سورة المعارج تفسير مجالس النور الآية 1

سَأَلَ سَاۤىِٕلُۢ بِعَذَابࣲ وَاقِعࣲ ﴿١﴾

تفسير مجالس النور سورة المعارج

المجلس الرابع والستون بعد المائتين: معارج القِيَم الإيمانية والتربوية


سورة المعارج


تتناول سورةُ المعارج مجموعةً من القِيَم الإيمانيَّة والتربويَّة التي تُؤسِّسُ لبناء الفرد الصالح والمُجتمع الصالح في تلك البيئة التي تعُجُّ بالأوثان، والأوهام، والأعراف الفاسدة، ومِن ثَمّ جاءت هذه القِيَم في إطارٍ من الصراع مع الجاهليَّة وآثارها في الدين والنفس، والحياة العامّة والخاصّة، وكما يأتي:
أولًا: تستهِلُّ السورةُ بنموذجٍ من المُكذِّبين المُعانِدين، يسأل عن اليوم الذي سيهلك فيه وينزل عليه العذاب الذي يتوعَّده الله به، يسأل على طريقة الساخر المُستهزِئ، أو على طريقة المُكابِر المتحدِّي.
عجيبٌ أمر هذا المخلوق الذي يرى نفسه أكبرَ من هذا الكون بما فيه من آياتٍ ودلائل، وأعلم بخلق الله مِن الله، ثُمّ يتحدَّى وهو الذي خُلِقَ من حيث لا يعلم، وسيفنى من حيث لا يُريد، لا يدري شيئًا عن السماء وما يعرُجُ فيها، ولا الأرض وما ينزلُ عليها، أو يكمنُ في باطنها ﴿سَأَلَ سَاۤىِٕلُۢ بِعَذَابࣲ وَاقِعࣲ ﴿١﴾ لِّلۡكَـٰفِرِینَ لَیۡسَ لَهُۥ دَافِعࣱ ﴿٢﴾ مِّنَ ٱللَّهِ ذِی ٱلۡمَعَارِجِ ﴿٣﴾ تَعۡرُجُ ٱلۡمَلَــٰۤىِٕكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَیۡهِ فِی یَوۡمࣲ كَانَ مِقۡدَارُهُۥ خَمۡسِینَ أَلۡفَ سَنَةࣲ ﴿٤﴾ فَٱصۡبِرۡ صَبۡرࣰا جَمِیلًا ﴿٥﴾ إِنَّهُمۡ یَرَوۡنَهُۥ بَعِیدࣰا ﴿٦﴾ وَنَرَىٰهُ قَرِیبࣰا ﴿٧﴾ یَوۡمَ تَكُونُ ٱلسَّمَاۤءُ كَٱلۡمُهۡلِ ﴿٨﴾ وَتَكُونُ ٱلۡجِبَالُ كَٱلۡعِهۡنِ ﴿٩﴾ وَلَا یَسۡـَٔلُ حَمِیمٌ حَمِیمࣰا ﴿١٠﴾ یُبَصَّرُونَهُمۡۚ یَوَدُّ ٱلۡمُجۡرِمُ لَوۡ یَفۡتَدِی مِنۡ عَذَابِ یَوۡمِىِٕذِۭ بِبَنِیهِ ﴿١١﴾ وَصَـٰحِبَتِهِۦ وَأَخِیهِ ﴿١٢﴾ وَفَصِیلَتِهِ ٱلَّتِی تُـٔۡوِیهِ ﴿١٣﴾ وَمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا ثُمَّ یُنجِیهِ ﴿١٤﴾ كَلَّاۤۖ إِنَّهَا لَظَىٰ ﴿١٥﴾ نَزَّاعَةࣰ لِّلشَّوَىٰ ﴿١٦﴾ تَدۡعُواْ مَنۡ أَدۡبَرَ وَتَوَلَّىٰ ﴿١٧﴾ وَجَمَعَ فَأَوۡعَىٰۤ﴾.
ثالثًا: تُبيّن السورة طبيعةَ هذا الإنسان وحالَتَه القلِقة المُتردِّدة، باستعداداته التكوينيَّة الأوليَّة القابِلة للصعود والهبوط، والاستقامة والانتكاسة، والتعليم والتجهيل؛ فإنْ صقلَ الإنسان نفسَه وهذَّبَها كان في علِّيِّين، وإن أهمَلَها وضيَّعَها كان في السافِلِين، كحال هذا المسكين ﴿۞ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿١٩﴾ إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعࣰا ﴿٢٠﴾ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلۡخَیۡرُ مَنُوعًا﴾.
