سورة الجن تفسير مجالس النور الآية 21

قُلۡ إِنِّی لَاۤ أَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرࣰّا وَلَا رَشَدࣰا ﴿٢١﴾

تفسير مجالس النور سورة الجن

المجلس السادس والستون بعد المائتين: علاقة الإنس بالجن


سورة الجن


الإنسان لا يعيش لوحده في هذا العالم، بل هناك عوالم كثيرة، منها ما يقع تحت حواس الإنسان ومدركاته؛ كأصناف الحيوانات والنباتات التي ألِفَها منذ القدم وعرف كيف يتعامل معها، ومنها ما لم يُدركه الإنسان إلَّا مؤخَّرًا بعد الثورة العلميّة والطبِّيَّة؛ وذلك مثل: أنواع الفيروسات والميكروبات والجراثيم، وكذلك أنواع الإشعاع الهابط على الأرض، وغير ذلك كثير، وهناك ما لم يكتشفه الإنسان إلى الآن، ورُبَّما سيكتشفه مستقبلًا.
والإنسان السويّ العاقل يُدرك بتجربته العلميّة أنّ عدم إدراكه للشيء لا يعني أنّه غير موجود، وعالم الجن واحدٌ من هذه العوالم التي أجمَعَت الرسالات السماويّة على وجوده، وليس موضوع هذه السورة إثبات وجود هذا العالم، وإنّما بيان بعض صفاته وخصائصه، ولدفع الأوهام التي عشَّشَت في أذهان كثير من البشر نتيجةً لشيوع الجهل، وتراكم الخرافة:
أولًا: تستهل السورة بالإخبار أنّ نفرًا من الجنِّ قد استمَعوا لقراءة النبي فانبهروا بالقرآن، وآمنوا بما جاء به ﴿قُلۡ أُوحِیَ إِلَیَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرࣱ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبࣰا ﴿١﴾ یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلرُّشۡدِ فَـَٔامَنَّا بِهِۦۖ وَلَن نُّشۡرِكَ بِرَبِّنَاۤ أَحَدࣰا ﴿٢﴾ وَأَنَّهُۥ تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَـٰحِبَةࣰ وَلَا وَلَدࣰا﴾ ونبذوا ما كانوا يسمَعونه من سفهائهم ومشركيهم ﴿وَأَنَّهُۥ كَانَ یَقُولُ سَفِیهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطࣰا ﴿٤﴾ وَأَنَّا ظَنَنَّاۤ أَن لَّن تَقُولَ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبࣰا﴾ وأنّ سفهاءهم هؤلاء كانوا يُنكِرون الرسالات، ويُكذِّبون بالنبُوَّات كما هو حال مُشرِكِي البَشَر ﴿وَأَنَّهُمۡ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمۡ أَن لَّن یَبۡعَثَ ٱللَّهُ أَحَدࣰا﴾.
ثانيًا: أخبَرَت السورة على لسان هؤلاء النفَر أنّ بعض رجال الإنس كانوا يَحتَمُون ببعض رجال الجنِّ ويعُوذُون بهم، فزادَهم هذا ضلالًا وتخبُّطًا وذلَّةً ﴿وَأَنَّهُۥ كَانَ رِجَالࣱ مِّنَ ٱلۡإِنسِ یَعُوذُونَ بِرِجَالࣲ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَزَادُوهُمۡ رَهَقࣰا﴾.
ثالثًا: أخبَرَت السورة على لسان هؤلاء النفَر أنّهم لمَسُوا السماء فوجدوها محروسة فلم يتمكّنوا من استراق الخبر منها كما كانوا سابقًا، وهم هنا يُشيرون إلى التغيُّر الذي حصَلَ بالبعثة المُحمّديَّة ونزول القرآن ﴿وَأَنَّا لَمَسۡنَا ٱلسَّمَاۤءَ فَوَجَدۡنَـٰهَا مُلِئَتۡ حَرَسࣰا شَدِیدࣰا وَشُهُبࣰا ﴿٨﴾ وَأَنَّا كُنَّا نَقۡعُدُ مِنۡهَا مَقَـٰعِدَ لِلسَّمۡعِۖ فَمَن یَسۡتَمِعِ ٱلۡـَٔانَ یَجِدۡ لَهُۥ شِهَابࣰا رَّصَدࣰا ﴿٩﴾ وَأَنَّا لَا نَدۡرِیۤ أَشَرٌّ أُرِیدَ بِمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدࣰا﴾.
