﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ﴾ نداءٌ لرسول الله
ﷺ فيه معنى التودُّد والتلطُّف، و
﴿ٱلۡمُزَّمِّلُ﴾ أصلها المُتزمِّل؛ وهو مَن لفَّ ثيابه على نفسه، وهي هيئةٌ مألوفةٌ من كلِّ أحدٍ، وفي كلِّ وقتٍ، لكنَّها بالنسبة للرسول
ﷺ قد اقترنت بنزول الوحي، وما أصابه من الرّوع في أوَّل الأمر فقال: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي».
﴿قُمِ ٱلَّیۡلَ إِلَّا قَلِیلࣰا ﴿٢﴾ نِّصۡفَهُۥۤ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِیلًا ﴿٣﴾ أَوۡ زِدۡ عَلَیۡهِ﴾ أمرٌ له
ﷺ بقيام الليل قيامًا طويلًا يُقارِب النصف في حدِّه الأدنى، والأمر هنا للوجوب، وليس على سبيل التخيير أو التطوُّع، وهذا من خصائصه
ﷺ.
﴿وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِیلًا﴾ ربط القيام بترتيل القرآن يظهر فائدة من فوائد القيام، وهي تعهُّد القرآن الكريم بحفظه وتلاوته حقّ تلاوته وتدبُّره، ولا شكّ أنّ في الليل بطولِهِ وصفائِهِ مُتّسعًا لكلِّ هذا، والترتيل معناه: القراءة على مهلٍ؛ بحيث تظهر الحروف، وتتبيَّن الكلمات.
﴿إِنَّا سَنُلۡقِی عَلَیۡكَ قَوۡلࣰا ثَقِیلًا﴾ القول الثقيل هو: القرآن، وثِقَله بثِقَل أمانته وعظيم مسؤوليّة حمله وتبليغه للناس، وقد جاء هذا الإخبار متصلًا بقيام الليل على وجه التعليل؛ بمعنى أنَّ حَمْل هذه الأمانة الثقيلة يتطلّب صلةً عميقةً بالله تعالى، كالشجرة التي تتمدَّد جذورها في الأرض لتَقوَى على حمل فروعها وثمارها في السماء.
﴿إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّیۡلِ هِیَ أَشَدُّ وَطۡـࣰٔا وَأَقۡوَمُ قِیلًا﴾ الناشِئة: ما يُنشِئه المُصلِّي في الليل من صلاةٍ وذكرٍ ودعاءٍ، فاكتفى بالصفة عن ذِكر الموصوف، و
﴿أَشَدُّ وَطۡـࣰٔا﴾ أي: أثقل على النفس؛ ولذلك لا يَقوَى عليها إلَّا الأصفياء الأتقياء، و
﴿وَأَقۡوَمُ قِیلًا﴾ أي: أعدلُ وأفضلُ قولًا؛ لأنّ الذِّكر الذي يكون في جوف الليل يكون أصفَى وأقرَبَ للخشوع والتدبُّر، وأبعَد عن الرياء.
﴿إِنَّ لَكَ فِی ٱلنَّهَارِ سَبۡحࣰا طَوِیلࣰا﴾ أصلُ السَّبحِ: العَوم، ومعناه هنا: التطواف لأداء المهام وسدّ الحاجات، ومن ذلك: السعي في الدعوة إلى الله، وحلّ مشاكل المجتمع، وإجابة السائلين والمستفتين.
﴿وَتَبَتَّلۡ إِلَیۡهِ تَبۡتِیلࣰا﴾ أي: انقطِع له بالعبادة انقطاع
الإخلاص وحضور القلب، وليس انقطاع الرهبنة والاعتزال عن الحياة.
﴿وَٱهۡجُرۡهُمۡ هَجۡرࣰا جَمِیلࣰا﴾ أي: لا تنشَغِل بهم وبالردِّ على أقاويلهم، وهو الهجرُ المصحوب بالصبر والحلم، والرغبة في هدايتهم، وليس الانتقام منهم.
﴿وَذَرۡنِی وَٱلۡمُكَذِّبِینَ أُوْلِی ٱلنَّعۡمَةِ﴾ أي: دَعْ هؤلاء المُكذِّبين المُترَفين الذين أعماهم الترف عن اتباع الحقِّ واتركهم لي، وهذه صيغةٌ من صيغ التهديد المعروفة.
﴿وَمَهِّلۡهُمۡ قَلِیلًا﴾ أي: انتظر ما يحلُّ بهم، ولا تستعجل لهم.
﴿إِنَّ لَدَیۡنَاۤ أَنكَالࣰا وَجَحِیمࣰا﴾ الأنكال: القيود الثقيلة، بمعنى أنّهم يُقيَّدون ويُرمون في جهنَّم.
﴿وَطَعَامࣰا ذَا غُصَّةࣲ﴾ أي: ينشب في الحلق ولا يُستساغ.
﴿یَوۡمَ تَرۡجُفُ ٱلۡأَرۡضُ وَٱلۡجِبَالُ﴾ أي: تزلزل.
﴿وَكَانَتِ ٱلۡجِبَالُ كَثِیبࣰا مَّهِیلًا﴾ أي: رملًا منثورًا غير مجتمعٍ ولا متماسكٍ.
﴿إِنَّـاۤ أَرۡسَلۡنَاۤ إِلَیۡكُمۡ رَسُولࣰا شَـٰهِدًا عَلَیۡكُمۡ﴾ هو سيدنا محمد
ﷺ، وهو الشاهِد على الناس يوم القيامة مؤمنهم وكافرهم أنه قد بلّغهم رسالة الله كما أنُزِلت عليه.
