ينتقل السياق القرآني بلا مقدمات ولا فواصل ليربط بين صورة الماضي وصورة الحاضر؛ بين صورة اليهود وحراكهم المضطرب والمتذبذب وهم تحت قيادة نبيٍّ منهم ومن بني جلدتهم، وبين صورتهم وهم أمام نبيٍّ من قومٍ آخرين، يدعوهم للإسلام الذي هو رسالة إبراهيم وموسى وهارون وكلِّ الأنبياء السابقين، ويمكن تلخيص الخطاب القرآني في هذا المشهد بالآتي:
أولًا: أن الرسالة المحمديَّة هي امتدادٌ للرسالات السماويَّة السابقة، وأن هذه الرسالات قد بشَّرَت بالنبي الخاتم محمد
ﷺ ﴿ٱلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِیَّ ٱلۡأُمِّیَّ ٱلَّذِی یَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِی ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِیلِ﴾.
ثانيًا: أن الرسالة المحمديَّة رسالةٌ شاملةٌ لكل الناس لا تميِّز بين جنسٍ وجنسٍ، ولا قومٍ وقومٍ
﴿قُلۡ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُمۡ جَمِیعًا ٱلَّذِی لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ﴾.
ثالثًا: أن الرسالة المحمديَّة رسالةُ خيرٍ ويُسرٍ ورحمةٍ
﴿یَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَیُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰۤىِٕثَ وَیَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَـٰلَ ٱلَّتِی كَانَتۡ عَلَیۡهِمۡۚ﴾.
رابعًا: أنه لا خلاص ولا نجاة إلا باتباع هذه الرسالة الخاتمة
﴿وَرَحۡمَتِی وَسِعَتۡ كُلَّ شَیۡءࣲۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِینَ هُم بِـَٔایَـٰتِنَا یُؤۡمِنُو ﴿١٥٦﴾ ٱلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِیَّ ٱلۡأُمِّیَّ﴾،
﴿فَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ مَعَهُۥۤ أُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾،
﴿فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِیِّ ٱلۡأُمِّیِّ ٱلَّذِی یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَـٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾.
خامسًا: تذكير اليهود بتاريخهم مع أنبيائهم في كبريات الأمور ودقائقها
﴿وَقَطَّعۡنَـٰهُمُ ٱثۡنَتَیۡ عَشۡرَةَ أَسۡبَاطًا أُمَمࣰاۚ وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ إِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰهُ قَوۡمُهُۥۤ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنۢبَجَسَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَیۡنࣰاۖ﴾،
﴿وَإِذۡ قِیلَ لَهُمُ ٱسۡكُنُواْ هَـٰذِهِ ٱلۡقَرۡیَةَ وَكُلُواْ مِنۡهَا حَیۡثُ شِئۡتُمۡ وَقُولُواْ حِطَّةࣱ﴾،
﴿وَسۡـَٔلۡهُمۡ عَنِ ٱلۡقَرۡیَةِ ٱلَّتِی كَانَتۡ حَاضِرَةَ ٱلۡبَحۡرِ إِذۡ یَعۡدُونَ فِی ٱلسَّبۡتِ إِذۡ تَأۡتِیهِمۡ حِیتَانُهُمۡ یَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعࣰا وَیَوۡمَ لَا یَسۡبِتُونَ لَا تَأۡتِیهِمۡۚ﴾،
﴿۞ وَإِذۡ نَتَقۡنَا ٱلۡجَبَلَ فَوۡقَهُمۡ كَأَنَّهُۥ ظُلَّةࣱ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُۥ وَاقِعُۢ بِهِمۡ﴾. والمغزى من هذا التذكير: إقامة الحجة عليهم؛ فهذا النبي الأمي الذي لم يتعلَّم الكتاب، ولم يسمع من أحباركم وعلمائكم ها هو يُخبِركم بما يجهلُه كثيرٌ منكم، وبما هو موجودٌ في كتبكم، ألا يدعوكم هذا للنظر والتفكير في دعوته ومراجعة أنفسكم قبل أن تُعرِضوا وتصدُّوا الناسَ عنها بلا حجَّة ولا بيِّنة؟
وفيه أيضًا تحذيرٌ ووعيدٌ لهم إن هم استمرُّوا في عنادهم؛ حيث إن بعض ما قصَّه عليهم قد تضمن عقوبات إلهية شديدة على مخالفاتٍ هي أهون من تكذيبهم للنبي، من مثل تبديلهم لكلمة حطَّة
﴿فَبَدَّلَ ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ قَوۡلًا غَیۡرَ ٱلَّذِی قِیلَ لَهُمۡ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ رِجۡزࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ﴾ ومثل وقوعهم في إثم الصيد يوم السبت
﴿فَلَمَّا عَتَوۡاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنۡهُ قُلۡنَا لَهُمۡ كُونُواْ قِرَدَةً خَـٰسِـِٔینَ﴾.
