سورة الأعراف تفسير مجالس النور الآية 171

۞ وَإِذۡ نَتَقۡنَا ٱلۡجَبَلَ فَوۡقَهُمۡ كَأَنَّهُۥ ظُلَّةࣱ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُۥ وَاقِعُۢ بِهِمۡ خُذُواْ مَاۤ ءَاتَیۡنَـٰكُم بِقُوَّةࣲ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِیهِ لَعَلَّكُمۡ تَـتَّـقُونَ ﴿١٧١﴾

تفسير مجالس النور سورة الأعراف

المجلس الثاني والسبعون: الخطاب القرآني لليهود


من الآية (157- 171)


ينتقل السياق القرآني بلا مقدمات ولا فواصل ليربط بين صورة الماضي وصورة الحاضر؛ بين صورة اليهود وحراكهم المضطرب والمتذبذب وهم تحت قيادة نبيٍّ منهم ومن بني جلدتهم، وبين صورتهم وهم أمام نبيٍّ من قومٍ آخرين، يدعوهم للإسلام الذي هو رسالة إبراهيم وموسى وهارون وكلِّ الأنبياء السابقين، ويمكن تلخيص الخطاب القرآني في هذا المشهد بالآتي:
أولًا: أن الرسالة المحمديَّة هي امتدادٌ للرسالات السماويَّة السابقة، وأن هذه الرسالات قد بشَّرَت بالنبي الخاتم محمد ﴿ٱلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِیَّ ٱلۡأُمِّیَّ ٱلَّذِی یَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِی ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِیلِ﴾.
ثانيًا: أن الرسالة المحمديَّة رسالةٌ شاملةٌ لكل الناس لا تميِّز بين جنسٍ وجنسٍ، ولا قومٍ وقومٍ ﴿قُلۡ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُمۡ جَمِیعًا ٱلَّذِی لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ﴾.
ثالثًا: أن الرسالة المحمديَّة رسالةُ خيرٍ ويُسرٍ ورحمةٍ ﴿یَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَیُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰۤىِٕثَ وَیَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَـٰلَ ٱلَّتِی كَانَتۡ عَلَیۡهِمۡۚ﴾.
رابعًا: أنه لا خلاص ولا نجاة إلا باتباع هذه الرسالة الخاتمة ﴿وَرَحۡمَتِی وَسِعَتۡ كُلَّ شَیۡءࣲۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِینَ هُم بِـَٔایَـٰتِنَا یُؤۡمِنُو ﴿١٥٦﴾ ٱلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِیَّ ٱلۡأُمِّیَّ﴾، ﴿فَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ مَعَهُۥۤ أُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾، ﴿فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِیِّ ٱلۡأُمِّیِّ ٱلَّذِی یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَـٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾.
خامسًا: تذكير اليهود بتاريخهم مع أنبيائهم في كبريات الأمور ودقائقها ﴿وَقَطَّعۡنَـٰهُمُ ٱثۡنَتَیۡ عَشۡرَةَ أَسۡبَاطًا أُمَمࣰاۚ وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ إِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰهُ قَوۡمُهُۥۤ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنۢبَجَسَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَیۡنࣰاۖ﴾، ﴿وَإِذۡ قِیلَ لَهُمُ ٱسۡكُنُواْ هَـٰذِهِ ٱلۡقَرۡیَةَ وَكُلُواْ مِنۡهَا حَیۡثُ شِئۡتُمۡ وَقُولُواْ حِطَّةࣱ﴾، ﴿وَسۡـَٔلۡهُمۡ عَنِ ٱلۡقَرۡیَةِ ٱلَّتِی كَانَتۡ حَاضِرَةَ ٱلۡبَحۡرِ إِذۡ یَعۡدُونَ فِی ٱلسَّبۡتِ إِذۡ تَأۡتِیهِمۡ حِیتَانُهُمۡ یَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعࣰا وَیَوۡمَ لَا یَسۡبِتُونَ لَا تَأۡتِیهِمۡۚ﴾، ﴿۞ وَإِذۡ نَتَقۡنَا ٱلۡجَبَلَ فَوۡقَهُمۡ كَأَنَّهُۥ ظُلَّةࣱ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُۥ وَاقِعُۢ بِهِمۡ﴾. والمغزى من هذا التذكير: إقامة الحجة عليهم؛ فهذا النبي الأمي الذي لم يتعلَّم الكتاب، ولم يسمع من أحباركم وعلمائكم ها هو يُخبِركم بما يجهلُه كثيرٌ منكم، وبما هو موجودٌ في كتبكم، ألا يدعوكم هذا للنظر والتفكير في دعوته ومراجعة أنفسكم قبل أن تُعرِضوا وتصدُّوا الناسَ عنها بلا حجَّة ولا بيِّنة؟