رابعًا: استثنَت السورة نفرًا من المُتَّقين الذين هذَّبُوا نفوسهم وألزموها الصراط المستقيم، ووزنوها بميزان الحقّ القويم، وفق هذه المعايير الواضِحة والمُنضبِطة:
1- المُداوَمة على الصلاة ﴿إِلَّا ٱلۡمُصَلِّینَ ﴿٢٢﴾ ٱلَّذِینَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ دَاۤىِٕمُونَ﴾ ولا شكّ أنّ هذا الإنسان الذي ألزَمَ نفسه بالمداومة على الصلاة هو إنسانٌ مُلتزمٌ ومنضبطٌ، قد تخلَّصَ من الفوضويَّة والعبثيَّة، وهذه هي أولى خطوات النجاح.
2- أداء الزكاة والتي تعني فيما تعنِيه: الاستعلاء على شهوة المال، والانطلاق في طريق الخير لخدمة المجتمع، والتخفيف من معاناة المعوزين والمحتاجين ﴿وَٱلَّذِینَ فِیۤ أَمۡوَ ٰ⁠لِهِمۡ حَقࣱّ مَّعۡلُومࣱ ﴿٢٤﴾ لِّلسَّاۤىِٕلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ﴾.
3- الإيمان بعقيدة الحساب والجزاء؛ فلا مجال للعبث والفوضى في هذا الكون، ولا في هذه الحياة، فلا بُدّ أن ينتصف المظلوم مِمَّن ظلمه، ولا بُدّ أن يلقَى فاعل الخير ثوابه، كما يلقَى فاعل الشرّ عقابه، وبغير هذا الإيمان تكون الأرض عبارة عن غابةٍ كبيرةٍ لا حظّ فيها لفقيرٍ أو ضعيفٍ، ثم تتصارَع الوحوش الكبيرة فيما بينها، وتنتهي الحياة بهذه الصورة التي لا يتمنَّاها ولا يرجوها عاقلٌ سويٌّ ﴿وَٱلَّذِینَ یُصَدِّقُونَ بِیَوۡمِ ٱلدِّینِ ﴿٢٦﴾ وَٱلَّذِینَ هُم مِّنۡ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشۡفِقُونَ ﴿٢٧﴾ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمۡ غَیۡرُ مَأۡمُونࣲ﴾.
4- العِفَّةُ والطهارة والانتصار على شهوة الجنس بضبطها وتوجيهها الوجهة التي تخدم الحياة، وتُسهِم في استقرارها واستمرارها وتحقيق الأمن والسكينة فيها ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمۡ غَیۡرُ مَأۡمُونࣲ ﴿٢٩﴾ إِلَّا عَلَىٰۤ أَزۡوَ ٰ⁠جِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَیۡرُ مَلُومِینَ ﴿٣٠﴾ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَاۤءَ ذَ ٰ⁠لِكَ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ﴾.
5-، 6- أداء الأمانات والوفاء بالعهود؛ وهما صفتان مُتلازمتان، ودائرة عملهما أكبر بكثيرٍ مما تُحيط به عبارة، أو تستوعِبه إشارة؛ فليس من موظّفٍ في الدولة مِن حاكمها الأعلى إلى أصغر عاملٍ إلَّا في عنقه أمانة، وفي ذمَّته عهد، هكذا أيضًا أمانة المُعلِّم في صفِّه، والقاضي في محكمته، والإعلامي في صحيفته، والأب مع أبنائه، والجار مع جيرانه، وهكذا إلى كلِّ زاويةٍ من زوايا الحياة ﴿وَٱلَّذِینَ هُمۡ لِأَمَـٰنَـٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَ ٰ⁠عُونَ﴾.
7- الشهادة بالحقِّ ﴿وَٱلَّذِینَ هُم بِشَهَـٰدَ ٰ⁠تِهِمۡ قَاۤىِٕمُونَ﴾ وهذه الصفة مُكمِّلة للصفتَين السابقتَين، والمُتبادر للذهن أنّها تخص الشاهد في ساحة القضاء، ولكنّها أوسع من ذلك وأخطر؛ فالمفتي هو شاهدٌ على حكم الله في المسألة التي أفتى فيها، والناخِب في العمل السياسي هو شاهدٌ أنّ هذا الذي انتخبه هو الأكفأ والأصلح، ولجان التوظيف في كلِّ مؤسسةٍ هُم شهودٌ أيضًا، وهكذا.
