سورة الأعراف تفسير مجالس النور الآية 66

قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦۤ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِی سَفَاهَةࣲ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلۡكَـٰذِبِینَ ﴿٦٦﴾

تفسير مجالس النور سورة الأعراف

المجلس السابع والستون: هود وصالح


من الآية (65- 79)


هما رسولان بعَثَهما الله في جزيرة العرب بعد نوح وقبل إبراهيم عليهم وعلى نبيِّنا الصلاة والسلام، أما هود فبُعث في جنوب الجزيرة ناحية حضرموت إلى قومٍ يقال لهم: عاد، وأما صالح فبُعِث في شمالها بين الحجاز والشام إلى قومٍ يقال لهم: ثمود، وعادة القرآن أن يذكرهما متتاليَين؛ لتشابه البيئتَين، وطبيعة القومَين، وأن قوم هود كانوا بعد قوم نوح، وقوم صالح كانوا بعد قوم هود، ويمكن ملاحظة الشبَه بين التجربتَين في النقاط الآتية:
أولًا: كلاهما بادَرَ قومه بالدعوة إلى التوحيد ﴿۞ وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمۡ هُودࣰاۚ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥۤۚ﴾، ﴿وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَـٰلِحࣰاۚ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥ ۖ﴾ وهذا يدلُّ على تمكُّن الشرك في جزيرة العرب من شمالها إلى جنوبها وفي مرحلة مبكِّرة جدًّا في تاريخها، وتوحيد الخطاب حتى في الصيغة دليلٌ على تشابه المخاطَبِين في مستوياتهم وطريقة تفكيرهم.
ثانيًا: كلاهما كان حريصًا على قومه ناصِحًا لهم، قال هود لقومه: ﴿أُبَلِّغُكُمۡ رِسَـٰلَـٰتِ رَبِّی وَأَنَا۠ لَكُمۡ نَاصِحٌ أَمِینٌ﴾، وقال صالح لقومه: ﴿یَـٰقَوۡمِ لَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُمۡ رِسَالَةَ رَبِّی وَنَصَحۡتُ لَكُمۡ وَلَـٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّـٰصِحِینَ﴾.
ثالثًا: إن عادًا وثمودَ كلاهما كانا أُولي بأسٍ وقوةٍ ونعمةٍ، أما عادٌ فقال الله فيهم: ﴿وَزَادَكُمۡ فِی ٱلۡخَلۡقِ بَصۜۡطَةࣰۖ فَٱذۡكُرُوۤاْ ءَالَاۤءَ ٱللَّهِ﴾.
وقال في ثمود: ﴿وَبَوَّأَكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ تَـتَّـخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورࣰا وَتَنۡحِتُونَ ٱلۡجِبَالَ بُیُوتࣰاۖ فَٱذۡكُرُوۤاْ ءَالَاۤءَ ٱللَّ﴾.
رابعًا: إن عادًا وثمودَ كانا أهل عنادٍ ومكابرةٍ؛ بحيث إنهما استعجَلَا عذابَ الله قولًا وفعلًا وبصَلفٍ وتحدٍّ، فقالت عادٌ لنبيِّها: ﴿قَالُوۤاْ أَجِئۡتَنَا لِنَعۡبُدَ ٱللَّهَ وَحۡدَهُۥ وَنَذَرَ مَا كَانَ یَعۡبُدُ ءَابَاۤؤُنَا فَأۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَاۤ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِینَ﴾.
وقالت ثمود لنبيِّها: ﴿وَقَالُواْ یَـٰصَـٰلِحُ ٱئۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَاۤ إِن كُنتَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ﴾.
خامسًا: إن عادًا وثمودَ قد أهلكَهما الله بعذابٍ حاسمٍ، ففي عاد قال الله: ﴿وَقَطَعۡنَا دَابِرَ ٱلَّذِینَ كَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِنَاۖ وَمَا كَانُواْ مُؤۡمِنِینَ﴾، وفي ثمود:﴿فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِی دَارِهِمۡ جَـٰثِمِینَ﴾.