﴿كَمَاۤ أَرۡسَلۡنَاۤ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولࣰا﴾ هو سيدنا موسى
عليه السلام، والربط بين الرس
التين المُحمديَّة والموسويَّة ربطٌ مُؤكَّدٌ ومُكرَّرٌ في القرآن، وله أكثر من دلالة؛ أهمها: التشابُه الكبير بين الرسالتَين من حيث الشموليَّة، والتشابُه بين الأُمَّتين من حيث إنَّ الله اختارَ بني إسرائيل لحمل رسالة الله وفضَّلهم على العالمين، ثم استبدل بهم هذه الأُمَّة.
﴿أَخۡذࣰا وَبِیلࣰا﴾ أي: أخذناه أخذًا شديدًا، وفيه تعريضٌ وتهديدٌ لكفار مكّة إن هم استمرُّوا بمعصيتهم لرسول الله
ﷺ، كما استمرَّ فرعون بمعصيته لموسى.
﴿فَكَیۡفَ تَـتَّـقُونَ إِن كَفَرۡتُمۡ یَوۡمࣰا یَجۡعَلُ ٱلۡوِلۡدَ ٰنَ شِیبًا﴾ أي: كيف تتّقون اليوم الذي سيبعَثكم الله فيه للحساب إن بقِيتم على كفركم؟ ثُمَّ وصف شِدَّة ذلك اليوم بأنَّه تشيب منه رؤوس الوِلْدان.
﴿ٱلسَّمَاۤءُ مُنفَطِرُۢ بِهِۦۚ﴾ وصفٌ ثانٍ لذلك اليوم؛ حيث تتشقَّقُ السماء به، وذكَّرَ كلمة
﴿مُنفَطِرُۢ﴾ والعادة أن تُؤنَّث؛ لتناسب لفظ السماء، لكنّه أراد هنا: التنبيه إلى معنى أنّ السماء هي السقف المضروب فوق الأرض، وتشقُّق هذا السقف أقوَى في إحداث الرهبة وتصوير حالة الفزع التي تغشَى الناسَ في ذلك اليوم.
﴿إِنَّ هَـٰذِهِۦ تَذۡكِرَةࣱۖ﴾ أي: هذا التخويف إنّما قُصِدَ به التذكير والاتِّعاظ؛ ولذلك قال بعده:
﴿فَمَن شَاۤءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِیلًا﴾.
﴿۞ إِنَّ رَبَّكَ یَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَیِ ٱلَّیۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَاۤىِٕفَةࣱ مِّنَ ٱلَّذِینَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ یُقَدِّرُ ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَیۡكُمۡۖ﴾ هذه الآية نزلت بعد الآيات الأُوَل بمدةٍ طويلةٍ، وفيها تزكيةٌ لرسول الله
ﷺ أنَّه مُمتثلٌ لأمر ربِّه امتثالًا كاملًا، ثم أثنَت الآية على مجموعةٍ من الصحابة الكرام أنّهم حملوا أنفسهم على قيام الليل اقتداءً به
ﷺ، وتنافسًا فيما بينهم على الطاعات والقُرُبات.
ثم أشارَت الآية إلى التخفيف
﴿عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَیۡكُمۡۖ﴾ أي: لن تقدِروا على ضبط ساعات الليل والاستمرار في المداومة على قيامها بتلك المُدَد المُقدَّرة، وهذا تمهيدٌ لتخفيف هذه العبادة بما تيسَّر منها
﴿فَٱقۡرَءُواْ مَا تَیَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ﴾.
ثمّ بيّنت حكمةً أخرى لهذا التخفيف:
﴿عَلِمَ أَن سَیَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ یَضۡرِبُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ یَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱلـلَّــهِۖ﴾ ويضربون في الأرض أي: يسافرون طلبًا للرزق ونحوه، والتخفيف بحقِّه
ﷺ مفهومٌ لمحل الوجوب، أمّا بالنسبة للصحابة فالصحيح أنَّه تخفيفٌ بمعنى التيسير عليهم فيما تطوّعوا به، وإرشادهم إلى ما فيه خيرهم بالجمع بين هذه العبادة الشريفة وبين الواجبات والمتطلّبات الأخرى، والدليل عليه قوله تعالى:
﴿وَطَاۤىِٕفَةࣱ مِّنَ ٱلَّذِینَ مَعَكَۚ﴾ ولو كان واجبًا لما اختصّت به طائفة، والله أعلم.
﴿فَٱقۡرَءُواْ مَا تَیَسَّرَ مِنۡهُۚ﴾ أي: من القرآن، في صلاة الليل وفي غيرها.
﴿وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنࣰاۚ﴾ شبَّه الصدقة بالقرض الحسن؛ لأنَّ المُتصدِّق ينتظر الثواب على صدقته كالمُقرِض الذي ينتظر الوفاء بقرضه.
﴿وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمُۢ﴾ مع كلِّ ما مرَّ من قيامٍ لليل، وقراءةٍ للقرآن، وصلاةٍ، وزكاةٍ، يُوصِيهم بالاستغفار، وهذا منهجٌ تربويٌّ دقيقٌ يقصد به تربية المسلم على استشعار النقص ولو قدَّم ما قدَّم؛ وذلك لأنّ مقام الله العظيم ونعماءَه الكبيرة على هذا الإنسان لا يُكافئها أيُّ عملٍ مهما بلَغ.
ثم في هذا سدٌّ لثغرات الشيطان في دخول شيءٍ من التكبُّر أو الغرور، وهما من مُفسِدات العمل مهما كان في نفسه شريفًا وعظيمًا، والله المستعان، ونستغفِرُه تعالى ونتوبُ إليه في كلِّ آنٍ ومكانٍ.