﴿سَأَلَ سَاۤىِٕلُۢ بِعَذَابࣲ وَاقِعࣲ﴾ عدَّى الفعل بالباء؛ ليفيد معنى الدعاء إضافة إلى معنى الاستفهام، والفعل
﴿سَأَلَ﴾ يفيد المعنَيَين، بمعنى أنّه استفهم على سبيل التحدِّي والاستهزاء، أو أنّه دعَا على نفسه وقومه بالهلاك، كما قال أحدهم:
﴿ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلۡحَقَّ مِنۡ عِندِكَ فَأَمۡطِرۡ عَلَیۡنَا حِجَارَةࣰ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ﴾ [الأنفال: 32]، ولم يُعيِّن القرآن اسمَ السائل؛ لأنّ العبرة بسؤاله لا بشخصه.
﴿لِّلۡكَـٰفِرِینَ لَیۡسَ لَهُۥ دَافِعࣱ﴾ أي: ليس هناك مَن هو قادرٌ على أن يدفعه عنهم.
﴿مِّنَ ٱللَّهِ ذِی ٱلۡمَعَارِجِ﴾ أي: إنّ هذا العذاب مُقدَّرٌ عليهم مِن الله عقوبةً لهم على كفرهم وعنادهم، والمعارج: طُرق الصعود إلى العالم العلوي، ومنه مراتب السائرين إلى الله المُتدرِّجين في المنازل؛ فكلّ منزلةٍ أرقَى من التي قبلها.
﴿تَعۡرُجُ ٱلۡمَلَــٰۤىِٕكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَیۡهِ﴾ أي: تصعَد الملائكة والروح، والروح هو: جبريل
عليه السلام، وقد عُطِفَ على الملائكة عطف الخاص على العام؛ تنبيهًا لشرفه ولشرف الوحي الذي ينزِل به، ولا يبعُد أن تكون الروح هي روح الإنسان التي تُقبَض عند موته.
﴿فِی یَوۡمࣲ كَانَ مِقۡدَارُهُۥ خَمۡسِینَ أَلۡفَ سَنَةࣲ﴾ اليوم وحدة زمنيَّة نسبيَّة؛ فيومُ الأرض غير يوم المريخ أو زحل، وأيَّام الله في هذا الكون الفَسِيح لا حَصرَ لها، والله أعلم.
﴿إِنَّهُمۡ یَرَوۡنَهُۥ بَعِیدࣰا ﴿٦﴾ وَنَرَىٰهُ قَرِیبࣰا﴾ تعليلٌ لاستِهزائهم بيوم القيامة واستِعجالهم به على سبيل التحدِّي؛ إذ إنّهم يرَونه مُستحيلًا وبعيدَ التحقُّق، بينما هو عند الله واقعٌ لا محالة.
﴿یَوۡمَ تَكُونُ ٱلسَّمَاۤءُ كَٱلۡمُهۡلِ﴾ والمُهلُ يُطلق على المعدن المذاب كالقطران ونحوه، ويُطلق أيضًا على عكر الزيت المتبقّي منه بعد تصفية الزيت منه، ومعناهما مُتقارب، والله أعلم.
﴿وَتَكُونُ ٱلۡجِبَالُ كَٱلۡعِهۡنِ﴾ أي: تكون كالصوف من حيث تفتُّتها وعدم تماسكها.
﴿وَلَا یَسۡـَٔلُ حَمِیمٌ حَمِیمࣰا﴾ أي: لا يسأل قريبٌ قريبًا، ولا صديقٌ صديقًا؛ فقد جاءهم ما يشغلهم عن بعضهم.
﴿یُبَصَّرُونَهُمۡۚ﴾ أي: يرى بعضهم بعضًا.
﴿یَوَدُّ ٱلۡمُجۡرِمُ لَوۡ یَفۡتَدِی مِنۡ عَذَابِ یَوۡمِىِٕذِۭ بِبَنِیهِ ﴿١١﴾ وَصَـٰحِبَتِهِۦ وَأَخِیهِ ﴿١٢﴾ وَفَصِیلَتِهِ ٱلَّتِی تُـٔۡوِیهِ﴾ بمعنى أنّ ذوي القرابات ليسُوا فقط لا يسألُ بعضُهم عن بعضٍ، بل يَودُّ المجرمُ منهم أن يُقدِّمهم جميعًا فداءً لنفسه من النار، و
﴿وَفَصِیلَتِهِ ٱلَّتِی تُـٔۡوِیهِ﴾ أي: عشيرته التي كانت تحتضنه وتحمِيه.