8- المحافظة على الصلاة حتى لا يأتيها ما ينقضها، أو ينقض آثارها في الروح والنفس والجوارح ﴿وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ یُحَافِظُونَ﴾ فانظر كيف جعل المداومة على الصلاة صفة، والمحافظة على الصلاة صفة أخرى؛ لأنَّ الواقع يشهَد أنّ كثيرًا من المداومين على الصلاة قد لا ترَى فيهم أثر هذه الصلاة، ولا ترى فيهم نورها؛ والسبب أنّه لم يَصُن هذه الصلاة، ولم يحافظ على نورها الذي وجَدَه في قلبه، بل أطفَأَه بظلمة الغفلة، وطمَسَ آثارَه بكدر المعصية، والله أعلم.
خامسًا: وإذا كان أولئك المُكذِّبون الضالون قد استحَقُّوا ذلك الوعِيدَ، فإنّ هؤلاء المُتَّصِفين بهذه الصفات والذين قوَّموا نفوسَهم بهذه القِيَم يستحِقُّون مِن الله هذا الوَعد الجميل ﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ فِی جَنَّـٰتࣲ مُّكۡرَمُونَ﴾.
سادسًا: تعود السورةُ مرَّةً أخرى إلى ما استهَلَّت به، فتدخل في نفوس أولئك المكذِّبين وتعرِضها بما فيها من تصوُّراتٍ جاهلةٍ، وأمنياتٍ ضائعةٍ، وخوضٍ بالباطل ولعبٍ، كأنّهم يعبَثون بمصائرهم، ويُجازفون بمستقبلهم، وهم قادمون لا محالة على حياة أخرى، ولا يُستشارون في ذلك، كما أنّهم لم يُستشاروا في حياتهم هذه ﴿فَمَالِ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهۡطِعِینَ ﴿٣٦﴾ عَنِ ٱلۡیَمِینِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِینَ ﴿٣٧﴾ أَیَطۡمَعُ كُلُّ ٱمۡرِئࣲ مِّنۡهُمۡ أَن یُدۡخَلَ جَنَّةَ نَعِیمࣲ ﴿٣٨﴾ كَلَّاۤۖ إِنَّا خَلَقۡنَـٰهُم مِّمَّا یَعۡلَمُونَ ﴿٣٩﴾ فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِرَبِّ ٱلۡمَشَـٰرِقِ وَٱلۡمَغَـٰرِبِ إِنَّا لَقَـٰدِرُونَ ﴿٤٠﴾ عَلَىٰۤ أَن نُّبَدِّلَ خَیۡرࣰا مِّنۡهُمۡ وَمَا نَحۡنُ بِمَسۡبُوقِینَ ﴿٤١﴾ فَذَرۡهُمۡ یَخُوضُواْ وَیَلۡعَبُواْ حَتَّىٰ یُلَـٰقُواْ یَوۡمَهُمُ ٱلَّذِی یُوعَدُونَ ﴿٤٢﴾ یَوۡمَ یَخۡرُجُونَ مِنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ سِرَاعࣰا كَأَنَّهُمۡ إِلَىٰ نُصُبࣲ یُوفِضُونَ ﴿٤٣﴾ خَـٰشِعَةً أَبۡصَـٰرُهُمۡ تَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةࣱۚ ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡیَوۡمُ ٱلَّذِی كَانُواْ یُوعَدُونَ﴾.


﴿سَأَلَ سَاۤىِٕلُۢ بِعَذَابࣲ وَاقِعࣲ﴾ عدَّى الفعل بالباء؛ ليفيد معنى الدعاء إضافة إلى معنى الاستفهام، والفعل ﴿سَأَلَ﴾ يفيد المعنَيَين، بمعنى أنّه استفهم على سبيل التحدِّي والاستهزاء، أو أنّه دعَا على نفسه وقومه بالهلاك، كما قال أحدهم: ﴿ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلۡحَقَّ مِنۡ عِندِكَ فَأَمۡطِرۡ عَلَیۡنَا حِجَارَةࣰ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ﴾ [الأنفال: 32]، ولم يُعيِّن القرآن اسمَ السائل؛ لأنّ العبرة بسؤاله لا بشخصه.