رابعًا: اختتَمَ الحديث عن الجنِّ ببيان بعض أخبارهم وتوجُّهاتهم مما ورد على لسان هؤلاء النفَر أيضًا، وأنّهم أصنافٌ وفئاتٌ؛ منهم المؤمن، ومنهم الكافر، ومنهم الصالح، ومنهم الطالح ﴿وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَ ٰ⁠لِكَۖ كُنَّا طَرَاۤىِٕقَ قِدَدࣰا ﴿١١﴾ وَأَنَّا ظَنَنَّاۤ أَن لَّن نُّعۡجِزَ ٱللَّهَ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَن نُّعۡجِزَهُۥ هَرَبࣰا ﴿١٢﴾ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعۡنَا ٱلۡهُدَىٰۤ ءَامَنَّا بِهِۦۖ فَمَن یُؤۡمِنۢ بِرَبِّهِۦ فَلَا یَخَافُ بَخۡسࣰا وَلَا رَهَقࣰا ﴿١٣﴾ وَأَنَّا مِنَّا ٱلۡمُسۡلِمُونَ وَمِنَّا ٱلۡقَـٰسِطُونَۖ فَمَنۡ أَسۡلَمَ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ تَحَرَّوۡاْ رَشَدࣰا ﴿١٤﴾ وَأَمَّا ٱلۡقَـٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبࣰا﴾.
خامسًا: انتقَلَت السورةُ إلى شأنٍ آخر؛ شأن قريش، فبدأت بترغيبهم وترهيبهم لعلّهم يعودون إلى الحقِّ ﴿وَأَلَّوِ ٱسۡتَقَـٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِیقَةِ لَأَسۡقَیۡنَـٰهُم مَّاۤءً غَدَقࣰا ﴿١٦﴾ لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِیهِۚ وَمَن یُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ یَسۡلُكۡهُ عَذَابࣰا صَعَدࣰا﴾.
سادسًا: ثم حذّرتهم من استمرارهم بتلويث المسجد الحرام بتلك الأصنام وما يتعلّق بها من طقوسٍ وثنيةٍ ودعواتٍ جاهليّةٍ ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدࣰا﴾.
سابعًا: ثم بيّنت موقفهم من هذه الدعوة المحمّديّة التي تدعوهم إلى توحيد الله وإخلاص الدين له، والتوكل عليه وحده، وتحذيرهم من مغبَّة العناد والإصرار على معصية الله ورسوله ﴿وَأَنَّهُۥ لَمَّا قَامَ عَبۡدُ ٱللَّهِ یَدۡعُوهُ كَادُواْ یَكُونُونَ عَلَیۡهِ لِبَدࣰا ﴿١٩﴾ قُلۡ إِنَّمَاۤ أَدۡعُواْ رَبِّی وَلَاۤ أُشۡرِكُ بِهِۦۤ أَحَدࣰا ﴿٢٠﴾ قُلۡ إِنِّی لَاۤ أَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرࣰّا وَلَا رَشَدࣰا ﴿٢١﴾ قُلۡ إِنِّی لَن یُجِیرَنِی مِنَ ٱللَّهِ أَحَدࣱ وَلَنۡ أَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدًا ﴿٢٢﴾ إِلَّا بَلَـٰغࣰا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَـٰلَـٰتِهِۦۚ وَمَن یَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ لَهُۥ نَارَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدًا ﴿٢٣﴾ حَتَّىٰۤ إِذَا رَأَوۡاْ مَا یُوعَدُونَ فَسَیَعۡلَمُونَ مَنۡ أَضۡعَفُ نَاصِرࣰا وَأَقَلُّ عَدَدࣰا﴾.