﴿وَمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا ثُمَّ یُنجِیهِ﴾ أي يتمنَّى هذا المجرم أن لو استطاع أن يُقدِّم كلّ أهل الأرض فداء عن نفسه.
﴿كَلَّاۤۖ﴾ كلمة نفيٍ وزجرٍ، بمعنى أنّ كلّ هذا لا ينفع؛ إذ ليس في الآخرة فداء.
﴿إِنَّهَا لَظَىٰ﴾ أي: جهنم، واللظى: اللهب، بمعنى أنّها مُلتهبة مُستعرة، أعاذنا الله منها.
﴿نَزَّاعَةࣰ لِّلشَّوَىٰ﴾ أي: تخلع عنهم الشوى، والشوى: جمع شواة، وهي جلدة الرأس.
﴿تَدۡعُواْ مَنۡ أَدۡبَرَ وَتَوَلَّىٰ ﴿١٧﴾ وَجَمَعَ فَأَوۡعَىٰۤ﴾ أي: تطلبهم؛ لأنّها مُعدّة لهم، وذكر هنا صفتَين من صفات هؤلاء الأشقياء: إدبارهم عن الحقِّ، وتولّيهم عنه، مع حرصهم على جمع المال والبخل به، وهذا الربط يتكرَّر في القرآن كثيرًا، مثل قوله تعالى:
﴿أَرَءَیۡتَ ٱلَّذِی یُكَذِّبُ بِٱلدِّینِ ﴿١﴾ فَذَ ٰلِكَ ٱلَّذِی یَدُعُّ ٱلۡیَتِیمَ ﴿٢﴾ وَلَا یَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِینِ﴾ [الماعون: 1- 3].
﴿۞ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ بمعنى أنّ الهلَع موجودٌ مع الإنسان في أصل خِلقته، وهو نزعة نفسيَّة تُميِّزه عن باقي المخلوقات، والهلَع: هو اضطرابٌ وخفَّةٌ في النفس تدفعها لعدم الاستقرار فتبطر مع أوّل نعمة، وتضجر مع أوّل محنة.
وقد رأيتُ في بادية العراق كثيرًا ممّنْ يستعمل هذه اللفظة ويُطلقونها على الشخص المُتسرِّع في انفعالاته النفسيّة وغير المُتّزِن.
﴿إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعࣰا ﴿٢٠﴾ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلۡخَیۡرُ مَنُوعًا﴾ هذا ليس تفسيرًا لغويًّا لكلمة:
﴿هَلُوعًا﴾ وإنّما هي آثارٌ سلوكيَّةٌ وعمليَّةٌ تُبيّنُ المقصودَ مِن هذه الصفة الكامِنة في نفس الإنسان؛ فهو يمنَعُ الخيرَ عن الآخرين، ويودُّ أن يبقى حِكرًا عليه، ويجزع عند المصيبة وكأنّها نهاية الحياة.
﴿عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ دَاۤىِٕمُونَ﴾ أي: مواظِبون عليها ويؤدُّونها في أوقاتها.
﴿فِیۤ أَمۡوَ ٰلِهِمۡ حَقࣱّ مَّعۡلُومࣱ﴾ مُحدَّدٌ، وهو الزكاة، وهذا قول جمهور المُفسِّرين؛ إذ الزكاة هي الحقّ المعلوم للفقراء والمحرومين، أمّا صدقة التطوُّع فهي ليست حقًّا معلومًا، وكذلك النفقة على مَن تجِب له النفقة، فهذه حقٌّ لكنّها ليست للسائل والمحروم.
وقد استشكل أنّ هذه السورة مكّيّة ولم تكن قد فُرِضَت الزكاة، ولا يمنع أن يكون أصل مشروعية الزكاة قد نزل في مكّة، ثم فُصِّلت أحكامها في المدينة، ولهذا نظائِر في بعض العبادات والمعاملات، وفقه العلاقات، والله أعلم.
﴿لِّلسَّاۤىِٕلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ﴾ السائل: الذي يسأل الناس لسدِّ حاجته، والمحروم: الفقير الذي حُرم الرزق.
﴿وَٱلَّذِینَ یُصَدِّقُونَ بِیَوۡمِ ٱلدِّینِ﴾ يؤمنون بيوم الجزاء.
﴿مُّشۡفِقُونَ﴾ خائِفُون، وهذا خوفٌ محمودٌ؛ لأنّه يقُودُ إلى مُراجعة النفس ومُحاسبتها، بخلاف الغافل.
﴿وَٱلَّذِینَ هُمۡ لِأَمَـٰنَـٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَ ٰعُونَ﴾ أي: حافظون لها مُهتمون بها.