﴿لِّلۡكَـٰفِرِینَ لَیۡسَ لَهُۥ دَافِعࣱ﴾ أي: ليس هناك مَن هو قادرٌ على أن يدفعه عنهم.
﴿مِّنَ ٱللَّهِ ذِی ٱلۡمَعَارِجِ﴾ أي: إنّ هذا العذاب مُقدَّرٌ عليهم مِن الله عقوبةً لهم على كفرهم وعنادهم، والمعارج: طُرق الصعود إلى العالم العلوي، ومنه مراتب السائرين إلى الله المُتدرِّجين في المنازل؛ فكلّ منزلةٍ أرقَى من التي قبلها.
﴿تَعۡرُجُ ٱلۡمَلَــٰۤىِٕكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَیۡهِ﴾ أي: تصعَد الملائكة والروح، والروح هو: جبريل عليه السلام، وقد عُطِفَ على الملائكة عطف الخاص على العام؛ تنبيهًا لشرفه ولشرف الوحي الذي ينزِل به، ولا يبعُد أن تكون الروح هي روح الإنسان التي تُقبَض عند موته.
﴿فِی یَوۡمࣲ كَانَ مِقۡدَارُهُۥ خَمۡسِینَ أَلۡفَ سَنَةࣲ﴾ اليوم وحدة زمنيَّة نسبيَّة؛ فيومُ الأرض غير يوم المريخ أو زحل، وأيَّام الله في هذا الكون الفَسِيح لا حَصرَ لها، والله أعلم.
﴿إِنَّهُمۡ یَرَوۡنَهُۥ بَعِیدࣰا ﴿٦﴾ وَنَرَىٰهُ قَرِیبࣰا﴾ تعليلٌ لاستِهزائهم بيوم القيامة واستِعجالهم به على سبيل التحدِّي؛ إذ إنّهم يرَونه مُستحيلًا وبعيدَ التحقُّق، بينما هو عند الله واقعٌ لا محالة.
﴿یَوۡمَ تَكُونُ ٱلسَّمَاۤءُ كَٱلۡمُهۡلِ﴾ والمُهلُ يُطلق على المعدن المذاب كالقطران ونحوه، ويُطلق أيضًا على عكر الزيت المتبقّي منه بعد تصفية الزيت منه، ومعناهما مُتقارب، والله أعلم.
﴿وَتَكُونُ ٱلۡجِبَالُ كَٱلۡعِهۡنِ﴾ أي: تكون كالصوف من حيث تفتُّتها وعدم تماسكها.
﴿وَلَا یَسۡـَٔلُ حَمِیمٌ حَمِیمࣰا﴾ أي: لا يسأل قريبٌ قريبًا، ولا صديقٌ صديقًا؛ فقد جاءهم ما يشغلهم عن بعضهم.
﴿یُبَصَّرُونَهُمۡۚ﴾ أي: يرى بعضهم بعضًا.
﴿یَوَدُّ ٱلۡمُجۡرِمُ لَوۡ یَفۡتَدِی مِنۡ عَذَابِ یَوۡمِىِٕذِۭ بِبَنِیهِ ﴿١١﴾ وَصَـٰحِبَتِهِۦ وَأَخِیهِ ﴿١٢﴾ وَفَصِیلَتِهِ ٱلَّتِی تُـٔۡوِیهِ﴾ بمعنى أنّ ذوي القرابات ليسُوا فقط لا يسألُ بعضُهم عن بعضٍ، بل يَودُّ المجرمُ منهم أن يُقدِّمهم جميعًا فداءً لنفسه من النار، و﴿وَفَصِیلَتِهِ ٱلَّتِی تُـٔۡوِیهِ﴾ أي: عشيرته التي كانت تحتضنه وتحمِيه.
﴿وَمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا ثُمَّ یُنجِیهِ﴾ أي يتمنَّى هذا المجرم أن لو استطاع أن يُقدِّم كلّ أهل الأرض فداء عن نفسه.
﴿كَلَّاۤۖ﴾ كلمة نفيٍ وزجرٍ، بمعنى أنّ كلّ هذا لا ينفع؛ إذ ليس في الآخرة فداء.