وفيه أيضًا تنبيه المسلمين إلى حقيقة هؤلاء القوم، فهم إن كانوا بهذا العناد والمكابرة مع أنبيائهم الذين هم منهم ومن بني جلدتهم، فما المظنون بهم وقد انتقلت النبوَّة عنهم إلى غيرهم؟
سادسًا: تمييز الصالح منهم عن الفاسد، وعدم أخذ هؤلاء بجريرة هؤلاء، وهذا هو العدل والإنصاف، فمهما كان تاريخ هؤلاء القوم وواقعهم فلا يصحُّ التعميم في الحكم عليهم، ولا طمس النقاط المضيئة في تجربتهم
﴿وَمِن قَوۡمِ مُوسَىٰۤ أُمَّةࣱ یَهۡدُونَ بِٱلۡحَقِّ وَبِهِۦ یَعۡدِلُونَ﴾،
﴿وَٱلَّذِینَ یُمَسِّكُونَ بِٱلۡكِتَـٰبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِیعُ أَجۡرَ ٱلۡمُصۡلِحِینَ﴾،
﴿وَإِذۡ قَالَتۡ أُمَّةࣱ مِّنۡهُمۡ لِمَ تَعِظُونَ قَوۡمًا ٱللَّهُ مُهۡلِكُهُمۡ أَوۡ مُعَذِّبُهُمۡ عَذَابࣰا شَدِیدࣰاۖ قَالُواْ مَعۡذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَلَعَلَّهُمۡ یَتَّقُونَ﴾.
سابعًا: أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد جاء هذا في وصف نبيِّنا
ﷺ ﴿یَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ﴾ وفي وصف الثُّلَّة المؤمنة التي كانت تُحاول الإصلاحَ في بني إسرائيل
﴿وَإِذۡ قَالَتۡ أُمَّةࣱ مِّنۡهُمۡ لِمَ تَعِظُونَ قَوۡمًا ٱللَّهُ مُهۡلِكُهُمۡ أَوۡ مُعَذِّبُهُمۡ عَذَابࣰا شَدِیدࣰاۖ قَالُواْ مَعۡذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمۡ﴾، وفي هذا دليلٌ على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى مع ضعف الرجاء بالاستجابة، وقد استثنَى الله من عذابه هذه الثُّلَّة
﴿أَنجَیۡنَا ٱلَّذِینَ یَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلسُّوۤءِ﴾ ووعَدَهم بالثواب والأجر
﴿إِنَّا لَا نُضِیعُ أَجۡرَ ٱلۡمُصۡلِحِینَ﴾.
ثامنًا: أن مستقبل هؤلاء اليهود المعاندين والكافرين بنبوَّة محمد
ﷺ أنهم يعيشون كلَّ حياتهم في ضعفٍ وعذابٍ يتسلَّط عليهم الآخرون
﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَیَبۡعَثَنَّ عَلَیۡهِمۡ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ مَن یَسُومُهُمۡ سُوۤءَ ٱلۡعَذَابِۗ﴾.
وهذا ظاهرٌ من عهد الرسول
ﷺ حتى تمَكُّنهم مؤخرًا من تشكيل دولةٍ صغيرةٍ ومحاصرةٍ في أرض فلسطين، وهي دولة قلِقَة، وتتعرَّض بين الحين والحين إلى ضربات المقاومة، كما أنها تستمِدُّ قوتها ووجودها من ارتباطها بالقوى الصليبية. وهذه الحالة الاستثنائية من عمر الزمن لا تعارض تلك الحقيقة الكبيرة؛ أن اليهود فشلوا في أن تكون لهم أمَّة وحضارة واستقرار ككلِّ شعوب العالم، مع أنهم يمتلكون عمقًا تاريخيًّا لا يختلف عن بقيَّة الأمم إن لم يَزِد على كثيرٍ منها.