ثامنًا: ختمت السورة ببيان علاقته بعالم الغيب، وأنّه لا يعلم عنه إلَّا ما علّمه الله له، في إشارةٍ إلى ما ورد في السورة من أخبارٍ غيبيّةٍ تتعلّق بعالم الجنّ وما فيه من أصنافٍ وأحوالٍ، وعالم الآخرة وما فيه من وعيدٍ لهؤلاء المشركين ﴿قُلۡ إِنۡ أَدۡرِیۤ أَقَرِیبࣱ مَّا تُوعَدُونَ أَمۡ یَجۡعَلُ لَهُۥ رَبِّیۤ أَمَدًا ﴿٢٥﴾ عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ فَلَا یُظۡهِرُ عَلَىٰ غَیۡبِهِۦۤ أَحَدًا ﴿٢٦﴾ إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُولࣲ فَإِنَّهُۥ یَسۡلُكُ مِنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ رَصَدࣰا ﴿٢٧﴾ لِّیَعۡلَمَ أَن قَدۡ أَبۡلَغُواْ رِسَـٰلَـٰتِ رَبِّهِمۡ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَیۡهِمۡ وَأَحۡصَىٰ كُلَّ شَیۡءٍ عَدَدَۢا﴾.


﴿قُلۡ أُوحِیَ إِلَیَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرࣱ مِّنَ ٱلۡجِنِّ﴾ إشارةٌ إلى أنّه لم يكن على عِلمٍ بهم وباستماعهم.
قال ابن كثير عن الحسن البصري: (إنّه ما شعَرَ بأمرهم حتى أنزَلَ الله عليه بخبَرِهم).
والنَّفَرُ: الجماعة القليلة التي لا تزيد على عشرة.
﴿فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبࣰا﴾ أظهَروا تعجُّبهم من حُسنِهِ وتأثيره فيهم.
﴿یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلرُّشۡدِ﴾ أي: يدلُّ إلى الصواب والخير والحكمة.
﴿وَأَنَّهُۥ تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَـٰحِبَةࣰ وَلَا وَلَدࣰا﴾ أي: تعالَى جلاله وعظمته أن يكون له زوجة وولد، والجَدُّ: الجلال والعظمة.
﴿وَأَنَّهُۥ كَانَ یَقُولُ سَفِیهُنَا﴾ يَعنُون به إبليس؛ لأنّه من الجنِّ.
﴿عَلَى ٱللَّهِ شَطَطࣰا﴾ الشَّطَط: مجاوزة الصواب والعدل.
﴿وَأَنَّا ظَنَنَّاۤ أَن لَّن تَقُولَ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبࣰا﴾ أي: ما كنَّا نظنُّ أنّ عاقلًا في الإنس أو الجنِّ يتجرَّأ على أن يكذب على الله.
﴿وَأَنَّهُۥ كَانَ رِجَالࣱ مِّنَ ٱلۡإِنسِ یَعُوذُونَ بِرِجَالࣲ مِّنَ ٱلۡجِنِّ﴾ أي: يَحْتَمُون بهم، وكانت هذه عادة جاهلية؛ حيث إنّهم إذا نزَلوا في وادٍ استعاذُوا بكبير الجنِّ - وهم لا يعرفونه - أن يُجيرَهم من سفهاء الجنِّ، وقد بالَغَ بعض العرب في هذا الخوف حتى لجَأَ إلى عبادة الجن، ونسَبَ الجنَّ إلى الله، بمعنى أنّه منَحَهم شيئًا من صفات الألوهيَّة.