﴿إِنَّهَا لَظَىٰ﴾ أي: جهنم، واللظى: اللهب، بمعنى أنّها مُلتهبة مُستعرة، أعاذنا الله منها.
﴿نَزَّاعَةࣰ لِّلشَّوَىٰ﴾ أي: تخلع عنهم الشوى، والشوى: جمع شواة، وهي جلدة الرأس.
﴿تَدۡعُواْ مَنۡ أَدۡبَرَ وَتَوَلَّىٰ ﴿١٧﴾ وَجَمَعَ فَأَوۡعَىٰۤ﴾ أي: تطلبهم؛ لأنّها مُعدّة لهم، وذكر هنا صفتَين من صفات هؤلاء الأشقياء: إدبارهم عن الحقِّ، وتولّيهم عنه، مع حرصهم على جمع المال والبخل به، وهذا الربط يتكرَّر في القرآن كثيرًا، مثل قوله تعالى: ﴿أَرَءَیۡتَ ٱلَّذِی یُكَذِّبُ بِٱلدِّینِ ﴿١﴾ فَذَ ٰ⁠لِكَ ٱلَّذِی یَدُعُّ ٱلۡیَتِیمَ ﴿٢﴾ وَلَا یَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِینِ﴾ [الماعون: 1- 3].
﴿۞ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ بمعنى أنّ الهلَع موجودٌ مع الإنسان في أصل خِلقته، وهو نزعة نفسيَّة تُميِّزه عن باقي المخلوقات، والهلَع: هو اضطرابٌ وخفَّةٌ في النفس تدفعها لعدم الاستقرار فتبطر مع أوّل نعمة، وتضجر مع أوّل محنة.
وقد رأيتُ في بادية العراق كثيرًا ممّنْ يستعمل هذه اللفظة ويُطلقونها على الشخص المُتسرِّع في انفعالاته النفسيّة وغير المُتّزِن.
﴿إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعࣰا ﴿٢٠﴾ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلۡخَیۡرُ مَنُوعًا﴾ هذا ليس تفسيرًا لغويًّا لكلمة: ﴿هَلُوعًا﴾ وإنّما هي آثارٌ سلوكيَّةٌ وعمليَّةٌ تُبيّنُ المقصودَ مِن هذه الصفة الكامِنة في نفس الإنسان؛ فهو يمنَعُ الخيرَ عن الآخرين، ويودُّ أن يبقى حِكرًا عليه، ويجزع عند المصيبة وكأنّها نهاية الحياة.
﴿عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ دَاۤىِٕمُونَ﴾ أي: مواظِبون عليها ويؤدُّونها في أوقاتها.
﴿فِیۤ أَمۡوَ ٰ⁠لِهِمۡ حَقࣱّ مَّعۡلُومࣱ﴾ مُحدَّدٌ، وهو الزكاة، وهذا قول جمهور المُفسِّرين؛ إذ الزكاة هي الحقّ المعلوم للفقراء والمحرومين، أمّا صدقة التطوُّع فهي ليست حقًّا معلومًا، وكذلك النفقة على مَن تجِب له النفقة، فهذه حقٌّ لكنّها ليست للسائل والمحروم.
وقد استشكل أنّ هذه السورة مكّيّة ولم تكن قد فُرِضَت الزكاة، ولا يمنع أن يكون أصل مشروعية الزكاة قد نزل في مكّة، ثم فُصِّلت أحكامها في المدينة، ولهذا نظائِر في بعض العبادات والمعاملات، وفقه العلاقات، والله أعلم.
﴿لِّلسَّاۤىِٕلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ﴾ السائل: الذي يسأل الناس لسدِّ حاجته، والمحروم: الفقير الذي حُرم الرزق.
﴿وَٱلَّذِینَ یُصَدِّقُونَ بِیَوۡمِ ٱلدِّینِ﴾ يؤمنون بيوم الجزاء.
﴿مُّشۡفِقُونَ﴾ خائِفُون، وهذا خوفٌ محمودٌ؛ لأنّه يقُودُ إلى مُراجعة النفس ومُحاسبتها، بخلاف الغافل.
﴿وَٱلَّذِینَ هُمۡ لِأَمَـٰنَـٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَ ٰ⁠عُونَ﴾ أي: حافظون لها مُهتمون بها.