﴿وَٱلَّذِینَ هُم بِشَهَـٰدَ ٰتِهِمۡ قَاۤىِٕمُونَ﴾ أي: يؤدّونها كما يعلمونها، ويقومون بها فلا يتنصَّلون عنها.
﴿وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ یُحَافِظُونَ﴾ أي: يُحافظون عليها من حيث لا يكون فيها نقص ولا ناقض أو مُفسِد، ويحافظون على نورها في قلوبهم، وآثارها في جوارحهم، فلا يضيعونها بالمنكرات والغفلات.
﴿فَمَالِ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهۡطِعِینَ﴾ أي: ما لَهم يمُدُّون أعناقَهم إليك مُتوجِّهين نحوك، ومُهتمِّين بك، ماذا يريدون؟
﴿عَنِ ٱلۡیَمِینِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِینَ﴾ أي: يتجمَّعُون حولك جماعاتٍ جماعاتٍ، و
﴿عِزِینَ﴾ جمع عِزْوَة، وهي: الجماعة.
﴿أَیَطۡمَعُ كُلُّ ٱمۡرِئࣲ مِّنۡهُمۡ أَن یُدۡخَلَ جَنَّةَ نَعِیمࣲ﴾ بأمانيّهم وهم مُقِيمون على ظُلمهم وكفرهم؟
﴿كَلَّاۤۖ إِنَّا خَلَقۡنَـٰهُم مِّمَّا یَعۡلَمُونَ﴾ أي: من النطفة والماء المهين، ومناسبة هذا الرد أنّ بعض المشركين كان يقول: إذا كانت هناك جنَّة فنحن أَولَى بها؛ لأنَّنا سادة القوم ووجهاؤهم، وقد ردّ القرآن عليهم أنكم تعلَمون ممّ خُلِقتم، وإنّما تتمايَزون بأعمالكم وما تقدّمونه لأنفسكم.
﴿فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِرَبِّ ٱلۡمَشَـٰرِقِ وَٱلۡمَغَـٰرِبِ﴾ صيغةٌ من صِيَغ القَسَمِ المُغلَّظ، والمشارِق: المطالِع المختلفة للنجوم والكواكب، ومنها حركة الشمس التي نراها بأعيُننا كلّ يوم؛ فلكلّ يومٍ مشرقه، كما أنّ لكلّ يومٍ مغربه، والأفلاك كذلك لكلّ فلكٍ يومه، ولكلّ فلكٍ طلوعه وغروبه.
﴿نُّبَدِّلَ خَیۡرࣰا مِّنۡهُمۡ﴾ أي: نهلكهم ونأتي بخيرٍ منهم.
﴿وَمَا نَحۡنُ بِمَسۡبُوقِینَ﴾ أي: وما نحن بمغلوبين ولا عاجزين عن ذلك.
﴿فَذَرۡهُمۡ یَخُوضُواْ وَیَلۡعَبُواْ﴾ أي: دعهم على عنادهم وكفرهم ولا تنشغل بهم، والخوض واللعب لَيسَا من شأن الجادِّين في البحث، والراغبين بالحقِّ، ومِن ثَمّ دعاه لتركهم، وجَزْمُ الفعلَين يُشير إلى معنى مضاف وهو التهديد؛ لأنّهما مجزُومان باللام المُقدَّرة، على معنى: ليخوضوا وليلعبوا، وأمّا جَزمُهما بفعل الطلب (ذرهم) فمُستبعَد؛ لأنّهما لا يصلُحان جزاءً ولا جوابًا له؛ لأنّهم خائضون ولاعبون من قبل ومن بعد، والله أعلم.
﴿ٱلۡأَجۡدَاثِ﴾ القبور.
﴿كَأَنَّهُمۡ إِلَىٰ نُصُبࣲ یُوفِضُونَ﴾ أي: يُسرِعون بعد خروجهم من قبورهم إلى داعي
الحشر والحساب كما كانوا يُسرِعون عندما يتوجَّهون في الدنيا إلى نُصُبِهم، أي: أصنامهم.
﴿تَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةࣱۚ﴾ أي: تغشاهم مهانة.
﴿ذَ ٰلِكَ ٱلۡیَوۡمُ ٱلَّذِی كَانُواْ یُوعَدُونَ﴾ تذكيرٌ بصدر السورة وما كانوا يسألون عنه استهزاءً وتحدِّيًا
﴿سَأَلَ سَاۤىِٕلُۢ بِعَذَابࣲ وَاقِعࣲ﴾.