﴿فَزَادُوهُمۡ رَهَقࣰا﴾ أي: زادَتْهم عبادتهم للجنِّ خوفًا وذُلًّا وضلالًا، وهذا هو شأن كلّ من يلجَأ إلى غير خالقه، وهذا المعنى أَولَى وأنسب للسياق، ولمقاصد الخلق الكليَّة من القول بأنّ الجن تمكّنوا من الإنس فزادوهم خوفًا على خوفهم؛ إذ الجن لا يتمكّنون من البشر، ولا البشر يتمكّنون من الجنِّ، وهو أَولَى كذلك من القول أنّ الإنس بهذه الاستعاذات قد زادوا الجنَّ عتوًّا وطغيانًا؛ لأنّ مدلول الرَّهَق مخالفٌ لهذا، كما قال تعالى: ﴿تَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةࣱۚ﴾، وقال: ﴿وَلَا تُرۡهِقۡنِی مِنۡ أَمۡرِی عُسۡرࣰا﴾ [الكهف: 73]، وسيأتي أيضًا قوله تعالى: ﴿فَلَا یَخَافُ بَخۡسࣰا وَلَا رَهَقࣰا﴾، والله أعلم.
﴿وَأَنَّهُمۡ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمۡ أَن لَّن یَبۡعَثَ ٱللَّهُ أَحَدࣰا﴾ هذه الآية تحتمل أنّهم يُنكِرون البعث والحساب، وتحتمل أنّهم يُنكِرون أن يبعثَ الله نبيًّا أو رسولًا، والثاني أقرب للسياق؛ لأنّ السورة بدأت بالحديث عن سماعهم للرسالة المحمدّيَّة، ثم صدمتهم بوجود حراسةٍ للسماء لم تكن معهودة لهم في السابق، وهذه علامةٌ على حصول شيءٍ جديدٍ وذي شأنٍ عظيمٍ، وما ذاك إلَّا البعثة المحمّديّة، كما هو معلوم.
﴿وَأَنَّا لَمَسۡنَا ٱلسَّمَاۤءَ فَوَجَدۡنَـٰهَا مُلِئَتۡ حَرَسࣰا شَدِیدࣰا وَشُهُبࣰا ﴿٨﴾ وَأَنَّا كُنَّا نَقۡعُدُ مِنۡهَا مَقَـٰعِدَ لِلسَّمۡعِۖ فَمَن یَسۡتَمِعِ ٱلۡـَٔانَ یَجِدۡ لَهُۥ شِهَابࣰا رَّصَدࣰا﴾ هذه من الأخبار الغيبيَّة التي تخصُّ صِلةَ الجنِّ بالسماء، وأنّهم كانوا قبل بِعثَتِه يستَرِقُون أخبارَ الغيب، ثم مُنِعُوا عن ذلك.
والعقولُ لا تملِك أدوات التعرُّف على حقيقة هذه الصورة الغيبيَّة، ولا كيفيَّتها، ولا أي معلومةٍ تفصيليَّةٍ عنها، وليس مطلوبًا من العقول ذلك، وإنّما المطلوب هو التوصُّلُ إلى المقصود العملي من هذا الإخبار، ألا وهو التيقُّنُ أنّ الوحيَ النازلَ من السماء إلى الأرض محفوظٌ من الزيادة والنقصان، لا يتعَرَّض له إنسٌ ولا جِنٌّ، وأنّ الجنَّ محكومُون بقَدر الله كما الإنس.
﴿وَأَنَّا لَا نَدۡرِیۤ أَشَرٌّ أُرِیدَ بِمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدࣰا﴾ أي: لم نكن ندري - والقول للجنِّ - أهَذا الذي حصل من حراسة السماء ومنعنا من استِراق السمع لشرٍّ أُرِيدَ بالأرض؛ كالهلاك أو قيام الساعة، أم لأمرٍ يعود لها بالخير، بأن يبعَثَ الله نبيًّا أو رسولًا لها، وكان هذا قبل أن يستمِعُوا القرآنَ فيُؤمِنُوا به، والله أعلم.
﴿كُنَّا طَرَاۤىِٕقَ قِدَدࣰا﴾ كنَّا مذاهِب مختلفة، والقِدَد: جمع قِدّة، وهي القطعة.