﴿وَٱلَّذِینَ هُم بِشَهَـٰدَ ٰ⁠تِهِمۡ قَاۤىِٕمُونَ﴾ أي: يؤدّونها كما يعلمونها، ويقومون بها فلا يتنصَّلون عنها.
﴿وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ یُحَافِظُونَ﴾ أي: يُحافظون عليها من حيث لا يكون فيها نقص ولا ناقض أو مُفسِد، ويحافظون على نورها في قلوبهم، وآثارها في جوارحهم، فلا يضيعونها بالمنكرات والغفلات.
﴿فَمَالِ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهۡطِعِینَ﴾ أي: ما لَهم يمُدُّون أعناقَهم إليك مُتوجِّهين نحوك، ومُهتمِّين بك، ماذا يريدون؟
﴿عَنِ ٱلۡیَمِینِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِینَ﴾ أي: يتجمَّعُون حولك جماعاتٍ جماعاتٍ، و﴿عِزِینَ﴾ جمع عِزْوَة، وهي: الجماعة.
﴿أَیَطۡمَعُ كُلُّ ٱمۡرِئࣲ مِّنۡهُمۡ أَن یُدۡخَلَ جَنَّةَ نَعِیمࣲ﴾ بأمانيّهم وهم مُقِيمون على ظُلمهم وكفرهم؟
﴿كَلَّاۤۖ إِنَّا خَلَقۡنَـٰهُم مِّمَّا یَعۡلَمُونَ﴾ أي: من النطفة والماء المهين، ومناسبة هذا الرد أنّ بعض المشركين كان يقول: إذا كانت هناك جنَّة فنحن أَولَى بها؛ لأنَّنا سادة القوم ووجهاؤهم، وقد ردّ القرآن عليهم أنكم تعلَمون ممّ خُلِقتم، وإنّما تتمايَزون بأعمالكم وما تقدّمونه لأنفسكم.
﴿فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِرَبِّ ٱلۡمَشَـٰرِقِ وَٱلۡمَغَـٰرِبِ﴾ صيغةٌ من صِيَغ القَسَمِ المُغلَّظ، والمشارِق: المطالِع المختلفة للنجوم والكواكب، ومنها حركة الشمس التي نراها بأعيُننا كلّ يوم؛ فلكلّ يومٍ مشرقه، كما أنّ لكلّ يومٍ مغربه، والأفلاك كذلك لكلّ فلكٍ يومه، ولكلّ فلكٍ طلوعه وغروبه.
﴿نُّبَدِّلَ خَیۡرࣰا مِّنۡهُمۡ﴾ أي: نهلكهم ونأتي بخيرٍ منهم.
﴿وَمَا نَحۡنُ بِمَسۡبُوقِینَ﴾ أي: وما نحن بمغلوبين ولا عاجزين عن ذلك.
﴿فَذَرۡهُمۡ یَخُوضُواْ وَیَلۡعَبُواْ﴾ أي: دعهم على عنادهم وكفرهم ولا تنشغل بهم، والخوض واللعب لَيسَا من شأن الجادِّين في البحث، والراغبين بالحقِّ، ومِن ثَمّ دعاه لتركهم، وجَزْمُ الفعلَين يُشير إلى معنى مضاف وهو التهديد؛ لأنّهما مجزُومان باللام المُقدَّرة، على معنى: ليخوضوا وليلعبوا، وأمّا جَزمُهما بفعل الطلب (ذرهم) فمُستبعَد؛ لأنّهما لا يصلُحان جزاءً ولا جوابًا له؛ لأنّهم خائضون ولاعبون من قبل ومن بعد، والله أعلم.
﴿ٱلۡأَجۡدَاثِ﴾ القبور.
﴿كَأَنَّهُمۡ إِلَىٰ نُصُبࣲ یُوفِضُونَ﴾ أي: يُسرِعون بعد خروجهم من قبورهم إلى داعي الحشر والحساب كما كانوا يُسرِعون عندما يتوجَّهون في الدنيا إلى نُصُبِهم، أي: أصنامهم.
﴿تَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةࣱۚ﴾ أي: تغشاهم مهانة.
﴿ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡیَوۡمُ ٱلَّذِی كَانُواْ یُوعَدُونَ﴾ تذكيرٌ بصدر السورة وما كانوا يسألون عنه استهزاءً وتحدِّيًا ﴿سَأَلَ سَاۤىِٕلُۢ بِعَذَابࣲ وَاقِعࣲ﴾.