وفيه أيضًا تحذيرٌ ووعيدٌ لهم إن هم استمرُّوا في عنادهم؛ حيث إن بعض ما قصَّه عليهم قد تضمن عقوبات إلهية شديدة على مخالفاتٍ هي أهون من تكذيبهم للنبي، من مثل تبديلهم لكلمة حطَّة ﴿فَبَدَّلَ ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ قَوۡلًا غَیۡرَ ٱلَّذِی قِیلَ لَهُمۡ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ رِجۡزࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ﴾ ومثل وقوعهم في إثم الصيد يوم السبت ﴿فَلَمَّا عَتَوۡاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنۡهُ قُلۡنَا لَهُمۡ كُونُواْ قِرَدَةً خَـٰسِـِٔینَ﴾.
وفيه أيضًا تنبيه المسلمين إلى حقيقة هؤلاء القوم، فهم إن كانوا بهذا العناد والمكابرة مع أنبيائهم الذين هم منهم ومن بني جلدتهم، فما المظنون بهم وقد انتقلت النبوَّة عنهم إلى غيرهم؟
سادسًا: تمييز الصالح منهم عن الفاسد، وعدم أخذ هؤلاء بجريرة هؤلاء، وهذا هو العدل والإنصاف، فمهما كان تاريخ هؤلاء القوم وواقعهم فلا يصحُّ التعميم في الحكم عليهم، ولا طمس النقاط المضيئة في تجربتهم ﴿وَمِن قَوۡمِ مُوسَىٰۤ أُمَّةࣱ یَهۡدُونَ بِٱلۡحَقِّ وَبِهِۦ یَعۡدِلُونَ﴾، ﴿وَٱلَّذِینَ یُمَسِّكُونَ بِٱلۡكِتَـٰبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِیعُ أَجۡرَ ٱلۡمُصۡلِحِینَ﴾، ﴿وَإِذۡ قَالَتۡ أُمَّةࣱ مِّنۡهُمۡ لِمَ تَعِظُونَ قَوۡمًا ٱللَّهُ مُهۡلِكُهُمۡ أَوۡ مُعَذِّبُهُمۡ عَذَابࣰا شَدِیدࣰاۖ قَالُواْ مَعۡذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَلَعَلَّهُمۡ یَتَّقُونَ﴾.
سابعًا: أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد جاء هذا في وصف نبيِّنا ﴿یَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ﴾ وفي وصف الثُّلَّة المؤمنة التي كانت تُحاول الإصلاحَ في بني إسرائيل ﴿وَإِذۡ قَالَتۡ أُمَّةࣱ مِّنۡهُمۡ لِمَ تَعِظُونَ قَوۡمًا ٱللَّهُ مُهۡلِكُهُمۡ أَوۡ مُعَذِّبُهُمۡ عَذَابࣰا شَدِیدࣰاۖ قَالُواْ مَعۡذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمۡ﴾، وفي هذا دليلٌ على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى مع ضعف الرجاء بالاستجابة، وقد استثنَى الله من عذابه هذه الثُّلَّة ﴿أَنجَیۡنَا ٱلَّذِینَ یَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلسُّوۤءِ﴾ ووعَدَهم بالثواب والأجر ﴿إِنَّا لَا نُضِیعُ أَجۡرَ ٱلۡمُصۡلِحِینَ﴾.
ثامنًا: أن مستقبل هؤلاء اليهود المعاندين والكافرين بنبوَّة محمد أنهم يعيشون كلَّ حياتهم في ضعفٍ وعذابٍ يتسلَّط عليهم الآخرون ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَیَبۡعَثَنَّ عَلَیۡهِمۡ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ مَن یَسُومُهُمۡ سُوۤءَ ٱلۡعَذَابِۗ﴾.
وهذا ظاهرٌ من عهد الرسول حتى تمَكُّنهم مؤخرًا من تشكيل دولةٍ صغيرةٍ ومحاصرةٍ في أرض فلسطين، وهي دولة قلِقَة، وتتعرَّض بين الحين والحين إلى ضربات المقاومة، كما أنها تستمِدُّ قوتها ووجودها من ارتباطها بالقوى الصليبية. وهذه الحالة الاستثنائية من عمر الزمن لا تعارض تلك الحقيقة الكبيرة؛ أن اليهود فشلوا في أن تكون لهم أمَّة وحضارة واستقرار ككلِّ شعوب العالم، مع أنهم يمتلكون عمقًا تاريخيًّا لا يختلف عن بقيَّة الأمم إن لم يَزِد على كثيرٍ منها.