﴿وَأَنَّا ظَنَنَّاۤ أَن لَّن نُّعۡجِزَ ٱللَّهَ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَن نُّعۡجِزَهُۥ هَرَبࣰا﴾ أي: أيقنَّا بأنّ الله قادر علينا ولن نفلِت من حكمه سواء بَقِينا في أماكننا في الأرض أم فررنا إلى جهةٍ أخرى، فكلُّ ذلك عند الله سواء.
﴿فَلَا یَخَافُ بَخۡسࣰا وَلَا رَهَقࣰا﴾ البَخْسُ: النقص، والرَّهَقُ: الإذلال والإهانة، وهذا تأكيدٌ لمعنى الرَّهَق الذي اخترناه آنفًا في مسألة استعاذة الإنس بالجن؛ إذ اقتِران الرَّهَق بالبَخْس يبعد استعماله بمعنى الطغيان والتكبر، والله أعلم.
﴿تَحَرَّوۡاْ رَشَدࣰا﴾ أي: طلبوا الرشد وبحثوا عنه حتى وصلوا إليه.
﴿ٱلۡقَـٰسِطُونَۖ﴾ الظالمون.
﴿وَأَلَّوِ ٱسۡتَقَـٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِیقَةِ﴾ أي: لو أنّهم استجابوا للحقِّ واستقاموا على الصراط المستقيم، والمقصود بهم أهل مكّة، فالحديث انتقل إليهم.
﴿لَأَسۡقَیۡنَـٰهُم مَّاۤءً غَدَقࣰا﴾ أي: لأنزلنا عليهم ماءً كثيرًا، وفيه إشارةٌ أنّ استمرارهم على الكفر يُنذر بالقحط واحتباس المطر، وقد كان.
﴿لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِیهِۚ﴾ أي: لنختبر شكرهم لله على هذه النعم؛ إذ كلّ ما يُصيب الإنسان في هذه الحياة من خيرٍ أو شرٍّ داخلٌ في باب الاختبار.
﴿یَسۡلُكۡهُ عَذَابࣰا صَعَدࣰا﴾ أي: يدخله في عذاب شاقٍّ.
﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ﴾ أي: إنّما بُنِيَت لعبادة الله وحده، والمقصود هنا: المسجد الحرام؛ إذ لم يكن هناك مسجدٌ سِواه، والحكم ماضٍ من بعده في كلّ مسجدٍ يُقام.
﴿فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدࣰا﴾ تنديدٌ بما يفعله المشركون من تدنيس البيت الحرام بتلك الآلهة المُزيّفة، ويُقاسُ على هذا أيضًا تمجيد كلّ أحدٍ من دون الله؛ كتعظيم الملوك والمبالغة في مدحهم، فالمساجد لم تُبْنَ لها، وقد صار في زماننا أنّ مساجد كلّ دولةٍ تتنافَس في تمجيد حاكمها، مع اختلاف الحكام فيما بينهم اختلافًا عظيمًا، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله.
﴿وَأَنَّهُۥ لَمَّا قَامَ عَبۡدُ ٱللَّهِ یَدۡعُوهُ﴾ أي: لمّا قام محمد بأمر الدعوة إلى الله وحث الناس على توحيده وعبادته.
﴿كَادُواْ یَكُونُونَ عَلَیۡهِ لِبَدࣰا﴾ أي: احتشد المشركون في وجهه، ووقفوا له في طريقه صادِّين الناس عنه، واللِّبَدُ: تجمُّع الأشياء بعضها فوق بعض.
﴿قُلۡ إِنِّی لَن یُجِیرَنِی مِنَ ٱللَّهِ أَحَدࣱ﴾ أي: في حالة اتباعي لأهوائكم وتوقُّفي عن هذه الدعوة، وهذا من باب التيئيس لهم.