﴿۞ وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمۡ هُودࣰاۚ﴾ هي أخوَّة النسَب، واستعمالها هنا دليلٌ على أن صلَةَ الرحم لا يقطعها اختلاف الدين، وأن الداعية عليه أن يحافظ على وشائِجِ العلاقات الإنسانية، ولا يُفرِّط بها، فهذا من تمام خلق الداعية وسبيله للتأثير والإقناع، ومن ظنَّ أن في هذا خلافًا لعقيدة الولاء والبراء فقد وَهِمَ.
﴿قَالَ ٱلۡمَلَأُ﴾ هم وُجهاء القوم وأشرافهم وقادَة الرأي فيهم.
﴿إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِی سَفَاهَةࣲ﴾ اتهام لرسولهم بالجهالة وخفَّة العقل؛ لأنه خالف ما عليه قومه وما ورِثُوه عن آبائهم وأجدادهم، وهذه سُبَّة تُلاحِق كلَّ خارجٍ على المألوف، ولو كان هذا المألوف فاسدًا أو باطلًا.
﴿قَالَ یَـٰقَوۡمِ لَیۡسَ بِی سَفَاهَةࣱ﴾ تواضُع الأنبياء وتنزُّلهم لردِّ الشُّبهات الوضيعَة مهما كانت.
﴿أُبَلِّغُكُمۡ رِسَـٰلَـٰتِ رَبِّی﴾ و﴿لَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُمۡ رِسَالَةَ رَبِّی﴾ أتى بالجمع في الأولى، وبالإفراد في الثانية؛ لأن الأولى جاءت مع المضارع فهي متجددة ومتنوعة بحسب الحال والمقام، بعكس الثانية التي جاءت إخبارًا عن الماضي؛ حيث تمَّت الرسالة بالفعل، فأصبح من المناسب الحديث عن وحدتها، وليس عن تنوُّعها وتجدُّدها، والله أعلم.
﴿فَٱذۡكُرُوۤاْ ءَالَاۤءَ ٱللَّهِ﴾ نعمه التي أنعَمَ بها عليكم.
﴿قَدۡ وَقَعَ عَلَیۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ رِجۡسࣱ وَغَضَبٌۖ﴾ أي: قد استوجَبتم ذلك بعنادكم وتكبُّركم.
﴿أَتُجَـٰدِلُونَنِی فِیۤ أَسۡمَاۤءࣲ سَمَّیۡتُمُوهَاۤ أَنتُمۡ وَءَابَاۤؤُكُم﴾ ذكر الاسم وأراد المسمَّى، كأنه قال: أتُجادلونني في أصنامٍ سمَّيتموها أنتم آلهة، وما هي كذلك.
﴿وَقَطَعۡنَا دَابِرَ ٱلَّذِینَ كَذَّبُواْ﴾ أي: بلغ الهلاك آخرهم، فلم ينج منهم أحد.
﴿هَـٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ﴾ إضافة اختصاصٍ وتشريفٍ وإلا فالكون كلُّه لله، ومناسبة الاختصاص أن الله خلقها لا على مثال سبق؛ لتكون آيةً على صدق رسوله، وحجَّة ظاهرة على قومه.
﴿وَبَوَّأَكُمۡ﴾ أنزلكم وأسكنكم.
﴿قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِینَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ﴾ دلالة على صلة التكبُّر بالضلالة والبغي والجهالة.
﴿فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ﴾ نحَرُوها ظلمًا وعنادًا، ومخالفةً لوصيَّةِ نبيِّهم ﴿هَـٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَایَةࣰۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِیۤ أَرۡضِ ٱلـلَّــهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوۤءࣲ فَیَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ﴾.
﴿وَعَتَوۡاْ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِمۡ﴾ خالفوه عن قصد وتكبُّر.
﴿فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ﴾ زلزلة وهزَّة في الأرض.
﴿فَأَصۡبَحُواْ فِی دَارِهِمۡ جَـٰثِمِینَ﴾ أجسادًا بلا أرواح تراكم بعضها فوق بعض.
﴿فَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ یَـٰقَوۡمِ لَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُمۡ رِسَالَةَ رَبِّی وَنَصَحۡتُ لَكُمۡ وَلَـٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّـٰصِحِینَ﴾ صورةٌ للداعية الناصح الأمين الذي بذَلَ حياته كلها في نصح قومه، وتحذيرهم من سوء العاقبة، ثم هو يراهم هكذا جاثِمِين بلا حراكٍ، فيخاطبهم وهو عالمٌ أن لا جَدوَى من الخطاب، لكنها صورةٌ لحِرص هذا القلب النقِيِّ على هداية قومه ونجاتهم مهما عانَدُوه وخالَفُوه، وفيها عِظةٌ وتثبيتٌ للقِلَّة الناجية بإيمانها واتباعها سبيل المرسَلِين.