﴿ٱلنَّبِیَّ ٱلۡأُمِّیَّ﴾ هو سيدنا محمد وهو أمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب.
ويبدو أن هذا هو وَصفُهُ في التوراة والإنجيل، وكونه أُمِّيًّا أبلغ في تصديق نبوته؛ إذ لو كان قارئًا لوَجَدَ المبطلون بابًا للشكِّ.
﴿وَیُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰۤىِٕثَ﴾ مبدأ عظيمٌ من مبادئ التشريع الإسلامي، والطيب: كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما هو نافعٌ ماديًّا ومعنويًّا، والخبيث: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما هو ضارٌّ ماديًّا ومعنويًّا.
﴿وَیَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ﴾ ما يشقُّ عليهم.
﴿وَٱلۡأَغۡلَـٰلَ ٱلَّتِی كَانَتۡ عَلَیۡهِمۡۚ﴾ من القيود والتكاليف الثقيلة التي كانت عقوبةً لهم على فسادهم وظلمهم، وكذاك التي ابتدعوها من أنفسهم جهلًا أو غلوًّا.
﴿وَعَزَّرُوهُ﴾ عظَّمُوه.
﴿وَقَطَّعۡنَـٰهُمُ ٱثۡنَتَیۡ عَشۡرَةَ أَسۡبَاطًا أُمَمࣰاۚ﴾ قسَّمناهم إلى قبائل ومجموعات، فكانوا اثنتَي عشرة قبيلة من اثني عشر ولدًا، وهم أبناء يعقوب، يوسف وإخوته.
﴿فَٱنۢبَجَسَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَیۡنࣰاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسࣲ مَّشۡرَبَهُمۡۚ﴾ خرجت من الحجر اثنتا عشرة عين ماء صالح للشرب، لكلِّ سبطٍ منهم عين.
﴿ٱسۡكُنُواْ هَـٰذِهِ ٱلۡقَرۡیَةَ﴾ بيت المقدس.
﴿إِذۡ تَأۡتِیهِمۡ حِیتَانُهُمۡ یَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعࣰا﴾ ظاهرة فوق الماء؛ لكثرتها وتزاحمها.
﴿وَیَوۡمَ لَا یَسۡبِتُونَ﴾ لا يقطعون عملهم.
﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ نَبۡلُوهُم بِمَا كَانُواْ یَفۡسُقُونَ﴾ نزيد في امتحانهم كلَّما زادوا في فسقهم؛ عقوبةً لهم وتمحيصًا للإيمان الذي يدَّعون.
﴿قَالُواْ مَعۡذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمۡ﴾ طلبًا للعذر منه تعالى؛ حتى لا نكون منهم ولا نُلام على تقصيرنا في دعوتهم ونصحهم.
﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦۤ أَنجَیۡنَا ٱلَّذِینَ یَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلسُّوۤءِ﴾ وهذا من تمام معذرتهم بعد أن أدَّوا ما بوسعهم، وفيه إشارةٌ إلى أن مَن لم يَنْهَ عن السوء فقد استوجَبَ العقوبة، والله أعلم.
﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ﴾ أي: أخبَرَ وبيَّنَ.
﴿فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفࣱ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ﴾ هم اليهود الذين ورثوا التوراة عن أسلافهم وعاصروا البعثة المحمدية.
﴿یَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَیَقُولُونَ سَیُغۡفَرُ لَنَا وَإِن یَأۡتِهِمۡ عَرَضࣱ مِّثۡلُهُۥ یَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ یُؤۡخَذۡ عَلَیۡهِم مِّیثَـٰقُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَن لَّا یَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ﴾ نزلت فيمن يشتَري متاع الدنيا وزينتها بتحريف الكتاب والكذب على الله، وهم أحبارُ اليهود، وكانوا يُمَنُّون أنفسهم بمغفرة الله لهم بعد كلِّ ذنبٍ من هذا القَبيل، لكنَّهم يعودون إليه في كلِّ مرة، فلم يكن رجاء المغفرة صادقًا عندهم، ولو كانوا صادقين لتوقَّفُوا عن بُهتهم وتحريفهم.
﴿وَٱلَّذِینَ یُمَسِّكُونَ بِٱلۡكِتَـٰبِ﴾ يتمسَّكون به، ويحافظون عليه، ويُظهرونه ولا يكتمونه.
﴿إِنَّا لَا نُضِیعُ أَجۡرَ ٱلۡمُصۡلِحِینَ﴾ خصَّ المصلحين من بين الصالحين؛ لأن المصلح هو من يبذل جهده في نصح الآخرين وتبيين الحقِّ من الباطل، وهؤلاء هم الذين يقوم بهم الدين، أما الصلاح بلا إصلاح فهو صلاحٌ زائلٌ وذاهبٌ في غمرة الباطل.
﴿۞ وَإِذۡ نَتَقۡنَا ٱلۡجَبَلَ فَوۡقَهُمۡ كَأَنَّهُۥ ظُلَّةࣱ﴾ خلعناه من مكانه ورفعناه فوقهم كأنه سحابة ثقيلة.
﴿خُذُواْ مَاۤ ءَاتَیۡنَـٰكُم بِقُوَّةࣲ﴾ بعزمٍ وحزمٍ دون ضعفٍ أو تردُّدٍ.