﴿وَلَنۡ أَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدًا﴾ أي: ملجأً ومكانًا أهرب إليه منه، ومنه اللَّحد الذي يستر جسد الميت.
﴿إِلَّا بَلَـٰغࣰا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَـٰلَـٰتِهِۦۚ﴾ أي: لا أملِك إلَّا تبليغي لكلام ربي ورسالاته، وهذا نظيرُ قوله تعالى: ﴿إِنۡ عَلَیۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَـٰغُ ۗ﴾ [الشورى: 48]؛ فالنبيُّ لا يملِك أن يُجبِرَ أحدًا على الهداية، ولا أن يُعجِّلَ بعقوبةِ الله على أحدٍ، ولا أن يُرِيَهم بعضَ الآيات التي يطلبون.
﴿قُلۡ إِنۡ أَدۡرِیۤ أَقَرِیبࣱ مَّا تُوعَدُونَ أَمۡ یَجۡعَلُ لَهُۥ رَبِّیۤ أَمَدًا﴾ أي: قُل يا محمد لهؤلاء: إنّك لا تعلم متى ينزل وعيدُ الله على هؤلاء، أهو قريبٌ أم سيجعَل له الله أمدًا يُمتّعهم به إلى حين، وهذا التأكيد إنّما قُصِدَ به: بيان الحدّ الفاصل بين عِلم الله الشامل والمطلق وبين عِلم النبيين الذين يتكلّمون عن الله، ويُبلِّغون رسالاته للناس.
﴿عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ﴾ فلا عالِمَ للغيب سواه، وإنّما يبلِّغ النبيُّ ما يُوحى إليه من ربِّه.
﴿فَلَا یُظۡهِرُ عَلَىٰ غَیۡبِهِۦۤ أَحَدًا ﴿٢٦﴾ إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُولࣲ﴾ هذا استثناءٌ يُفيد الحصر، بمعنى أنّه لا أحد من البشر يعلم الغيب إلَّا الرسول الذي ينزل عليه الوحي؛ فمَن ادَّعى علمَ الغيب بأي وجهٍ كان، فقد لزِمَ من قوله نزول الوحي عليه.
والمقصود بالغيب هنا: ما كان في عالم الغيب، وليس ما غابَ عن الإنسان في عالم الشهادة؛ لأنّ هذا الأخير يتحصَّل بأشياء كثيرةٍ، منها العلمي، ومنها الروحي، ومنها الفِراسة، لكن عالم الغيب هو الذي بيننا وبينه حجاب؛ كالعرش والكرسي، وأحوال العوالم الغيبيّة، وأحوال الآخرة، وما هو مُدوَّن في عِلم الله من آجالهم وأرزاقهم، ونحو ذلك، والله أعلم.
﴿فَإِنَّهُۥ یَسۡلُكُ مِنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ رَصَدࣰا﴾ أي: يُرسل له ملائكة الوحي ليُوصِلوا إليه الوحي بالطريقة المباشرة التي لا تفتقر إلى سندٍ من الرواة ولا التفرُّس في المعاني والواردات، بل هو الوحي اليقين والجازم والمحفوظ من الزيادة والنقصان.
﴿لِّیَعۡلَمَ أَن قَدۡ أَبۡلَغُواْ رِسَـٰلَـٰتِ رَبِّهِمۡ﴾ أي: ليظهر ما كان في عِلم الله أنّ هؤلاء الرسل قد أبلَغُوا الناس رسالات ربِّهم كما أوحاها إليهم، حتى تقوم الحُجَّة لله على خلقه.
﴿وَأَحَاطَ بِمَا لَدَیۡهِمۡ وَأَحۡصَىٰ كُلَّ شَیۡءٍ عَدَدَۢا﴾ تأكيدٌ لعلمه سبحانه الشامل الكامل الذي يُحيط بالمرسلين، وبما يبلِّغونه عنه، ويعلَم سبحانه كلَّ شيءٍ في هذا الوجود على وجه الإحصاء والضبط والحصر، فتبارَكَ الله ربُّ العالمين.