لِّمِیقَـٰتِنَاۖ﴾ وهو الميقات الثاني، في إشارةٍ لحاجة هذا
الصف إلى تلك التزكية وذلك الإعداد تهيئةً لهم ليكونوا حلقة الوصل بين القائد
الأعلى وبين عامة الناس، فمهما كانت عبقرية القائد وقوته، فإنه لا يمكنه أن يدير المجتمع لوحده.
سادسًا: الطبيعة البشرية للأنبياء
﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰۤ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَـٰنَ أَسِفࣰا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِی مِنۢ بَعۡدِیۤۖ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ وَأَلۡقَى ٱلۡأَلۡوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأۡسِ أَخِیهِ یَجُرُّهُۥۤ إِلَیۡهِۚ﴾ إنها صورة الإنسان ولو كان نبيًّا ومصطفًى من الله، وهذا من كمال النبوَّة، فلو كان النبي جنسًا آخر مختلفًا عن طبيعة البشر لَمَا قامت به الحجة، ولَمَا صلح لاقتداء الناس به، فالنبي إنما هو بشرٌ يُوحَى إليه، فبالوحي يكون الخلاص واليقين بسلامة المنهج، وبالبشرية يصح الاقتداء والتأسِّي، ومحاولة تكرار التجربة على مرِّ الأجيال.
سابعًا: الانقسام المتوقع لكل المجتمعات البشريَّة تجاه دعوات الخير والإصلاح
﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِیۤ أَیۡدِیهِمۡ وَرَأَوۡاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ ضَلُّواْ قَالُواْ لَىِٕن لَّمۡ یَرۡحَمۡنَا رَبُّنَا وَیَغۡفِرۡ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ﴾،
﴿وَٱلَّذِینَ عَمِلُواْ ٱلسَّیِّـَٔاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِهَا وَءَامَنُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾،
﴿أَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاۤءُ مِنَّاۤۖ إِنۡ هِیَ إِلَّا فِتۡنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاۤءُ وَتَهۡدِی مَن تَشَاۤءُۖ﴾،
﴿قَالَ عَذَابِیۤ أُصِیبُ بِهِۦ مَنۡ أَشَاۤءُۖ وَرَحۡمَتِی وَسِعَتۡ كُلَّ شَیۡءࣲۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِینَ هُم بِـَٔایَـٰتِنَا یُؤۡمِنُونَ﴾، وإذا كان كلُّ هذا يحصل مع وجود النبيِّ والآيات والمعجزات، فحصوله مع مَن هم دون ذلك أَولَى.